قيم التسامح في أغاني موبينيل

مينا ناجي ۱۰/۰۹/۲۰۱٤

 

يُسحب صوت المطرب إلى الخلف ليصبح على مستوى واحد مع أصوات الآلات المختلفة المشاركة في العمل، ويتساوى كل ما يُطل على أذن المستمع، في نزعة هندسة صوت وتوزيع يمكن أن نصفها على أنها ديموقراطيّة“. يتم ضبط الطبقة الصوتيّة والنوتات داخل الاستديو، بل وحتى إضافة عُرَب وحليات له. فلا يتبقى للمغنّي سوى اختيار التوليفات المناسبة الجاهزة الجديدة، والقبول عند الناس، ولعب الرياضة، والنجوميّة، ولا يبقى للتقييم أو النقد إلا أن يشير إلى صوت مطرب بأنّه ضعيف أو قوي، متمكّن أو مهتز، عريض المساحة أو محدود.

نتجت هذه الديموقراطيّة في التوزيع والهندسة الصوتيّة عن ديموقراطيّة أخرى كانت انعكاساً لتطوّر تكنولوجي واجتماعي، وهي ديموقراطيّة وصول العمل المُنتَج من قِبل أي شخص إلى أي شخص بنفس السرعة والمساحة المتاحة عبر الانترنت من خلال مواقع الأغاني والفيديوهات، الأمر الذي غيّر القواعد الاقتصاديّة والتسويقيّة وحتّى النقديّة للأعمال الغنائيّة بشكل جذريوهو ما يمكن طرحه بشكل مفصّل لاحقاً. إذ يكفي أن نشير إلى أن طبيعة ديناماكيّات السوق الحر وعلاقته بالفن التي جعلت معيار جودة العمل يعتمد بشكل أساسي على عدد زوّار/ مستمعي عمل معين (هناك جوائز عالمية بمبالغ طائلة تمنح على هذا الأساس الآن). هذا العدّاد يتم شراؤه ليصبح النجاح لمن يمتلك المال والقدرة على شراء أرقام زوار مزيّفة. رغم ذلك، لم تتحمّل الرأسماليّة هذا الانتخاب المبني على أساس المال والقدرة الشرائيّة، وأصبحت تريد، بشكل مكشوف، أن تطرح هيمنة الهيئات والكيانات الكبيرة على مساحة عرض الأعمال ووصولها إلى المستهلكينقبل المُنتجين الآخرين الأصغر حجماً، وهو ضرب مباشر لمبدأ حياد الإنترنت.

مع ظهور الربيع العربي، حاولت الرأسماليّة استيعاب تيّار الثورات والأعمال المنبثقة عنها، فتبنّت الشركات الكبيرة هذه الأعمال، سواءً كرعاية ماديّة أو في الدعاية والإعلان. وهذا ما نراه مثلاً في إعلانات شركة موبينيل للهواتف النقّالة بعد ثورة يناير 2011، والتي تعتمد على الغناء بمطربين يُطلق عليهم فناني الغناء البديل أو التحتانيين” Underground – مثل هاني الصعيدي وفرقة أسفلت، وفرقة الطنبورة، وأوكا وأورتيجا في إعلان 2012، بشكل تعدّدي ديموقراطي يظهر الروافد المختلفة للغناء المصري من الموسيقى الجماهيريّة البوبللغناء النوبيهتافات الأولتراسالبورسعيديالفلاحيالراب– الصعيديالمهرجانات الشعبيّةالسيناوي، وبكلمات مفتاحيّة عشان لازم نكون مع بعض/ عشان شايلانا نفس الأرض/ عشان بكره اللى مستنى / ومش عايز يفرق حد



أما أغنية إعلان 2013، فأدّاها مغنون من المشهد البديلمنهم: منة حسين ومحمد محسن ودينا الوديدي، وتقول وبحتجلك وتحتاجلي/ مابينا ألف حلقة وصل/ وبشبهلك وتشبهلي/ في حب الخير وطيبة الأصل/ ماليش غيرك أكيد لكن/ مافيش فينا مختار حد/ أنا وأنت حكاية ناس/ مقاسمين الحياة مع بعض، والتي تظهر في إعلانها مشاهد ود وتناغم مثل مشهد رجل غني ببدلة وشرطي وفقير وشاب يأكلون من عربة فول بالشارع معاً في انسجام، وجار يعطي كوباً من الشاي إلى جاره من الشباك، ولجنة شعبية تبتسم لجار مار في المنطقة، وركاب يساعدون شاباً لركوب المترو وغيرها.



في العام 2014 خرجت الرأسماليّة مرّة أخرى عن هذه الديموقراطيّة لتجلب أصواتاً شهيرة لها قيمتها الفيتشيّة وماركتها Brand Value مثل أحمد عدويّة، محمد فؤاد، بهاء سلطان، بشرى، داخل نفس الإطار الفني – نفس المؤلف والملحن والثيمات، والحفاظ على الشكل الديموقراطي الصوتي في الهندسة والتوزيع. في هذه الأعمال لم يصل أيٌّ من هؤلاء المطربين المعروفين إلى جواب صوته (أعلى طبقة له) حتّى المشهور عنهم استخدام هذه المساحة من صوتهم، بل قبع جميعهم في طبقة وسطى مُهنْدَسة يترنمون بـافتح بيبان قلبك وأعرف مين/ أنا إنسان زيك إنت/ افتح بيبان بكره/ مافيش فرق بين حلمي وحلمك أنتبمرافقة مشاهد من الشارع تصوّر بائع يجلب محفظة لامرأة نسيتها عنده، شاب ببدلة يتحادث مع بائع الجرائد ويصافحه بود، طفل يساعد امرأة في رفع عربة طفلها على الرصيف، شرطي يشتري البوظة بجانب مواطن يركب بعدها الميكروباص.



قيمة هذه الجنة المتخيّلة الأساسيّة، التي تدور حولها إعلانات موبينيل (وغيرها من الشركات) في هذه السنوات المتتالية وحتى قبلها، هي التسامح“: القيمة النيوليبراليّة بامتياز؛ لأنّها تعتمد عليها في حل صراعتها وتفاوتاتها الطبقيّة وتناقضاتها الداخليّة، مانحة إياّها بعداً أخلاقيّاً، ففي هذه السنوات الثلاث انقسم الذين بشبهلك وتشبهلي/ في حب الخير وطيبة الأصلإلى تيّارات سياسيّة مختلفة متصارعة وصلت إلى حد الاقتتال الأهلي، وأتى بكره اللي مستنيمفرّقاً الكثيرين بسقوط حكم وظهور غيره، وصعود وهبوط تيّارات مختلفة متخليّاً عن المشترك الإنساني المبهم والأحلام المتشابهة شكلاً لا موضوعاً. ولا يتبقى سوى صورة لديموقراطيّة شكليّة تقنيّة تلطف الاختلافات والتمايزات وتطرحها في قالب طوباوي تسامحي خادع على المستويين الفني والإيديولوجي. ديموقراطيّة يتم، للمفارقة، انتهاكها باستمرار.

المزيـــد علــى معـــازف