.
عُرِف مظفّر النوّاب بقصائده السياسية اللاذعة، ونسي الكثير منا حسّه المرهف وتوظيفه لمشاهد يومية في وصف الحزن والحب واللوعة. مات النوّاب في مستشفى الشارقة في الإمارات، ليكون هذا الموت خاتمةً مأساوية لقصيدة يجي يوم، التي أكدّ فيها مرارًا أن الغربة ستنتهي، لكنه انتهى قبل تحقيق المُنى.
“يجي ذاك اليوم
وإن ما جاش
ادفنوني على حيلي
وقصتي لبغداد”
عام ١٩٥٦ كان النواب مسافرًا على قطار في الدرجة الثالثة، وجلست أمامه امرأة أربعينية جميلة، باغت قسماتها ألم كبير لدى مرور القطار بقرية أم الشامات، فسألها عن السبب، لتروي كيف أحبت ابن عمها لكن استحال زواجهما بسبب انتشار أنباء قصة حبهما، وتحريم العُرف لزواج الحبيبَين. هربت الصبيّة إلى بغداد، ومنذ ذلك الحين تعيش على أمل أن تلمح حمد في المحطّة:
“مرينا بيكم حمد / واحنا بقطار الليل
واسمعنا دك كهوة / وشمينة ريحة هيل
يا ريل صيح بقهر / صيحة عشق يا ريل
هودر هواهم ولك / حدر السنابل كطه”
سمى مظفّر النواب أحد دواوينه بهذه القصيدة، لشدّة تأثير الموقف. للأغنية الصادرة عام ١٩٦٩ نصيب كبير في ذاكرة العراقيين، خاصةً مع لحن محمد جواد أموري الذي يسهل اعتقاده لحنًا فولكلوريًا سائرًا منذ عشرات السنين، وأداء ياس خضر الكبير الموجِِع.
بطل قصيدة مظفر النواب هذه هو صاحب، الذي يدعوه النَّوّاب صويحب تحببًا، وهو ناشط في الجبهة الشيوعية وقائد الفلاحين بعد حركة ١٤ تموز ١٩٥٨. كمن الإقطاعي أبو ريشة لـ صاحب أواخر عام ١٩٥٩ وأطلق عليه النار وهو في زورقه فقتله، لينعيه مظفر النواب في قصيدة أصبحت رديفة لذكر الشهداء، وآخرهم صفاء السراي الذي أعاد استشهاده الأغنية إلى الواجهة لدرجة ظن البعض أنها كُتبت فيه، رغم صدورها قبل ولادته بعقود.
لحّن سامي كمال – المتنقّل من منفى إلى منفى منذ السبعينيات – القصيدة وغنّاها، غازلًا أفضل أغنية تصويرية آسرة وموثّبة يمكن أن ترافق المشهد الذي رواه النواب على لسان أم صويحب، التي لا تريد للدموع الممزوجة بالكحل أن تختلط بدم ابنها:
“مَيلن، لا تنكطن كحل فوك الدم
مَيلن، وردة الخزّامة تنكط سم
جرح صويحب بعطّابه ما يلتم
لا تفرح بدمنه لا يا الاكطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي”
في هذا الثالوث من كلمات مظفر النواب، صوت البصراوي رياض أحمد وعويل الكمان، يتجلى أحد أفضل الأمثلة على أحزان العراق. ينسحب الكمان ليدخل العود مشكلًا ثالوثًا آخر، فاتحًا بعدًا جديدًا لهذا الشجن العميق، الذي نفهم فيه شعوريًا، لا فكريًا، شجن العراق.
أغنية الراب الوحيدة في القائمة. تبدأ الأغنية بمقطع من قصيدة الأساطيل، وتتماهى بمزاجها السوداوي مع كلمات القصيدة الغاضبة. تبرز قوة الأغنية في قدرة شب جديد، مرة تلو الأخرى، على استخدام اللغة بحذاقة لخلق صور مجازية تعبّر عن الحالة التي يصفها، قسوة ومزاج مشؤوم، خاصةً في المقاطع التي يصف فيها دخول الجِب للحارة، وشعوره بالرعب بالرغم من جبروته في مواضع أخرى.
أخذ سعدون جابر أكثر كلمات مظفّر إيلامًا وشفافية، وغنّاها على ألحان كاظم فِندي، التي نقلتها من مساحات الحزن والبكائيات حتى تجاوزته. تألّم مظفّر أن سعدون أصدر الأغنية في كاسيت مو حزن قبل أن يأخذ رأيه في تلحينها. رغم ذلك لاقت الأغنية رواجًا في دمجها بين مزاجين تتفوق فيهما الأغنية العراقية: الشجن في كلمات القصيدة، والتقاسيم المُذيبة للأذن. جمعت جابر والنوّاب تعاونات مهمة في تاريخ مسيرتهما، منها غناء جابر لقصيدة يجي يوم موالًا، بعد أن أعلن الملحن كوكب حمزة عجزه عن تلحينها، وأغنية ردتك ولو چذاب التي اشترك الاثنان، جابر والنواب، في تلحينها.
في القصيدة حالة هُيام لافتة ويائسة، فرغم دعوة الشاعر ملهمته أن “تحنّن، دوس فوك الروح، واحسبها عليّ منّه” يتحسّر على ما بذله: “حسافه سكيتك بروحي، وحسافة العمر ما ورّد”. بدأ سالم الأغنية بمقدمة لحنية رشيقة تشبه خطو من سحرت الشاعر، لتقف الدنيا بعدها ويناجيها بموّال. علاقة فؤاد سالم ومظفر النواب قوية، أدت إلى كثيرٍ من الأعمال المشتركة، منها عودتني وأيام المزبن.
أغنية هادئة ومريحة لإلهام المدفعي المشهور بألحانه ونبرته التي تجمع بين العمق والسلطنة. أخذها المدفعي من كلمات إحدى جواهر الشعر الشعبي العراقي، قصيدة مظفر النواب ردتك ولو جذاب. مثّل إلهام المدفعي القصيدة بأفضل صورة ممكنة لحنًا وحسًّا، بادئًا إياها بمقدمة حزينة، يتسلّم منها كشاب يغني مع جيتاره تحت شباك الجميلة المخادعة. غنى إلهام قصيدة النواب الأخرى مرينا بيكم حمد على لحن محمد جواد أموري.
أحسن الصحافي والسياسي والمعارض محمد السيد حسن اختيار كلماته من ديوان مظفر. فبينما قد نتوقع من معارض وأسير سابق وإعلامي مخضرم أن يختار أحد نصوص النواب السياسية اللاذعة، نجده يختار قصيدة فيها الجانب المرهف من مظفر، أغنية حزينة طبعًا، لكن فيها ما يصيبنا برذاذ الفرح.