.
تتميز الموسيقى بوضعية خاصة بين كل الفنون في فلسفة الفن، بسبب قضية هامة هي التمثيل. إذا قارنّا مقطوعة موسيقى خالصة، بمعنى كونها غير مصحوبة بشعر أو مشهد درامي، وليست ذات برنامج، بلوحة أو تمثال أو رواية أو فيلم، سيبدو لنا فارق أساسي بين الموسيقى من جهة، وبين كل تلك الفنون من جهة أخرى. الفارق أن كل تلك الفنون، عدا الموسيقى، قادرة على تمثيل موضوع معين حاضر في الواقع التجريبي؛ إذ تصوّر اللوحة مشهدًا، أو يُجسّد مجرد تداخل الألوان في اللوحة التجريدية في حد ذاته مشهدًا تحاكيه اللوحة، كما يحاكي كلا الفيلم والرواية قصةً مكونة من مشاهد، يقوم العمل بوصفها ونقلها بوسائله الخاصة. سنجد أن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي لا يتمتع بموضوع خارجي، ولا يحاكي شيئًا محددًا. قد نستطيع تأويل عمل ما من أعمال الموسيقى الخالصة ليدل على معنًى معين، لكننا لن نستطيع أبدًا إثبات أن هذا هو التأويل الوحيد الصحيح للعمل.
برغم الخلافات بين فلاسفة الفن في قضية التمثيل ذاتها، وهل يقوم الفن بمحاكاة موضوع طبيعي أم موضوع ذهني بحت؟ … إلخ، تعلو خصوصية وضعية الموسيقى هنا على هذه الخلافات؛ حيث الموسيقى الخالصة هي أوضح الفنون، التي تظهر فيها خاصية اللا موضوعية، أي العمل الفني الذي لا يتمتع بموضوع معين يمكن نقله باللغة إلى الآخرين. هنا يظهر السؤال: ما الذي نعنيه على نحو الدقة حين نقول إننا فهمنا عملًا موسيقيًا ما، وأن علينا أن نستمع إلى عمل ما عدة مرات قبل أن نَفهمه؟ من خلال تجربة شخصية، ظللتُ أستمع إلى أعمال بيتهوفن لمدة عامين تقريبًا، قبل أن أفهم أسلوبه. كنت وقتها منذ أكثر من عشرين عامًا في بدايات التعاطي مع الموسيقى الكلاسيكية. إذًا، ما الذي فهمتُه، رغم كون تلك الأعمال لا موضوعية؟
لحل هذا السؤال علينا أولًا أن نحسم سؤالًا أسبق: هل تقوم الموسيقى بأي تمثيل أو محاكاة لأي موضوع؟ إذا أثبتنا قدرة الموسيقى على تمثيل موضوع معين، حتى لو كان ذهنيًا تخيليًا صرفًا، فإننا قادرون على وصف ذلك الذي “نفهمه”؛ سيكون ببساطة هو الموضوع الذي يحاكيه أو يمثله العملُ. حول هذا السؤال الأخير انقسمت فلسفة الموسيقى في العالم الغربي إلى تيارين: إشاري Referentialist وإطلاقي Absolutist؛ حيث يقول الإشاري بقدرة الموسيقى على الإشارة إلى موضوع خارجي، غير موسيقيّ، لكن بشكل يختلف عن بقية الفنون التمثيلية، بينما يقول الإطلاقي بأن الموسيقى لا تشير إلى أي موضوع خارج عنها. القسمة نفسها بين تيارين: غير شكلاني وشكلاني؛ إذ يرى التيار غير الشكلاني أن الموسيقى “تعبِّر” عن أفكار وانفعالات معينة، أو “تحاكي” حركة معينة نستطيع رؤيتها في الطبيعة أو أداءَها، أما التيار الشكلاني – في صورته الكلاسيكية على الأقل في القرن التاسع عشر – فيرى أن الموسيقى غير قادرة أصلًا على التعبير عن شيء ما، ولا تملك الإحالة إلا إليها هي نفسها. تربع على عرش التيار الشكلاني في مرحلته الكلاسيكية إدوارد هانسلك (ت ١٩٠٤ م)، الناقد الموسيقي النمسوي، في حين لم يتصدّر التيار غير الشكلاني أحدٌ بعينه؛ فهو تيار “الأمر الواقع”، أي التيار السائد، الذي تمتع بمنظرين ومدافعين كثُر، وواجهَ التيار الشكلاني كخصمه الطبيعي بحجج مضادة.
من الطبيعي أن يتوقع الإنسان بحدسه المباشر أن الموسيقى تنقل إليه انفعالًا ما، أو حركة ما يمكنه تمثيلها بجسده، أو في مجموعة، حتى لو كانت موسيقى خالصة. هنا يأتي الرأي الشكلاني مخالفًا للحدس، ليقول بأن ذلك كله ليس من فعل الموسيقى، بل من أفعال المستمِع، وله حججه على ذلك. إننا نتأثر بالموسيقى ولا ريب، ولهذا نقول إننا نتلقى انفعالًا ما منها، هذا الانفعال هو موضوعها الذي تعبر عنه، وموضوعها الذي أراد الموسيقار نقله. لكن الشكلانية تنكر كل ذلك، وترى أن هذا أصلًا غير ممكن. الموسيقى – طبقًا لهذا الرأي – لا تملك أي قدرة على إثارة انفعال بعينه، لكنها بالفعل تثير انفعالات غير محددة مع كل سامع، ونظرًا لأن هذه الانفعالات غير مقصودة لذاتها، وغير محددة مسبقًا، فيستحيل إذًا القول بأنها “موضوع” العمل؛ وهو كلام منطقي.
لهذا كله، وبما أن الشكلانية هي النزعة المخالفة للحدس، وأننا بطبيعتنا ضدها لأننا نتلقى بالفعل انفعالات حين نستمع، فإن من الأنسب عرض الموقف الشكلاني، وحججه وتطوره ونقده، من أجل التوصل إلى موضوع العمل الموسيقي. لم تبدأ الشكلانية في إرهاصاتها الأولى عند هانسلك، بل صارت قبله الموسيقى بالفعل موضوعًا للتفلسف خارج مجال الفن. يرى فيلسوف الموسيقى المعاصر روجر سكروتن أن شوبنهور (ت ١٨٦٠ م) هو أول من جعل الموسيقى مادةً لاختبار نسقه الفلسفي، بل جعل الموسيقى نسقًا معرفيًا مختلفًا في حد ذاته، وذلك في كتابه الأساسي: العالم إرادةً وتمثلًا. Scruton, Roger, ’German Idealism and the philosophy of music’, The Impact of Idealism- The Legacy of Post-Kantian German Thought, Volume III. Aesthetics and Literature, Cambridge University Press, 2013, p. 175. كانت نقلة جوهرية، ومنطقية كذلك إذا طالعنا تاريخ الموسيقى نفسها قبل شوبنهور. قبل شوبنهور بقليل وقع تحول خطير في طرق التأليف، وطرق التلقّي بالتالي؛ حيث صارت الموسيقى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولأول مرة تقريبًا، لا موضوعية تمامًا. قبل ذلك كانت الموسيقى عادة مصحوبة بشعر، أو رقص، أو مشهد أوبرالي أو مسرحي. صحيح أنه كانت هناك أعمال غير غنائية وغير مسرحية وغير بروجرامية، لكنها كانت قليلة، ولا تحظى بدعم المجتمع الفني، من الرعاة الماديين الأرستقراطيين إلى النقاد، إلى الجمهور في النهاية. لكن مع هايدن وموتسارت ترسخ شكل السيمفونية، وترسخ شكل الكونشرتو، وشتى أعمال الموسيقى الخالصة من رباعيات وصوناتات … إلخ. صار لهذه الأعمال الخالصة جمهور ونقاد ورعاة من الطبقات العليا في المجتمع، فدارت الدائرة، وصارت هذه الأعمال – لما تقابل به من حفاوة واهتمام – توضع بنسبة أكبر وأكثر تطورًا مع الوقت. هذا ما أثبت أهمية الموسيقى الخالصة، وهو سبب عدم الاهتمام النسبي بين كبار الفلاسفة الألمان، ككانط، وهيجل، بالموسيقى؛ فالموسيقى الخالصة في وقتهم لم تكن تطورت إلى ذلك الحد. لهذا رأى بعض الباحثين أن هناك افتراقًا بين فلسفة الموسيقى في مطلع القرن التاسع عشر، وبين الممارسة الموسيقية الفعلية. Bownie, Andrew, ’The Music of German Idealism’, The Impact of Idealism- The Legacy of Post-Kantian German Thought, Volume III. Aesthetics and Literature, Cambridge University Press, 2013, p. 183.
استمر ذلك حتى جاء بيتهوفن فأحدث دويًا بعيد الأثر، لأنه وسّع من الشكل الموسيقي، وتحرر فيه من القيود الشكلية البحتة المنقولة وراثيًا، وأكّد عمليًا أن الموسيقى الخالصة قد تستوعب إمكانيات ذهنية هائلة، وتتطور إلى أبنية شاهقة بالغة التعقيد دون أن تكسر قواعد التأليف الأساسية، وأن تحدِث أثرًا لا شك فيه على النفس. استطاع بيتهوفن أيضًا – في رأي بعض الفلاسفة والنقاد – إعادة توجيه الموسيقى لتصير “لغةً” بشكل ما؛ MADEO is awesome! ما أثار السؤال السابق بحيرة أكبر: لو كانت الموسيقى غير قادرة على الإحالة إلى موقف أو شيء خارجها، فكيف استطاع بيتهوفن تحريك كل تلك الأفئدة؟ السبب في أن بيتهوفن كان نقطة تحول في تاريخ فلسفة الموسيقى أن ما وضع قبله من موسيقى في النصف الثاني للقرن الثامن عشر، وخاصة أعمال أستاذه هايدن، وموتسارت، وسالييري، وجلوك، وشتايبلت، وغيرهم، كان بالفعل أقرب إلى الإحالة الداخلية، أو بعبارة أوضح: كان أقرب إلى أن يكون نموذجًا لتطبيق الشكلانية في صورتها الكلاسيكية، مجرد أبنية هندسية بسيطة، يتم التلاعب فيما بينها، وينتهي العمل. أما أعمال بيتهوفن بعد نضجه الفني، أي حوالي سنة ١٨٠٠ م، فقد تضمنت كما قلنا تعقيدًا أكبر بكثير في البنية، وحركة جدلية، غير دائرية؛ أي أن كل عنصر موسيقي يتكرر – والموسيقى كي تكون موسيقى يجب أن تعتمد على تكرار عنصر صوتي معين – فإنه يتكرر بتغير ما، وإذا تكرر مرة أخرى فإنه يتغير مرة أخرى، وهكذا. نطلق في الفلسفة على مثل هذا التطور اللولبي، الذي يجمع بين نمطي التطور الدائري (الإيقاعي، الذي يتكرر فيه كل شيء كما هو)، والطولي (النثري، الذي لا يتكرر فيه شيء)، اسم النمط الجدلي، أو الديالكتيك (الذي يجمع بين التكرار والتغيُّر). هل يمكن أن يكون كل هذا بلا معنى، أو بلا موضوع؟
هذا هو السبب في أننا لا نجد فلسفة حقيقية للموسيقى، بمعنى فلسفة الموسيقى نفسها كما نجدها في صورتها الناضجة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلا مع شوبنهور، ومَن بعده، أي بعد ازدهار الرومانسية على يد بيتهوفن. وجهة نظر شوبنهور في الموسيقى بسيطة ومعروفة، إذ الموسيقى عنده ليست مجرد فن، بل هي التمثيل / المحاكاة الأوضح، الأكثر مباشرة في حياتنا، لحركة الإرادة. يقصد شوبنهور حركة الإرادة لا الإرادة ذاتها؛ لأن الإرادة المحرِّكة للعالم في فلسفته لا تتجلى في صورة مباشرة بذاتها. Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, erster Band, vermehrte und verbesserte Auflage, Leipzig (Brockhaus) 1844, S. 292. عند شوبنهور يعتبَر اللحن أهم عناصر الموسيقى، حيث يعبٍّر بحركة النغمات على المقام بين سؤال وجواب عن حركة الرغبة والإشباع، التي نمر بها يوميًا. توفيق، سعيد: ميتافيزيقا الفن عند شوبنهور، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط١، ١٩٨٣، ص ٢٤٠-٢٤١. لكننا نلاحظ هنا أن الموسيقى لديه قادرة فعلًا على المحاكاة، لكنها تحاكي موضوعًا واحدًا، هو حركة الإرادة، وأن هذا الموضوع ميتافيزيقي، لا يمكن حصاره تجريبيًا بأي وسيلة، وأن المحاكاة أو التمثيل في الموسيقى له إمكانية واحدة، هي محاكاة نمط الحركة.
من هذا المنطلق يمكن القول بأن شوبنهور كان نقطة تحول، وكان أول الإرهاصات المستفيضة للشكلانية في الموسيقى، برغم قوله بقدرة الموسيقى على التمثيل. لذلك قلنا إنه “إرهاص” بهانسلك، وبالشكلانية. بصفة عامة لا يمكن ربما فهم المثالية الألمانية من خارجها، وإنما عليك أولًا أن تقتنع ببعض المسلمات، وهي هنا مسلمة وجود إرادة حياة عليا تتحكم في التاريخ عند شوبنهور، ويتجلى نمطُ حركتها في الموسيقى. لهذا كله، ولأننا لا نملك الاقتناع حاليًا بمسلمات شوبنهور المذهبية، فإننا سنستبقي من كلامه نقطتين، الأولى إيجابية، والثانية سلبية: ١ِ- تستطيع الموسيقى من حيث المبدأ تمثيل نمطِ حركةٍ ما على الأقل، ٢- ولا تحاكي شيئًا خارجًا عنها؛ فنمط حركة الموسيقى هو الموسيقى نفسها، وإلا صارت ضوضاء. هذا هو الخيط، الذي منه بدأ هانسلك مشروعه النقدي في الموسيقى.
يرى هانسلك باختصار شديد أن الموسيقى لا قدرة لها على تمثيل أي موضوع خارجي، لكن لها قدرة تمثيلية مع ذلك، بيد أنها داخلية. قد حدد هانسلك قدرات الموسيقى التمثيلية في مماثلتين: مماثلة الحركة، ومماثلة الترميز النغمي Analogie der Bewegung und der Symbolik der Töne. من جهة، الموسيقى قادرة على إنتاج نمط حركة يشبه حركة المشاعر، لكن من جهة أخرى كل ما يمكن للموسيقى أن تقدمه بشأن شعور معين هو أن ترمز له، كما نرمز له باللغة، لا أن تستحضره واقعيًا. Hanslick, Eduard, Vom musikalischen Schönen- Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Druck und Verlag von Breitkopf & Hartel, 13.-16. Auflage, Leipzig, 1922, S. 29. يضع ذلك أيدينا على الصخرة الحقيقية، التي افترق عندها نهر فلسفة الموسيقى إلى شكلاني، ولا شكلاني. يرى الشكلاني أن عواطفنا، التي تثار عند الاستماع إلى الموسيقى، مستحضَرة رمزيًا، كما نقول في اللغة “فلان مُطأطئ الرأس، منحني الكتفين، يمشي ببطء، ويرمق اللا شيء”، لينتقل إلينا شعور بالكآبة أو الوحدة أو الهدوء، لكنه شعور مستحضَر عن طريق الرمز. أما الاتجاه اللا شكلاني فيرى أن الانفعال الذي نمر به حين الاستماع انفعال جوهري، بمعنى أن له وجودًا تنقله الموسيقى هو نفسه، لا رمزًا.
خلاصة رأي هانسلك على أية حالٍ هي أن الموسيقى لها القدرة على تمثيل حركة الشعور، لكنها حركة داخلية، يحيل فيها العمل إلى نفسه. بناءً على هذا الرأي، ما نفهمه في الموسيقى هو العلاقات الداخلية في البنية المسموعة، ماذا تكرر؟ وماذا اختلف؟ وما الذي أدى إليه ذلك؟ وعلاقة كل ذلك بنمط حركة مشاعرنا، نمط حركة الشعور، وليس الشعور نفسه، وبالتالي يظل ما نتلقاه من الموسيقى رمزًا لشعور غير محدد. قد يختلف تعبيري عن الفرح مثلًا عن تعبيرك، ولهذا قد نختلف في تأويل الانفعال الناتج عن العمل الموسيقي؛ إذ يُحدث انفعالات غير محددة – بحسب هانسلك – ولا يمكنه نقل شعور ما بعينه، وبكيانه. رغم جهد هانسلك الهائل في البرهنة من كل النواحي على نظريته، لا تفسر لنا هذه النظرية ما نتلقاه خارج بعد الزمان في الموسيقى، مثل الهارموني. الهارموني نظرية تحدد النغمات التي يمكن عزفها معًا في لحظة واحدة، وبالتالي هو بعد تزامني، غير زماني، في الموسيقى. كيف يحاكي الهارموني أي نمط حركة، وهو نفسه غير متحرك؟ السبب في أن نظرية هانسلك قد توقفت عند هذا الحد هو أن هانسلك لم يطرح الأبعاد المكانية في الموسيقى؛ وهي المسألة التي طُرحَت باستفاضة فيما بعد، في مسار فلسفة الموسيقى الصاعد.
في الفلسفة الإنجليزية والأمريكية المعاصرة في القرن العشرين دار الخلاف حول مدى قدرات الموسيقى التمثيلية. صعودًا من هذا الجدل حاول عدة علماء ومفكرين حل هذا الإشكال، وبرزت ثلاثة أسماء هامة في هذا المجال: أولها روبرت مورجان Robert P. Morgan، أستاذ نظرية الموسيقى في جامعة يِيل، الذي بحث لأول مرة باستفاضة مفهوم المكان في الموسيقى، بعد أن ظلت الموسيقى تُبحَث من جهة كونها فنًا زمانيًا على الأصالة، حتى قال عنها أحد أكابر موسيقيي القرن العشرين إيجور سترافنسكي (ت ١٩٧١ م) إنها “مجرد نظام للزمن Chronomy”. Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons, trans. Arthur Knodel and Ingolf Dahl, Harvard University Press, Cambridge, 1947, 1947, p. 28. على خلاف ذلك يرى مورجان أن المكان في الموسيقى لا ينفصل عن الزمان؛ فمفهوم النسيج الهارموني في الموسيقى مفهوم مكاني، لأنه يعبر عن الأحداث المتزامنة في لحظة ما من العمل. Morgan, Robert P., ’Musical Time/Musical Space’, Critical Inquiry, Vol. 6, No. 3 (Spring, 1980), pp. 527-538.
نستخلص من كلام مورجان أن المكان في الموسيقى يتواجد على ثلاث صوَر:١- مكان الآلات العازفة في الأوركسترا، ٢- مكان العنصر الموسيقي الذي نتتبعه في المدونة الموسيقية، ٣- وأخيرًا مفهوم المكان الناجم عن النسيج الهارموني. رأى مورجان أن محاولة تأليف عمل موسيقيّ بلا مكان على الإطلاق، على أي من المستويات الثلاثة السابقة، سيؤدي به إلى أن يكون عملًا فنيًا، لكنه غير موسيقيّ، كمحاولات جون كيدج. أهمية جهد مورجان في هذه النقطة أنه دعمَ الاتجاه الشكلاني بتركيزه على العناصر البنائية الأساسية، وكيف تصطف في الزمان، والمكان، وأدرج بعد المكان الغائب من نظرية هانسلك في الخبرة الموسيقية، واستطاع على الأقل أن يضع أيدينا على مشكلة أساسية في الشكلانية، ألا وهي الهارموني.
ثاني هذه الأسماء هو الموسيقار والفيلسوف الأمريكي ليونارد ماير (ت ٢٠٠٧ م)، الذي أوضح في كتابه العاطفة والمعنى في الموسيقى أن الموسيقى تُحاكي بالفعل حركة مجردة، لكنها تستحضر الانفعالات كذلك، بطريقة التوقع. إذا كان المعنى بشكل عام “هو ارتباط أو إحالة من شيء إلى شيء يخالفه في الهوية، على أساس عنصر مشترك، مادي أو بنائي أو حركي، أو مجرد نمط” Cohen, Morris R., A Preface to Logic, Oxford & IBH Publishing Co., 1960, p. 60. ، فإن للموسيقى معنًى بقدر ما تحيل إلى ما هو خارج عنها. ما هو خارج عنها في هذه الحالة هو توقعاتنا بصدد “ما ستصير إليه العناصر الموسيقية بعد قليل”. Meyer, Leonard B., Emotion and Meaning in Music, the University of Chicago Press, 1956, pp. 33-38. تختلف هذه التوقعات من مستمع إلى آخر بحسب مدى خبرته بالموسيقى من جهة، ومدى خبرته بأسلوب المؤلف الذي يستمع إليه من جهة أخرى. يحدد ماير ثلاثة مراحل للمعنى في الموسيقى: MADEO is awesome! ١- المعنى الافتراضي hypothetical، ويتعلق بالتوقعات المحتمَلة دون ترجيح، ٢- والمعنى الواضح evident، ويتعلق بتوقعاتنا الراجحة بناءً على ما اختبرناه بعد الاستماع من المعنى الافتراضي، ٣- وأخيرًا المعنى المحدد determinate، وهو معلومة مؤكَّدة بعد الانتهاء من الاستماع إلى العمل. المعنى إذًا مبنيّ على العلاقات التي تستنتجها بعد اختبار كل من المعنيين الافتراضي، والواضح، وهو بهذا ينشأ حين تكتمل خبرتنا بالعمل الموسيقي في سياق لا-زماني؛ أي حين نتأمل تلك العلاقات هندسيًا في ذاكرتنا، وهي واضحة في لحظة واحدة. يطبق ماير هنا نظرية المعلومات، القائلة بأن المعلومة هي الخبر الجديد؛ فالخبر القديم لا معلومة فيه. لهذا أمكن له تفسير متعتنا بالموسيقى بناءً على التلاعب الذي يحدث أمامنا بين ما نتوقعه (احتمال معلومة)، وما يقع (معلومة). لكن هذه النظرية – مثل نظرية هانسلك – وقعت في مشكلة جديدة، هي مشكلة إعادة الاستماع، وهي مشكلة مهمة في فلسفة الموسيقى، وتقوم على السؤال التالي: كيف – بناءً على ماير – نستمتع بالعمل الذي سمعناه مرارًا من قبل، ونحفظه عن ظهر قلب؟
أما ثالث هذه الأسماء فهو بيتر كَيْفِي أستاذ الموسيقى والفلسفة الأمريكي (ت ٢٠١٧ م) الذي حاول حل مشكلتَي الهارموني عند هانسلك، وإعادة الاستماع عند ماير. يستفيد كيفي من جهود ماير في الاعتماد على نتائج علم النفس الحديث في دراسة ظاهرة الموسيقى، ويطبق نظرية المعلومات بدوره: فأي عمل فني يتضمن من العناصر ما هو متدرِّج بين ما هو متوقع تمامًا ومعروف (لا معلومة فيه)، وبين ما هو مستبعَد تمامًا من التوقع (معلومة جديدة تمامًا). تتدرج بالتالي قيمة المعلومات التي يحملها العمل: من الأقل أهمية، وهو المتوقع بدرجة كبيرة، إلى الأكثر أهمية، وهو ما لا نتوقعه. Kivy, Peter, Introduction to a Philosophy of Music, Clarendon Press, Oxford, 2002, pp. 71-73. أيضًا، حين نستمع إلى الموسيقى لا نبدأ السماع بصفحة بيضاء، بل نبدأ بطبيعة الحال بتوقعات معينة، استقيناها من خبرتنا بالموسيقى (مثلًا أول حركات السيمفونية عادةً في صيغة الصوناتا)، ومن خبرتنا بالمؤلف نفسه (هذا المؤلف على التحديد يختصر مثلًا في قسم الإنماء من صيغة الصوناتا)، ونقارن بين ما نتوقعه من جهة، وما يقع من جهة أخرى، ونستمتع بهذا التلاعب بالألغاز العقلية البحتة. أما العمل الي استمعنا إليه مرارًا، فكيف يحمل معلومات لنا، ونحن قد حفظناه كاملًا؟ يحل كيفي مشكلة إعادة الاستماع بأن المستمتع ليست له في الأغلب هذه الذاكرة الفوتوجرافية، وأنه ينتبه إلى التفاصيل الجديدة حين يعيد السماع كل مرة. هذه التفاصيل الجديدة للأحداث هي المعنَى الذي يخرج به السامع من إعادة الاستماع. المصدر السابق، ص ٧٦ و٧٧.
لكن كيفي كذلك لا يقدم الشكلانية في صورتها الكلاسيكية التي رأيناها مع هانسلك، بل يقدم ما يدعوه فيليب ألبرسون بـ الشكلانية المحسَّنَة Enhanced Formalism، التي تقوم على أن الشكل وحده في الموسيقى (ومن هنا الشكلانية) هو العامل الأساسي في التأثير أيًا كان، ومع ذلك فالشكل له القدرة على تمثيل حَدَث ما، أو قصة ما، وليس تلاعبًا عقليًا بحتًا (ومن هنا كونها محسَّنة). يستطيع الشكل – بحسب كيفي – محاكاة نمط حركة حدث ما. يرى كيفي أن الموسيقى الخالصة تنقل لنا كذلك قصة حياة الجملة اللحنية، حيث اللحن الكامل في الموسيقى الخالصة ضمني وغير صريح، ونحن نستمع إلى قصة نشأة اللحن وتطوراته، وما آل إليه في النهاية، بشكل استكشافي؛ لأن اللحن نفسه ضمني كما قلنا. المصدر السابق، ص ٧٨. هذه القصة هي العنصر الأدبي في الموسيقى عند كيفي، الذي يمكن لنا نقله باللغة، هي الحبكة الموسيقية. يطلق كيفي على هذه العملية اسم البحث عن الموضوع cherché le thème. المصدر السابق. بوضوح يقول كيفي إنَّ “ما نفهمه في الموسيقى هو الأحداث الموسيقية نفسها.” المصدر السابق، ص ٨٠.
يطرح كيفي أيضًا سؤال الهارموني: الهارموني عنصر غير زماني، فكيف يحمل قصة؟ يجد كيفي أن حتى الهارموني، الذي يقع في لحظة زمنية واحدة، له قصة؛ فهو قصة اجتماع هذه النغمات تحديدًا في هذا الموضع، وهذا في حد ذاته حدَث. المصدر السابق، ص ٤٣ و٤٤. بهذا استطاع كيفي حل مشكلتي الهارموني، وإعادة الاستماع. يمكن تلخيص رأي كيفي في أن الموسيقى قادرة فعلًا على إثارة انفعالات، ونقل عواطف معينة، لكنها كلها خواصّ للبنية الموسيقية للحبكة الموسيقية، وليست مشارًا إليه referent خارجًا عنها. المصدر السابق، ص ٩٩ و١٠٠.
في ختام هذا العرض يمكن لنا الوقوف على أهم محطات تطور قضية المعنى في الموسيقى وصولًا إلى هذا المعنى. لقد وقفت كل نظرية عند حدود معينة أقل من مداها الممكن، وخاض البعض الآخر من النظريات فيما وراء حدوده. توقف شوبنهور عند حدود مذهبه، وقام بتأويل الموسيقى اعتمادًا على مسلماته، لكنه لم يبحث الموسيقى بحثًا أصيلًا ينطلق من نقطة الشك المطلَق. هذه هي مشكلة نظرية شوبنهور في الموسيقى. أما نظرية هانسلك فقد توقفت عند حدود الهارموني، ولم تستطع تفسيره في ضوء الاعتقاد في أن الموسيقى لا تقدم سوى نمط حركة فارغ من الدلالة، وكان السبب في هذا التوقف أن هانسلك لم يطرح بُعد المكان في الموسيقى كما أشرنا. أما نظرية كيفي المبنية على جهود ماير السابقة فقد انجرفتْ إلى حد التأكيد على أن الموسيقى يمكنها نقل مشاعر محددة كخواصّ بنائية، رغم أن التجربة لا تؤكد ذلك، وربما تكذبه.
المشكلة في معنى الموسيقى، أو عدم فهمها، نابعة من أمرين: ١- قلة الخبرة بالشكل والأسلوب عند المستمع، ٢- وتعدد التأويلات وتنوع المشاعر عند المستمعين المختلفين بصدد العمل الواحد. بالنسبة إلى المستمع غير الخبير بالشكل والصيغة والحد الأدنى من نظرية الموسيقى، سيبدو له العمل الموسيقي الخالص، كالسيمفونية مثلًا، أصواتًا متداخلة، زاعقة، بلا هدف. لكننا نلاحظ بالتجربة المباشرة أنه كلما زادت خبرة المستمع النظرية بالشكل والأسلوب، كلما ارتفعت درجة متعته بالعمل، وصار يقول أنه “فهمه”. لكن ما هذا الذي فهمه؟ هنا نستعين بنظرية المعلومات: تخلق خبرة المستمع السابقة له توقعات معينة، يوافقها العمل أحيانًا، ويخالفها أحيانًا أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يفضّل بعض المستمعين الموسيقى المتوقعة (موتسارت مثلًا)، ويفضّل البعض الآخر غير المتوقعة (بيتهوفن مثلًا). أما ما تتعلق به تلك التوقعات، المتحققة أو المحبَطة، فهو جسم اللحن (البحث عن التيمة عند كيفي)، والحبكة الموسيقية سالفة الذكر. إن ما فهمه المتلقي هو ما يكتشفه في الموسيقى؛ ويتطلب الاكتشاف معنى “المعلومة الجديدة”.
كما أن تعدد التأويلات والمشاعر كذلك حقيقة نتحقق منها بالتجربة: فحين نستمع إلى الحركة الأولى من سيمفونية بيتهوفن التاسعة مثلًا، نقوم بتأويل معين للأحداث الموسيقية، والحبكة، لكنه سيختلف أحيانًا كثيرة من متلقٍ لآخَر، إذا تطرقنا إلى التفاصيل. هي أولًا ليست على صيغة الصوناتا التقليدية، ولا يمكننا أن نجد فيها جملة لحنية واضحة واحدة، وبدايتها أقرب إلى دوزنة، حركة ضبط للأوركسترا، وليس جملة أو تآلفًا معينًا، كما اعتدنا من بيتهوفن في السابق … إلخ؛ وهذا ما يفتح المجال لتعدد التأويلات بصدد الشكل وحده. حتى البنية العامة لهذه الحركة لا تحقق حد الاتفاق المطلوب، كي نعتبرها بنية موضوعية لا ذاتية: فقد نراها ذات حبكة رئيسة مع إعادة العرض المعزوفة بالأوركسترا ككل، وقد نراها تعددًا من الحبكات، كلها تنتهي نفس النهاية … إلخ. أما بصدد ما يثيره فينا هذا العمل من مشاعر فهي أكثر تناقضًا. قد يراها البعض موسيقى مقبضة، تعبر عن الأزمة التي ننتظر منها الخلاصَ، وقد يراها البعض الآخَر موسيقى مفعمة بالحيوية والشجاعة، وربما الهدوء والتأمل.
إن خاصية الموسيقى الأساسية هي صلاحية نظامها الحركي للتطبيق على مواقف كثيرة، وبالغة التنوع إلى حد التناقض، وسبب ذلك أنها نمط حركي مجرد، مجرد حتى من المتحرك، وهو ما نفهمه من الموسيقى، وهو لا يحدث بالضرورة من باب المحاكاة، أو التمثيل؛ إذ كل من المحاكاة والتمثيل يتطلب بالضرورة خاصيةً مميِّزة لموضوع المحاكاة أو التمثيل. لكن الموسيقى – بخلاف ذلك – تقدم نمطَ حركة تجريديًا، لا ينطبق على موقف معين مثلًا دون غيره، أو أكثر من غيره. لا يمكن كذلك في رأيي وصف الموسيقى الخالصة بأنها فن تمثيلي ولو بشكل خاصّ، فالموضوع الوحيد القابل للتمثيل فيها هو نمطها الحركي المجرد، لكنه دائمًا متطوِّر، إبداعي، لا نتلقاه كما نتلقى موضوع اللوحة فنشير إليه في الواقع، بل هو عملية أكثر منه شيء، هو حالة تغيُّرٍ مستمرة، وبما هي تغيُّرٌ مستمرٌ لا يمكن أن تحاكي شيئًا ثابتًا. ربما لم يصب فلاسفة الموسيقى حين خلطوا بين الفهم وبين الاستمتاع؛ فالفهم يتحقق كمعلومة، أما الاستمتاع فمسألة منفصلة، ولها من العوامل كثرة تفسرها. نحن قد نستمتع بالمقارنة بين توقعاتنا، وبين ما يقع فعلًا في العمل، وهذا قد يتطلب الفهم أولًا، لكنه ليس قاصرًا عليه. فهم العمل ليس ضرورة للاستمتاع، لكنه ذو ارتباط مع ذلك به. إن زيادة الفهم تزيد المتعة، لكننا قد نستمتع بعمل من أعمال الموسيقى الخالصة بسبب شهرته، أو بسبب قصة تأليفه، أو لأننا نحب فيه لحنًا معينًا … إلخ، وذلك دون أن نفهم نمط الحركة الذي يقدمه العمل على الإطلاق. أيضًا، كثيرًا ما نجد في الخبرة المباشرة من يستمتعون بأعمال موسيقى الآلات الكلاسيكية دون أية خبرة بنظرية الموسيقى، ولا بأسلوب المؤلف، ولا بالشكل الذي يستمعون إليه.
لكن إذا كان كل ما نتلقاه من الموسيقى الخالصة هو نمط حركة، فكيف إذًا نفسر الهارموني؟ وكيف نفسر التشابه أحيانًا في خبرات المستمعين المختلفين، من قارات مختلفة، وأزمنة متباينة، بصدد العمل الواحد؟ في رأيي الهارموني عنصر أصيل في نمط الحركة؛ حتى لو خلا هو نفسه من الحركة. الهارموني حدَثُ التوقف عن الحركة، والتوقف عن الحدثِ حدثٌ في حد ذاته. أما محاولة كيفي لتأويل الهارموني باعتباره لحظة درامية فهو تأويل ممكن، لكنه غير مبرهَن، ولا مختبَر بما فيه الكفاية. كما يستطيع الهارموني نقل شعور ما: التآلف الكبير مثلًا مفرِح، والصغير مقبِض. لكن مثل هذه المشاعر عامة جدًا غير محددة، كما إنها تَكتسب معناها في سياق العمل. قد نقول إن الموسيقى يمكن لها نقل شعور ما، لكنه سيظل شعورًا غير محدد، وغير متنوع تنوع مشاعرنا الكبير، ولن نجد رابطة سببية محددة بين العمل وبين مشاعرنا أثناء تلقيه، أو بعده. قد نجد مثلًا أن موسيقى المارش تنقل لنا جميعًا شعورًا بالتحفّز، والرصانة والنظام، أو أن افتتاح سيمفونية بيتهوفن التاسعة افتتاح مسرحي ينقل لنا شعور الفخامة والجلال والترقُّب، وقد نجد كثيرًا على هذه الشاكلة من الأمثلة، لكن كل ذلك – كما يرى أحد نقاد الشكلانية المحسنة نِك زانجويل Nick Zangwill – ليس استماعًا إلى موسيقى خالصة بل تمثيلية؛ حيث تقترن موسيقى المارش في وعينا على الفور بالمارش الحقيقي، والافتتاح المسرحي بافتتاحية الأوبرا أو المسرحية، Zangwill, Nick, ’Against Emotion: Hanslick Was Right About Music’, The British Journal of Aesthetics, Volume 44, Issue 1, January 2004, Pages 29–43. وهي حجة وجيهة. تتدخل كثير من العوامل الثقافية لتصوغ لنا التأويل الشامل للعمل، عن طريق ارتباطات هذا النوع من الموسيقى، أو هذه الصيغة، أو المعالجة، بحدث واقعي ما.
https://youtu.be/SAOf46CXaaw
إذًا تصطدم الشكلانية المحسنة بحقيقة اختلاف المشاعر، واختلاف التأويلات. لكن ما الثابت إذًا في الموسيقى، الذي نتلقاه جميعًا بصورة واحدة، والذي يحمل معنى الموسيقى؟ لا ثابت في الموسيقى غير بنيانها الرياضي-الهندسي نفسه. يمكنني نظريًا وعمليًا أن أبرهن لك – في حدود معينة لكنها كافية – أن هذا اللحن في بداية الحركة السيمفونية لا يكتمل إلا في نهايتها، أو أنه يتكرر بتنويعات معينة، أو أنه لا يُستعاد بعد ذلك بصورته الأصلية أبدًا، وغير ذلك من تفاصيل شكلية بحتة تتعلق بالبناء العام للحركة، وتتعلق كذلك بالحبكة الموسيقية. لكنني لا أستطيع، نظريًا أو عمليًا، على الإطلاق، البرهنة على أن هذا العمل بالذات يحمل ذلك الشعور بعينه. إن الموسيقى الخالصة ليست فقط خالصة من أي موضوع خارجي، كالشعر، أو الرقص، أو المشهد، لكنها – كما يمكننا من تأويل المعنى الاشتقاقي – “خالصة من المادة”، وتقدم لنا صيرورة نقية. إنها تُنتج لنا تصورًا عن المكان، لكنه ليس أساسيًا فيها، فهو مكان وحيد البعد، مجرد وقوع متزامن لأحداث موسيقية معينة، مجرد التزامن ذاته، لحظة توقف الزمان؛ ولحظة توقف الزمان جزء منه، وإلا لما أدركناه، كما أن الصمت له دلالة عند الكلام.