.
إلى العزيز محمد بوغلاب، في سجنه، لأنه كان مصدرًا أساسيًا لكتابة هذه المقالة. متمنيًا أن يكون صوت فيروز عزاءً له في وحدته المؤقتة، لأن “الحبس كذاب والحيّ يروح.”
على حافة الضوء والظلمة، نزلت فيروز، التي بالكاد قد بلغت الثلاثين في مطار تونس يرافقها بضع رجالٍ ونساء هم أعضاء فرقتها. المطار بسيط. مهبط إسفلتي مفتوح على عراء موحشّ. أما الجو فكان عاصفًا، على مشارف كانون الأول ١٩٦٨. لا جموع في المطار وحوله، سوى حفنة من الشباب المشرف على الحفل واقفين في ردهةٍ صالة الوصول.
نحو مجهولٍ تدخل الفتاة ملتحفةً في ثوبٍ أبيض شفاف، تظهر منه خصلاتٍ من شعرها الداكن، الذي اختفى بعضه فوق بعض. لا يومئ المجهول عبثًا، فقد كان ذلك الحفل أول الوصل مع تونس.
في العتمة نزلت فيروز مرةً أخرى، في المطار نفسه بعد ثلاث عقودٍ. كانت قد تركت عقدها السادس وراءً؛ وفيما كان باب الطائرة يهمُ بأن ينفتحّ غمر الضوء المكان. كان المئات أسفل الدرج ينتظرون. تحول العراء الموحش الذي كان في الأفق إلى ضجيج وكتلةٍ هائلةً من المباني على مد النظرّ، وأما الجو فكان لطيفًا؛ كما هو لطف خريف تونس دائمًا: مترنحًا بين حرٍ خفيف وبردٍ أشد خفةً، وبعضٍ من رذاذ السماء.
ما بين المشهدين ثلاث عقودٍ من الغياب، وهوس تونسي بفيروز، صار متوارثًا، وليس كل ذوقٍ موروثٍ، ذوق مستعار بالضرورة. ربما كان في حال فيروز من الشاذ الذي يحفظ ولا يقاس عليه. حاول خلالهما كلًا من رئيسي نظام الحزب الواحد، أن يستغل صوت فيروز، وحضورها وموقعها في القلوب، لخدمة صورته وتوطيد دعائم حكمه، ولو بطريقة لا تبدو واضحةً.
اللافت أن فيروز لم تكن يومًا في تونس محل مقارنةٍ – كما يبدو سائدًا في أماكن أخرى من عالمنا العربي – مع أم كلثوم أو أي فنانة أو فنان عربي. نسيج لوحدها.
ذهب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إلى المشرق عام ١٩٦٥، لينتحر سياسيًا. وقف في مخيم للاجئين الفلسطينيين في مدينة أريحا، وألقى كلمةً قال في خلاصتها إن على العرب الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها. ثارت عواصم الشرق من القاهرة إلى بغداد، مرورًا بدمشق وعمان وبيروت، ضده.
أحرقت السفارات التونسية ومُزقت صوره في الشوارع ونالت منه الحناجر وقبضات اليد، شتمًا وتقريعًا. في محطته اللبنانية، حاول الرئيس شارل حلو التخفيف من مصاب ضيفه المعنوي. قبل قدومه بيروت، كان بورقيبة قد أسرَ لمضيفه بأنه يريد سماع فيروز. أبلغت الرئاسية اللبنانية الأخوين رحباني، وانتهى الاتفاق إلى حفلٍ يقام على شرف الضيف في مسرح التياترو الكبير. ثم قررت السلطات نقل الحفل إلى مسرح فينيسيا.
رفض الأخوان رحباني لأسباب فنية تتعلق بطبيعة مسرح فينيسيا، غير الملائم لطبيعة حفلاتهم. بحسب عاصي الرحباني: “طلبنا مكانًا آخر. لم نلق آذانًا صاغية، وكان ذلك إيذانًا ببدء الأزمة، ووضعتنا الحكومة في مأزق، حاولنا التخلص منه بأن طلبنا مسرح اليونسكو فقيل لنا: غير جاهز. قلنا: بيت الدين، فقيل: بعيد. قلنا: هاتوا أي مكان معقول، فقيل: دبروها على العشاء. وهنا أدركنا أن اهتمام الحكومة بالفن سطحي، وسيان عندها إذا قدم هذا الفن بشكل لائق، أو بشكل يسيء إلى الفن ولبنان معًا.”
رفض الأخوان رحباني أن تغني فيروز على العشاء؛ ورغم محاولات الرئاسة اللبنانية تفادي الحرجّ، بإقامةٍ حفلٍ يضم صباح و نجاح سلام ووديع الصافي وسميرة توفيق، إلا أن بورقيبة اعتذر عن تلبية الدعوة. بعد هذه الأزمة الدبلوماسية الفنية، غابت أغاني فيروز عن الإذاعة اللبنانية زمنًا.
كان الشائع أن رئيس الحكومة حسين العويني أصدر قرارًا شفهيًا بمنع إذاعة أغانيها، لكن العويني أنكر ذلك، معيدًا الأمر إلى وزارة الأنباء، مع أنه أنكر على فيروز والأخوين الرحباني صنيعهم، واصفًا إياه بعدم اللياقة. تجاوزت الأزمة حدود لبنان وأدت إلى إغضاب الرئيس بورقيبة فمنع – كما ينقل جورج طراد – طوال سنتين إذاعة أغاني فيروز في الإذاعة التونسية.
ربما كانت أسباب الحكومة اللبنانية متعلقةً بالهواجس الأمنية التي رافقت جولة بورقيبة المشرقية، وما خلفه خطابه في أريحا من غضب شعبي. فقد حكت، جليلة حفصية، الصحافية التونسية التي رافقت الرئيس في رحلته، أن بورقيبة كاد أن يُقتل في لبنان، لولا تدخل أجهزة الأمن. مشيرةً إلى أن فيروز زارت بورقيبة في مقره بدارة رياض الصلحّ، وقالت له أنت الرجل الوحيد الذي أعطيت المرأة حقوقها.
ربما كانت هذه الواقعة، هي ما دفع فيروز والأخوين الرحباني لتلبية الدعوة لإقامة حفلٍ في تونس نهاية عام ١٩٦٨، بعد جولةٍ طويلةٍ في الجزائر، شملت مدن وهران وعنابة والجزائر العاصمة.
كان ذلك العام في تونس حافلًا بالنجوم. غنت فيه أم كلثوم، في حفلٍ تاريخي مازال صداه قويًا، وغنى خلاله عبد الحليم حافظ لأول مرةٍ في البلاد؛ ثم جاءت فيروز لتختم العام وتُجسر الروابط التي قطعتها أزمة بورقيبة مع تونس. في أعقاب هزيمة حزيران، زاد الترابط بين تونس والمشرق العربي قوةً. جسرتّ الهزيمة، الهوة بين تونس البورقيبية التي أرادت باكرًا الجنوح غربًا، وبين مشرقٍ قادته القومية الصاخبة بلا عِقالٍ نحو المجهول. في الوقت نفسه كان بورقيبة يريد استغلال الهزيمة ليبدو ذلك الرجل الذي كان على صوابٍ وعصاه أبناء قومه، كالأنبياء.
لكن بورقيبة ونظامه لم يكونا في أحسن أحوالهما. قبل شهور كان الرئيس طريح الفراش بسبب أزمة قلبية حادةٍ، وفي ربيع العام نفسه خرجت أولى حركات الرفض لحكمه المطلق والأبوي من الجامعات. كانت تونس عام ١٩٦٨ تعيش مخاضًا صعبًا، وسط أزمةٍ اقتصادية واجتماعية بسبب فشل أو إفشال الاشتراكية الدستورية، بقيادة الوزير أحمد بن صالح.
كانت البلاد مسرحًا لعملية قمع واسعة طالت الحركة الطلابية اليسارية، انتهت بوضع المئات من قياداتها في السجون لسنواتٍ طويلةٍ. كما كان النظام يبحث عن قواعد جديدة لضبط السكان، وقد وجد في دعوة كبار النجوم حلًا لتهدئة النفوس وصرف الشباب عن ميادين الاحتجاج.
رغم هذا الجو المشحون، وأزمة النظام والمجتمع، غنتّ فيروز مرتين، ليلة العشرين والحادي والعشرين من كانون الأول / ديسمبر ١٩٦٨، في القاعة الفسيحة بقصر الرياضة بالمنزه، يرافقها نصري شمس الدين، وبضعٍ وستين راقصًا وراقصةً.
قدمت فيروز لأول مرة أغنيتها التي كتب كلماتها ولحنها الأخوان رحباني خصيصًا للحفل: “إليك من لبنان أغنية صديقة / يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان.” كما قدمت أغنية “غنيتُ مكةَ أهلها الصِّيدا / والعيدُ يملأ أضلُعي عِيدا”، من كلمات سعيد عقل وألحان الأخوين الرحباني، لتزامن أعياد الميلاد مع عيد الفطر في تلك الأيام، وأغنية زهرة المدائن، وجراح الهزيمة مازالت مفتوحة حتى ذلك الوقت.
لكن الحفلات العظيمة لفيروز وأم كلثوم وعبد الحليم، لم تحقق هدفها السياسي المتواري. فقطار انحدار النظام، الذي انطلق من صحوة الطلاب، لم يتوقف، حاملًا في طريقه فئاتٍ وطبقاتٍ جديدةٍ، خرجت من دائرة الموالاة إلى معسكر الرفضّ. فقد كانت السبعينات اللاحقة، عشرية تفكك عرى النظام، الطلابية والنقابية والسياسية، عروةَ عروةَ.
بعد ثلاثين عامًا قررت فيروز العودة إلى تونس. كانت صفحة بورقيبة قد طويت قبل ذلك بعشر سنوات. واستقر خليفته الجنرال بن علي رئيسًا مطلقًا كسلفه، أو أشدّ. كان مستدار التسعينات ذروة حكم بن عليّ. عجّت السجون بنزلائها السياسيين، وعوائل الرئيس وأصهاره يزحفون من بعيد نحو السلطة والثروة، والمجتمع راكدُ، تحت سطوة الخوف والملل واللامبالاة. بدأت فكرة الحفل من مراد سعيد، منظم حفلات النجوم وصديقه رجل الأعمال، الحبيب الحفصي، اللذان عرضا على وزراة الثقافة دعوة فيروز للغناء في تونس. لكن الوزارة لم تأخذ مقترحهما محمل الجدّ، فعرضوا المقترح على كمال الحاج ساسي، وزير الدولة، المشرف على الصندوق الوطني للتضامن، المعروف في تونس بصندوق ٢٦- ٢٦، مقابل أن يكون ريع الحفل للصندوق.
وصل ساسي أصحاب المقترح برئاسة الجمهورية، التي رأت في الفكرة فرصةً دعائية، بعد أن أقنع الحاج ساسي الرئيس بن عليّ بأن الحفل سيكون تاريخيًا في عهده، كما جرى في عهد بورقيبة. كان صندوق التضامن، أحد الأسس الدعائية في عهد ين عليّ، بوصفه الرئيس الحاني على الضعفاء والفقراء والطبقات الشعبية، وكانت الدولة تنظم حفلات ضخمة لتنمية ريع الصندوق، تأتي فيها ينجومٍ من كل العالم مثل مايكل جاكسون وجورج وسوف وكاظم الساهر.
قبل الحفل ضجت البلاد بالصور واللافتات الإعلانية الكبيرة. في بلدتنا البعيدة جنوب البلاد، كانت تصلنا أصداء الحفل في الجرائد. كتبت جريدة الصباح في الأول من تشرين الثاني / نوفمبر: “ستصل فيروز قادمةً من بيروت يوم ١٠ نوفمبر، وستجري أيام ١١ و١٢ و١٣ نوفمبر بروفات مع عناصر فرقتها (…) كما اجتمع وزير الدولة، المكلف بصندوق التضامن مع جميع الهيئات المشاركة في التحضير لهذا الحدث السعيد، وأكد على ضرورة اتخاذ جميع الإجراءات من أجل إنجاح الحفل.”
كنا في جهات البلاد البعيدة نحسد أهل العاصمة على هذه الفرصة التاريخية، ونمني النفس بأن يبث التلفزيون الرسمي الحفل على الهواء. لكن شيئًا من ذلك لم يحدثّ. حتى أنني سألت أصدقائي الذين كانوا هناك فجاءت شهادتهم متابينةً، كُلٌّ حسب الموقع الذي جلس فيه وشاهد الحفل.
من جلسوا وراءً ودفعوا مقابل بطاقات الدرجة الثانية والثالثة قالوا إن الصوت لم يكن واضحًا، والفوضى تعمّ المكان. أمام الذين جلسوا في المقدمة فقد راق لهم الحفلّ، وغير بعيدٍ عنهم قد جلست زوجة الرئيس القوية، ليلى الطرابلسي ولفيف من عائلتها.
يقول الصديق محمد المعمري، الذي كان طالبًا في ذلك الوقت، ثم صار صحفيًا : “لقد حضرت الحفل، وكنت وللأسف من جماعة بطاقات الــ ٢٥ دينارًا. كان المسرح بعيدًا جدًا، خاصة أن الكراسي وضعت بشكل سيئ جدًا، فالمكان ليس مسرحًا مُدرّجًا يمَكّن البعيد من الرؤية، لكنه صالة قصر المعارض المستوية. لكن ما علق بذاكرتي، مشهد طالب وطالبة، يتعانقان ويشرعان فى البكاء بشكل هستيري، فيما كانت فيروز تغني.”
غنتّ فيروز أمام ثلاثة عشر ألف متفرجًا، على مدى ساعتين، بينهما استراحة قصيرة. قدمت خلالها أغانٍ مثل حبيتك ونسم علينا الهوى وعصفور الجناين ونحنا والقمر جيران وع هدير البوسطة ويا شاويش الكركون، وأغنية كيفك إنت، من كلمات وألحان ابنها زياد. ثم ختمت بــ زوروني كل سنة مرة، وحين همت بالمغادرة عادت سريعًا وسط إلحاح الجمهور والتصفيق الذي لم ينقطعّ.
بدأ فصلٌ آخر من حكاية الحفل بعد نهايته. وصل كمال الحاج ساسي، وزير الدولة والمشرف على الحفلّ، إلى بيته عند ساعات الصباح الأولى، وما إن دخل غرفته حتى جاءه اتصال من القصر الرئاسي. كان محسن رحيم من المراسم على الخط، يعلمه بأن الرئيس يريد استقبال فيروز في القصر عند العاشرة صباحًا.
كما يروي ساسي – لزميلنا المعتقل محمد بوغلاب في شهادته – فقد خرج مباشرةً نحو فندق أبو نواس، حيث تقيم فيروز، في محاولةٍ للتواصل معها بشأن دعوة الرئيس. في صالة الاستقبال الفسيحة، وجد ساسي ريما الرحباني، ابنة فيروز، فسألها عن والدتها فقالت إنها في غرفتها، وتستعد للذهاب إلى المطار، لأن طائرتها ستقلع عند الساعة الحادية عشر.
بينما كان الوزير يتحدث مع ريما بدت فيروز من بعيد في ملابس السفر. هرع الوزير نحوها وقال لها إن الرئيس يريد لقائك. اعتذرت بلباقةٍ وقالت إنها “لا تريد أن تزعج الرئيس صباح إجازته الأسبوعية.” لكن الوزير ما لبث أن وضعها مع حقيبة السفر في سيارته، وسلك الطريق نحو قصر قرطاج.
في مطار تونس، أرجأت السلطات إقلاع الطائرة نحو بيروت لساعتين، وعلى باب القصر كان بن علي ينتظر ضيفته؛ وقد أسرً لها بأنه يسمع أغانيها كل صباحٍ. ثم منحها وسام الاستحقاق الوطني في قطاع الثقافة من أرفع درجة وذلك “تقديرًا لمسيرتها الفنية الطويلة ومكانتها الرفيعة في مجال الأغنية العربية ولروح الإخاء والمحبة والتسامح التي ميزت إنتاجها”، كما أخبرتنا مذيعة النشرة الرئيسية للأخبار مساء ذلك اليوم. كما دعاها للعودة إلى تونس للسياحة، لكنها لم تعد.
ربما كان بن علي حقًا يحب صوت فيروز، كما أحببناه جميعًا. لكن فيروز قطعًا لم تكن جزءًا من العملية الدعائية التي أرادها النظام حينذاك. جاءت لتغني لصندوق التضامن، الذي قدّرت أنه حقًا صندوق للفقراء، وقبل أن ترحلّ تركت رسالةً للشعب التونسي قرأتها مستشارتها الإعلامية، ضحى شمس، أمام الصحفيين:
“أنا لا أتحدث عن أي شيء آخر غير ما أستطيع أن أصنع وأصنعه. أحقق أهدافي عندما أستطيع أنا وصوتي أن نغير شيئًا في بؤس الناس. هذا يجعلني سعيدة. أنا ابنة الفقر وأتحدث إلى الفقراء من مكاني هذا الذي هو مكانهم أيضًا. من الرائع أن تفكر تونس في الإنسان. هذا هو الشيء الأكثر أهمية. أتمنى أن يساعد وجودي وصوتي في تخفيف آلام الناس. أتمنى أن تكون تونس قدوة للدول العربية الأخرى في التفكير في شعوبها بنفس الطريقة.”
كان غناء فيروز لإحدى مؤسسات النظام، ذات السمعة السيئة، معضلة لأحباء فيروز من معارضي النظام. تقول نزيهة رجيبة (أم زياد): “حضرت الحفل، وقد أًهديت لي البطاقة، لأنني أقسمت ألا أدفع مليمًا واحدًا لصندوق التضامن، وقبلت الفتوى، لأن مع فيروز لم أجد حلًا آخر.”
في المقابل قاطع، أنيس المنصوري، الذي كان في ذلك الوقت جزءًا من الحركة الطلابية اليسارية، الحفل. حين يسترجع المنصوري اليوم ما جرى يصفه بـ “السذاجة الشبابية العابرة”. يقول أنيس: “لم أقاطع فيروز ولكني قاطعت الحفل. كان يمكنني الحصول على تذكرة أو حتى دعوى في الصفوف الأمامية ولكني التزمت بقناعاتي وبالقطيعة السياسية والتنظيمية مع النظام. وباعتبار أن حفل فيروز يتم توظيفه من قبل النظام فإني قاطعته وفضلت على ذلك جلسة خمرية في الأحياء الخلفية للمدينة. بعد القضاء المبرم على قارورة الشيفاز وما جاورها، اختفيت دون أن يعلم ندمائي، إلى أين ذهبتّ. واصلت النقاش مع البقال، الذي حدثته طويلًا عن لينين و جيفارا و أقنعته أنه بروليتاري ولكني لم أستطع إقناعه أن فيروز كان عليها أن تقاطع الحفل. يوم الاثنين قاطعت الكلية. ويوم الثلاثاء وصلت متاخرًا. قهوة في مقصف الكلية، دون أن أستمع لفيروز. ثم اجتماع عام، خطبت فيه أمام الطلبة، وبدأت بالقول، قد كان صوتك يا سيدتي في المذياع أجمل، مازلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم. تحدثت عن الديكور الديمقراطي وعن ناظم حكمت وعن الرفاق وعن الخيانة وعن بن علي وسعيه إلى سرقة رموز اليسار. تحدثت أيضًا عن زياد الرحباني. أما اليوم، فلو غنت فيروز للشيطان فإني سأكون في الصفوف الامامية.” ضاعت فرصة أنيس، ربما للأبد. فحتى عندما دعاها مهرجان قرطاج بعد سنواتٍ للغناء مرةً أخرى في تونس، رفضت فيروز الدعوة، وقالت إنه “يتعذر علي ذلك بسبب بسبب الرطوبة العالية في هذا المسرح الأثري.”
حاله حال بورقيبة، لم يحقق بن عليّ، من غناء فيروز في تونس الكثير. لا يمكن أن نقيس ريع الحفل السياسي، لكن الواضح أنه لم ينجح في وضع فيروز في إطارٍ يريده لصورته السياسية. فشل كما فشل غيره في إسقاطها في فخاخ السياسة الضيقة، المتعلقة بمحبة فلانٍ من السياسيين أو كره آخر، وقبل أن تعصف الثورة بالرئيس ونظامه، كنت جالسًا في أحد مقاهي قريتنا. كان الهواء ثقيلًا، والحياة بلا أفق. لكن صديقي الشاعر منير هلال، قال لي في ثنايا الأحاديث، إن فيروز ستطلق ألبومًا جديدًا اسمه إيه في أمل، وإنه سيحاول فور نزوله أن يبث منه مقاطعًا في برنامجه الذي يقدمه في الإذاعة.
جلست أراقب الراديو، وقد أوفى منير بوعده. كان اللحن حزينًا. أما صوتها فقد خففً – كما فعل دائمًا – من ذلك الهواء الثقيل. لم نلبث أسابيعًا حتى صار الأمل حقيقةً. هرب بن عليّ و”طلعنا على الضو طلعنا على الريح، طلعنا على الشمس، طلعنا على الحرية.”