.
تصادف اليوم ذكرى وفاة المفكّر إدوارد سعيد العاشرة (1935-2003). وفي هذا اليوم، إخترنا نشر فيديو لمقطوعة فوغا(Fugue)* لباخ، ومن عزف غلين غولد (Glenn Gould) تحديداً. كان غلين العازف المفضّل لدى سعيد، والذي خصّص لتجربته عدّة مقالات نشر بعضها في كتاب “Music at the Limits” الذي ضمّ مقالات نقديّة كتبها سعيد عن الموسيقى في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. في هذا النّص القصير المقتطع والمترجم من حوار أجري معه في أيلول/ سبتمبر العام 2000، يجيب سعيد عن تساؤل حول علاقة الموسيقى بالحيّز. ما يميّز هذا الجواب أن سعيد يناقش المنطق الموسيقي ومحاور تبلور المقطوعة ويطرح تساؤلات مختلفة عادةً ما انشغل بها.
“الأمر غريب جداً، هناك ملحنّون لا أستطيع الاستماع إليهم لهذا السبب. وهذا هو أحد أسباب إعجابي طويل الأمد والرّاسخ بأعمال غلين غولد، والتي بأجملها عبارة عن نوع من المنطق الجغرافي للموسيقى، حتى أنك تستطيع ملاحظة ذلك بمستويات مختلفة. خذ على سبيل المثال عزفه لمقطوعة الفوغا لباخ، فهو يمكّنك من استيعاب الفوغا كأداة بلاغيّة ذات أساس جغرافي. لماذا؟ لأن فكرة التجديد تعود إلى مفهوم التجديد حسب “شيشرون“، والذي يعود بدوره إلى فن الذاكرة، وبأنّك تتذكّر الأمور من خلال وضعها في أماكن مختلفة. بالتالي، التجديد هو فن التجوّل في مكان ما وإيجاد الأمور التي تحتاجها للمقطوعة الحاليّة ومن ثم وضعها سويًا. فالأمر بالأساس ظاهرة مكانيّة، بخلاف الطريقة الاعتياديّة لتفسير الموسيقى وكأنّها ظاهرة زمنيّة. طبعًا إنّه الإثنان، ولكن الجغرافي المنعكس في هذا المبنى الكونترابونكتي (Contrapuntal scheme)* مثير جداً. هذه نقطتي الأولى. أما الثانية فهي مقاومة الموسيقى لتحدّي الادّعاء الاعتيادي، وبالتالي: الحاجة للبحث عن الإجابة في مكان آخر وليس بالادّعاء أنّه يقوم بهذه الفكرة، فينتقل من (أ) إلى (ب) إلى (ج) إلى (د)، فيصل إلى “البيت“. لا! هناك أمر آخر يحدث وأنت تعلم أنّك دائمًا تبحث عنه في جوانب الموسيقى المختلفة. إنها أحيانًا إشكاليّة الإيقاع وبذلك قد نحل الموضوع، في أحيان أخرى، إنّها إشكاليّة توناليّة (Tonal)** أو إشكاليّة لون (Timbre)***، أنواع مختلفة من التنظيمات تؤدّي جميعها دائمًا إلى لغة الموسيقى. والبحث عن الحل الذي أعلم أنه لن يظهر أبدًا. ولكن هناك نوع من التوتّر بين الموسيقى والصوت، ممكن أن تدعي أنّه دائم، وهذا يثير اهتمامي جدًا.”
شرح للمصطلحات الموسيقيّة التي وردت في النص
*Contrapuntal scheme, and fugue: في فترة عصر النهضة تم خلق الهارموني أو الانسجام من خلال تناغم خطي لحن متوازيين (Counterpoint). أما في فترة الباروك (القرن السابع عشر وفترة باخ) فقد تبلورت قوانين منظومة “التوظيف المقامي” (Functional harmony) بشكل صارم، وفيها ينتج الانسجام من خلال الأكوردات، وعلاقة ثلاثة أو أربعة الارتفاعات (سوبران، آلت، تينور وباص) المقاميّة فيما بينها. الفوغا هي مبنى موسيقي آلي مشيّد على تقنيّة الكونتاربونكت. تطوّر المبنى في فترة الباروك ليتكوّن من ثلاثة أقسام، وفيه يتم عرض جملة موسيقيّة ميلوديّة، إعادتها بصياغات مختلفة، متنقلة بين ارتفاعات المقطوعة الثلاثة/ الأربعة بالإضافة إلى تطويرها وعرض جمل موسيقيّة ثانوية وفقرة وصل.
**Tonality: المصطلح المقابل هو: المقاميّة، وهي لغة موسيقيّة تحدد العلاقات ما بين الارتفاعات الصوتيّة، من خلال منظومة المقامات الغربيّة الكلاسيكيّة – المايجور والماينور. حيث تتميز المنظومة بتمحور كل مقام حول ارتفاع معيّن، وتوظيف باقي الارتفاعات حسب علاقتها به. تأسست الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة على المقاميّة من فترة الباروك – القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث ثارت عليها الموسيقى الحديثة من خلال الموسيقى الإثني عشريّة. وما زالت المقاميّة مستعملة في أغاني الموسيقى الجماهيريّة (التجاريّة) حتى يومنا هذا.
***Timbre: جودة ولون الصوت الموسيقيّ، فمثلاً: ذات النوتة سيختلف لونها في الآلات الوتريّة عن آلات النّفخ.
النص مقتطع ومترجم من مقابلة مع إدوارد سعيد نشرت في مجلة “المجتمع والمكان“، العدد 21 (2003). http://www.envplan.com/openaccess/d2106i.pdf