.
سنة ١٩٧٣، كانت الفنانة القبايلية نوارة تستعد لتقديم أغنية ايفافا اينوفا لراديو الجزائر. لحن الأغنية حميد شريّط، شاب جزائري أتم لتوه دراسة الجيولوجيا، وكان يجهز نفسه للعمل في إحدى الشركات النفطية في البلاد بعد أن ينتهي من الخدمة العسكرية. تعرضت نوارة لحادث مفاجئ، وتم الاستنجاد بحميد شريّط لأداء الأغنية. دخل الشاب مرتديًا سروال جينز بيل بوتومز الرائج في ذلك الوقت مع برنس قبايلي أبيض، في مشهد ظريف يجمع بين آخر تقليعات الموضة آنذاك والتقاليد القبايلية العتيقة. أدى حميد، الذي عرف لاحقًا باسم ايدير، الأغنية ومضى بعدها لأداء الخدمة العسكرية.
لم يعلم حميد خلال سنتي الجندية أن أغنيته اكتسحت الإذاعات محليًا وعالميًا. اكتشف ذلك عندما أتم دورته التدريبية، لينبهر بالنجاح المذهل لايفافا اينوفا، التي استوحاها الشاعر بن محمد من أغاني الهدهدة والتراث القصصي الأسطوري في منطقة القبايل، مدينًا للكتابة والمغنية طاوس عمروش، التي جمعت قصائد وأغانٍ وقصص شعبية متوارثة في الذاكرة الشفوية القبايلية في كتابها الحبة السحرية الصادر سنة ١٩٦٦، ومن بينها قصة بلوط الغول التي استُلهمت منها أغنية ايفافا اينوفا.
شكّلت تلك اللحظة بداية مسيرة ايدير الموسيقية، الذي انتقل إلى فرنسا سنة ١٩٧٥ وأصدر ألبومه الأول الذي حمل نفس الاسم، ايفافا اينوفا، جمع فيه بعض أغاني الهدهدة التراثية في منطقة القبايل. رغم النجاح القوي للألبوم، ورواج أغنية ايفافا اينوفا التي تُرجمت إلى ١٥ لغة، بقي ايدير حبيس ذلك النجاح، ومر بفترة انقطاع امتدت لعشر سنوات (١٩٨١-١٩٩١). خلال تلك العشرية، ازدهرت الأغنية الشعبية القبايلية مع صعود لوناس معطوب، وانتشى الراي الجزائري بجرعات نجاح مع البدايات المظفرة لِحسني وخالد ومامي.
قرر ايدير بمعية شركة الإنتاج سوني الاستفادة من الألق العالمي للراي، وأصدر ألبومه الضخم ايدنتيتي سنة ١٩٩٩ الذي حشد له تعاونات من مختلف أنحاء العالم، مع مانو تشاو وماكسيم لو فوراستيي وغناوة ديفيزيون، ليجمع الشعبي الجزائري والإيقاعات التقليدية القبايلية مع موسيقات عالمية. إلى جانب إصداراته الخاصة، سجّل ايدير حضوره في مشهد الراي من خلال تعاونه مع الشاب مامي في استعادة مظفرة لأغنيته أزواو، فيما ألهم الشاب خالد أغنيته الهربة وين التي استمدها من زوريت رويت.
نَحَت ايدير معالم أسلوبه مما ورثه عن أمه من السرد القصصي والشعر الغنائي، كما تعلم عزف الناي في سن مبكرة، محاطًا بأبيه ورعاة الغنم في قريته آيت لحسين القريبة من جبال دجرجرة التي ميزت تضاريس منطقة القبايل واحتضنت حركات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. اتجه ايدير أيضًا إلى البعد الرمزي في إنتاجاته. تجلى ذلك في ألبوم لا فرانس دي كولير سنة ٢٠٠٧، تزامنًا مع الحملة الانتخابية المستعرة في فرنسا آنذاك بين كل من نيكولا ساركوزي وسيغولين روايال، واشتعال خطابات الهوية في فرنسا. استمر ايدير بتنويع تعاوناته مع رواد الأغنية الفرنسية الرائجة، وأصدر ألبوم هنا وهناك سنة ٢٠١٧، مستعيدًا أغانٍ فرنسية مثل لا بوهام لـ شار أزنافور ولا كوريدا لـ فرانسيس كابرال.
مثلما جمع ايدير بين جينز بيل بوتومز والبرنس الجبلي الأبيض في ظهوره الإذاعي الأول، مزج بين الموروث الأسطوري القصصي القبايلي والتوزيعات الموسيقية الحديثة لصناعة مشهد الفولك القبايلي. انتمى ايدير إلى جيل الأغنية القبايلية العصرية، التي دشنها كل من لوناس معطوب وآيت منغليت ونواره، بعد حقبةٍ أولى مع حنيفة وسليمان عزام وطاوس عمروش. لم يكن ايدير بنفس صدامية لوناس معطوب، لكنه خلق لنفسه هوية صوتية خاصة، ابتعد بها عن الأغنية السياسية المباشرة، واتجه أكثر نحو المزج مع موسيقات متنوعة، ليساهم في انتشار الأغنية القبايلية عالميًا. أسهم توجه المزج لِايدير إلى ملازمة الصورة الإعلامية المروجة له كسفير سياسي رمزي للقضية الأمازيغية ومحب للسلام، على حساب دوره غير المسبوق في صناعة مشهد الفولك القبايلي.
تبدو حياة ايدير كفصلٍ من قصة طفولية ترويها الجدات، ما جعل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو يتحدث عنه: “ايدير ليس فنانًا عاديًا، بل يكاد يكون فردًا من كل عائلة”. يحملنا صوت ايدير إلى أجواء العائلة القبايلية في ليالي الشتاء القاسية حول المدفأة، بخامة دافئة وأداء قريب من الحكواتي. أطلق عليه اسم ايدير الذي يعني في الأمازيغية: سيعيش، في إشارة إلى عادة التسمية التي ترافق ظروف ولادة صعبة لرضيع ضعف البنية أملًا في نجاته، وعاش ايدير سبعون سنة بالفعل، قبل أن يلفظ أنفاسه في مستشفى في فرنسا نتيجة مرض رئوي مزمن في الثاني من أيار / مايو الجاري.