.
كن قويًا. كان ذلك عنوان فيديو نشره المنتج زينغا (حسان سايس) على اليوتيوب دعمًا لكاتيبون، سيف الدين كريدان، الذي واجه تهمًا متعلقة بالمخدرات في شتاء ٢٠١٦. كيف كان لهذا الفتى اليافع أن يتحمل المطاردات وهواجس السجن قبل حتى أن تنطلق ثورته الفنية؟
اضطر كاتيبون للرحيل إلى فرنسا بعد تعقيدات كبيرة، ووجد نفسه فجأةً بعيدًا عن مجموعته التي انتمى إليها منذ سن الخامسة عشر. تجيّش أصدقاء كاتيبون وجمهوره لمساندته، في تقليدٍ تضامني وسم الراب التونسي منذ قضية ولد الكانز أو الاعتداءات التي طالت حمزاوي وكلاي بعد الثورة. نزل في الأثناء فيديو آخر على اليوتيوب لمساندة كاتيبون، ظهر فيه بصحبة باكو ووسام زيادي اللذان تصدرا مشروعي بربروتس وقول تره وكانا من أبرز أسماء المشهد البديل حينها.
قبل أن يتعكر الوضع وتصبح الهجرة ملحةً، أفسح مشهد الراب المنتشي المجال لـ كاتيبون الصاعد بقوّة وقتها. حظيت إصداراته الأولى بقدر عالٍ من الاهتمام، أبرزها ألبومه القصير الأول جقلوق ميكستايب الذي صدر في ٢٠١٣ وكان ضمن أكثر ألبومات الراب استماعًا تلك السنة. جمع الألبوم عيناتٍ صوتية من خلفيات موسيقية مختلفة، من ابحث عني لماجدة الرومي في أغنية حملت نفس الاسم، إلى السول الأمريكي لفرقة واتانوتس في يو كانت ستاب مي ناو، وصولًا إلى الراب الأمريكي في بايبي فايس التي استوحى فيها كاتيبون من أغنية آز ذِ ورلد ترنز للأمريكي إيه ثري. منح أسلوب كاتيبون زخمًا صوتيًا للألبوم، حيث استعرض باراته المباشرة في يو كانت ستاب مي ناو وأظهر تأثيرات ريجي في أدائه لِـ بايبي فايس.
مثّل حي الكبارية حاضنةً كبيرة للفنانين والمواهب قبل الثورة وبعدها، مثل بديعة بوحريزي ومادو إم سي، وضم مشاريعًا ناشئة أخرى كَـ دب مالكابا الذي كان رياض فديني أحد مؤسسيه. انتمى كاتيبون إلى الكبارية وعاش في قلب الزخم الذي ميّز الحي. تمكن كاتيبون داخل هذه الحلقات من تحسّس مناطق مختلفة من صوته وتحفيز قدرته على الغناء، ما أجج رغبته في تطوير موهبته والخروج من دوائر الحي إلى فضاءاتٍ أرحب.
منذ إصداره الأول راستا فروم ذِ كابا، لم يصنِّف المتابعون كاتيبون في خانة الرابر حصريًا. مكنته قدرته على أداء النغمات من التنويع في أسلوبه كل مرة. في البداية كان ميّالًا للريجي بشكل واضح، إلى أن عرف تطورات لاحقة مكّنته من الناحية النغمية من اللعب على الهارموني واعتماد سلالم موسيقية معقدة إلى حد ما، كما تمكن من تثوير كلمات أغانيه وأسلوبه في الإلقاء مُستلهمًا من تطور العامية المدينية التي ميّزت أحياء تونس العاصمة، إذ تلقف التقليعات اللهجية الرائجة وأعاد تدويرها في نصوصه.
عند بداية تشكل مجموعات الراب في العاصمة، تصدّرت مجموعة قمح المشهد، وتحولت إلى ماكينة إنتاجية ضمت العديد من الرابرز والمنتجين مثل عصام عبسي وفايبا. وفرت مجموعة قمح لكاتيبون فرصةً للاحتكاك مع قدماء المجال منذ سنٍ مبكر، قبل انضمامه للدبو (مجموعة هيب هوب) الذي تشكّل انطلاقًا من تجربة قمح. سنة ٢٠١٥، أصدر الدبو ألبوم ما يعرفوش – ميكستايب 00 الذي جمع فايبا وترابا وبازا وماسي بالإضافة إلى كاتيبون. ضربت أغنيته تمتطي التي تعاون فيها كاتيبون وفايبا، وتحولت إلى أبرز الإصدارات التي شكّلت الهوية الصوتية للدبو. تغرق الأغنية في عبثيةٍ قوامها النزق والسخرية اللذان ميّزا كتابات المجموعة. على مدى سنوات، انسجم كاتيبون مع طباع المجموعة، والتي انعكست على أسلوبه في الكتابة.
وسط تلك الديناميكية، صدر ألبوم ناف فايُلنس لِـ ثنائي أفغان بروجكت الذي شكّله زينغا وكاتيبون آنذاك. احتوى الألبوم إيقاعات وأصوات تجريببيةٍ جريئة، إذ لم تشهد ساحة الراب حينها ميولات نحو الدرم أند بايس والبايس والدَب ستب. مثّل التعاون قفزةً نحو المستقبل وأعطى لمحةً ملفتة عن رؤية كاتيبون المنفتحة. خفّف كاتي خلال هذه التجربة من نبرته المباشرة ونوّع من صوره الشعرية ولعب على قافيةٍ أكثر تطورًا، ميّزها تقسيم البارات وتقطيع الكلمات وتوزيعها على إيقاعات مركبة نسبيًا مثلما نلاحظه في دارجا وهاو باين.
لم يستمر المشروع الواعد وانتهت التجربة عندما بدأت المتاعب مع كاتي. بدأت دوامة الهروب والاختباء في أواخر ٢٠١٥ وانتهت بشد الرحال إلى فرنسا. وجد كاتيبون نفسه تائهًا ومغتربًا بعدما قضى سنوات عديدة مدللًا من قبل مجموعته وأصدقائه وجمهوره. في إصداره الأخير بيان مع إمباير، استرجع كاتيبون ذكريات تلك الفترة بشيء من المرارة: “خرجت مدمّر ما نسميهش هروب.”
تحوّل عنوان أغنيته ابحث عني إلى حقيقة. انقطعت أخبار كاتيبون وإنتاجاته. اعتقد كثيرون بأنه اعتزل، لكنه رجع بأغنية أباوت. أظهر فيديو الأغنية المصوّر في إحدى المناطق الأثرية في ليتوانيا التوجهات الفنية الجديدة لكاتيبون، حيث بدأ منذ هذا الاصدار في التركيز على الجماليات البصرية بالتعاون مع المخرج منصف حنيّن الذي انضم إليه في أعمال لاحقة. رافق نجاح الأغنية خلافات مع شركة الإنتاج، وانتهت التجربة سريعًا ليعود كاتي للتقوقع من جديد.
لم يكن كاتيبون قادرًا على لملمة ما مضى وبداية مرحلةٍ جديدة لو لم يؤازره قلة من أصدقائه. ظهر رياض فديني، ابن حيه، ولعب دورًا كبيرا في تلك المرحلة وأنتج له أغانٍ بالاشتراك مع ستيف أبيدوف. تطور التعاون إلى مشروع ثنائي تجاوز فيه فديني دور المنتج وأصبح الشريك الأول. بدا أن رياض كان بانتظار شرارة توقد موهبته، ووجد ذلك مع كاتي. تميزت إنتاجات فديني ببساطة تركيبتها الإيقاعية، ومنح دفق ألحانها وانسيابيتها ممرات نغمية جذابة لكاتيبون، وكأن سينثاته اللزجة أثارت كاتي ليُخرج ما بقي عالقًا في ذاكرته من صدمات ويحرر أسلوبه اللعوب في الغناء.
أدى كاتيبون بالإنجليزية في إصداراته خلال تلك الفترة. لم نتمكن حينها من فهم أسباب هجره للهجته، هل كان يخاطب جمهورًا أوسع؟ أم أنه باتخاذه شكلًا جديدًا للتعبير يحاول نسيان ما عاشه في تونس من خيبات؟
رغم ابتعاده عن العامية التونسية التي حقق بها عدة ضربات، ركّز كاتيبون مواضيع أغانيه على الفترة السيئة التي عاشها في تونس قبل رحيله المباغت. في جي دي سايفد ماي لايف تو استعرض كاتيبون جوانب أخرى من قصة الإيقاف ومحاولات لمِّ القضية وحمّل أسطره وجع الفراق، فيما اتخذ من المنتج والرابر الأمريكي جي ديلا رمزًا.
توالت الإصدارات، وعاد كاتيبون من جديد إلى الساحة بعد نجاحات أومامي وأي أي وباقي أغاني ألبوم نو داوت الذي نزل سنة ٢٠١٩. رغم أن التساؤل حول الانسلاخ أو التجريب بقي مستمرًا، ارتفع نسق الإنتاجات على نحوٍ ملفت. خلال نفس الفترة كنا نراقب كاتيبون من خلال يومياته على الإنستجرام. بدأ بتفكيك إحساس غربته شيئًا فشيئًا واسترجع لهجته وأسلوبه الساخر مع متابعيه. تشكّلت نواة ألبوم ميكستايب vol2 في تلك المرحلة، وتزامن إصداره مع إعلان كاتيبون الرسمي العودة إلى ساحة الراب التونسية. حقق الألبوم انتشارًا ملحوظًا. فاجأ كاتي الجميع بألبوم طغت عليه عينات صوتية من أغاني بوب شرقي ألفيناتية، واستعاد لهجته التي هجرها منذ سنوات. اختار كاتي أن يكون الألبوم بسيطًا في أسلوبه وحميميًا قدر الإمكان، واستعرض فصول المرحلة السوداء التي مر بها في نبرةٍ رصينة خالية من الدراما. تسيل بنة على بنة على أطراف حواسنا غارقةً في شاعرية مطلقة. اختزلت أبدى بال التي استعمل فيها عينات من أغنية كارول سماحة سنوات من الحرب النفسية التي صقلت رابرًا ناضجًا.
تفجرت موهبة كاتيبون بعد هذا العمل، وانكشف نهمه للغناء والمسارح. أججت سنوات الاغتراب والغناء منفردًا روح المغامرة والطموح داخله، وانطلق في سلسلة تعاونات فارقة. ظهر مع ألفا في أغنية نو بيف قبل أن يتطور العمل إلى ألبوم بون فون من إنتاج مهدي مشفر، مسجلًا بذلك أول تعاون له مع رابر من خارج مجموعته السابقة. تجلى أسلوب كاتي المعتق في أغلب أغاني الثنائي، حيث استطاع المراوحة بين الغناء النغمي وإلقاء أسطره بتمكنٍ غير مبالغ فيه، فيما احتفظ ألفا بأسلوبه اللامبالي وقوافيه الحرة.
اشتد جموح كاتيبون وبدا أكثر توثبًا للتجريب. أراد الرابر استكمال ما بدأه مع زينغا في مشروع أفغان، عندما كانت توقعات التجريب والتفرد في الصوت والتقنيات عالية. أثار هذا التقاطع رغبة كاتي للتجريب من جديد، لكن هذه المرة مع كولكتيف صاعد لا يخشى أن ينتج أغنية لرابر مدججة بأصوات معدنية صدئة. مثّلت أنانية قطاف تلك الرغبة في التجريب؛ واحتوت على طابع قاتم وراديكالي ليس فيه مجال للفذلكة أو المزاح، فإما الإذعان أو باختصار “برا نيّك” على حد قول كاتي نفسه في الأغنية. لم يكتف ماد موب بِرصّ إيقاع مليء بالكيكات الحماسية في الأغنية الأولى فقط، بل أدخل لحنًا جنائزيًا بث فيه كاتيبون صورًا دمويةً تنبئ بِـ “قطف الرؤوس” في أناليز التي صدرت بعدها.
على امتداد أعماله خلال آخر سنتين ورّطنا كتيبون في مزاجيته، ونجح في نقل المستمع من حالةٍ نفسية إلى أخرى باحترافية. ظهر أحيانًا شاعريًا أكثر من اللزوم، لكن قادرًا على الانتفاض وفتح النار في أي وقت وبأية وسيلة. استرجع كاتي خلال فترة قصيرة زاخرة بالإنتاجات لغته، والأهم من ذلك ثقته بنفسه، حيث يقول: “كاتي صقفوله وصل للقمة“، في خليطٍ ملتبس من اليقين والغرور.
في ظل ثورته الجديدة وتنويعاتها، عاد كاتيبون في شتاء ٢٠٢١ بألبوم هادئ ومتزنٍ مع رفيق دربه رياض فديني؛ شمس و قمر. لم يكن الألبوم الأكثر جرأة موسيقيًا، لكنه أكد على نجاح كاتيبون في اختيار توقيته المناسب في الرفع من الإيقاع التنافسي أو إبطائه.
تزامن رجوع كاتي مع عودته إلى الحفلات الحية. في عرض كينو كلاب السنة الفارطة، احتفى كاتي بأصدقاء البدايات ومن بينهم باكو الذي آزره خلال فترة التقلبات في فرنسا. حاول ذلك الوفي فك حصار صديقه مرارًا إلى أن تحقق اللقاء المؤجل معه ومع وسام وباقي المجموعة أخيرًا. لم يسبق أن قدم رابر تونسي عرضًا مشابهًا لما قدمه كاتيبون في هذا الحفل الحي. كان قوام الحفل أداءٌ حي ومرتجل للأغاني على ألحانٍ مباشرة وإيقاع حي يقوده باكو على الدرامز. أظهر كاتي لياقةً صوتية وبدنية عالية ولفت الجميع بحضوره الركحي، إذ أن مواظبته على الرياضة والرقص الذي شاهدناه في كليباته جيمي ورهيب وإف إل دي واي أثمر في مجاراة عرض حي بإتقانٍ وتميز. لم ينشر من هذا الحفل إلى حد الآن غير أغنية أولا التي صنفت كترند في صيف ٢٠٢٠، وكانت أعلى أغانيه مشاهدة على قناته على اليوتيوب.
مر كاتيبون في مسيرته بمراحل فنية متنوعة عكست الاضطرابات التي اجتاحت حياته الخاصة، لكنه استطاع في كل مرة أن يحول خيباته إلى نجاحات. أثمر تقاطعه مع مسارات فنانين مختلفين في تجميع قدرٍ مهم من الخبرة والذكاء في الأداء والخيارات الصائبة. قبل المغادرة المضطرة من تونس، سارع كاتيبون في الوصول إلى مكانٍ متقدم في المشهد المحلي، ما جعل عدة رابرز حينها يتنبؤون له بمسيرةٍ واعدة. رغم التقطّعات في مسيرته، عاد كاتي في كل مرةٍ أكثر شراسة. أعلن الرابر عن ثورته صراحةً واستبق الأمور عندما قال: “غدوة نروح لتونس نعمل انقلاب.”
الغلاف تصوير منصف حنيّن.