.
عام ١٩٣٧ كتب الموسيقار الألماني كارل أورف الكانتاتا قطعة موسيقية متوسطة الطول ذات موضوع، مُعدّة لأصوات بشرية بمرافقة آلية، تحتوي عادةً صولوهات وجوقة وأوركسترا. التي خلَّدَت اسمَه، كارمينا بورانا. اعتمدَ لِبرِتُّو النص المُعد لعمل موسيقي كلاسيكي تؤديه أصوات بشرية كالأوبرا. هذه الكانتاتا على النسخة التي حققها اللغوي الألماني يوهان أندرياس شْمِلَر من مخطوط كارمينا بورانا، الذي اكتُشِفَ في دير بِنِدِكتبويرن عام ١٨٠٣، أثناء حَلّ الدير وتسريح رهبانِه خلال عملية عَلمَنة باڤاريا، وإعادة تقسيمها إداريًّا ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة. يعني اسم المخطوط باللاتينية: أغاني من بِنِدِكتبويرن، ويحتوي ٢٥٤ قصيدة ونصًّا دراميًا، تعود في مجملِها إلى القرون الحادي عشر إلى الثالث عشر.
كتبَ هذه القصائدَ مجموعةٌ من الكنَسِيِّين الجوليارد الذين عُرِفوا بكتابة الشِّعر الساخر بلاتينية القرون الوسطى، كما كُتِب بعض القصائد بلغة جرمانية قديمة. يُقال عن اصطلاح الجُليارد إنه مُشتَقّ من اسم جولياث / جالوت، وهو – تبعًا للرواية التوراتية – العملاقُ الوثني الذي قتله النبي داود وأحرز النصر لإسرائيل، وبالتالي رمزٌ لمعاداة الرّبّ. مرَدُّ التسمية أنّ هؤلاء الكنسيين الشعراء ثاروا على التناقضات الحادّة التي أخذت تنمو داخل الكنيسة، وعبّروا عن ثورتهم شِعرًا. القصيدة الافتتاحية فيما لحّنه أورف هي أوه فُرتُونا، جزءٌ من الحركة المسماة فُرتونا إمبراطورة العالم التي تفتتح وتختم الكانتاتا، وتناشد فُرتونا، ربّة الحَظّ في الديانة الرومانية القديمة: “أوه فُرتونا، كالقمَرِ تتبدَّلين. لا تفتَئِين تزيدين وتنقُصين. حياةٌ بغيضةٌ تقهرُنا ثُمَّ تُهدهِدُنا. تلعبُ بصفاء الذِّهن وبالفقر والقوة، وتُذيبُها جميعًا كالجليد. أيُّها القَدَرُ الوحشيُّ الخاوي، أيُّها العَجَلَةُ الدائرةُ، أنتَ شِرِّير، وما نشعر به من صلاح الأحوال ينتهي دائما إلى لا شيءَ.”
حين نمعن النظر في السياق العام للقصيدة، في مخطوطها المتغني بالملذات الحسيّة في قسمٍ كبيرٍ منه، تبدو فُرتونا أشبه بنتوء في جسد الأعمال الكورالية الكلاسيكية، التي تشير بجملتها إلى السماء وما لها من قداسة، بينما تشير فرتونا في إصرار إلى الأرض وما بها من دنَس.
مثّلت كارمينا بورانا حفرية ثقافية صادقة وقت إحيائها وتقديمها للجمهور الأوروبي. ربما يعبّر هذا الانحراف في القصيدة عن حنين كامن في الوعي الأوروبي إلى ثقافة أوروبا العصور الوسطى، بكل إشاراتها وتجسداتها. لم يكن صعبًا بالتأكيد على كارل أورف أن يبحث عن شاعر غنائي جيّد يصوغ له معاني القصائد التي أثارت شغفه، بلُغَته الألمانية الحية، والمؤكد أن هذه الصياغة كانت ستقدم وجبة غنائية أسهل في تلقّيها على جمهوره.
يحدثنا اللغوي البريطاني ذو الأصل اللبناني جون جوزيف، في كتابه اللغة والهويّة، عن سِمَة فكرية ميّزت عصر النهضة الأوروبي: التحرر من سطوة أرسطو وظهور الإپيقورية الجديدة، التي تسير على خطى الفيلسوف اليوناني إپيقور في كونها تجعل للجسد مكانة مركزية في الفكر. كنتيجة لهذه المكانة، أرجعَ إپيقور اختلافَ اللغات إلى اختلاف الأمزجة العِرقيّة للشعوب التي تقطن مناطق مختلفة من العالَم، وأرجعَ هذا الاختلاف الأخير بدَوره إلى اختلاف عضوي جسدي في هذه الشعوب.
رغم أنّ علم اللسانيات خطا بعد عصر النهضة خطواتٍ كبيرةً باعدَت بينه موضوعيًّا وبين إپيقور، ووصل في مطلع القرن العشرين على يد دي سوسير إلى مبدأ اعتباطية الدلالة اللغوية العلاقة بين الدالِّ والمدلول غيرُ مُعللة بالمنطق والعقل. على كل مستويات اللغة – بدءًا من صوتيات اللغة إلى إطلاق الأسماء على الأشياء، إلاّ أنّ الرُّوح الإپيقورية المحتفية بالجسد ظلّت تحرّك الوعي الغربيّ وتتسرّب إلى مجالات الفكر بدرجاتٍ متفاوتة، وأصبحَت اللغة نفسُها معادلًا للجسَد في الفكر الغربي المهيمِن على القرن العشرين.
في تقديري، يمكن اعتبار انكباب قطاع كبير من فلاسفة القرن العشرين بدرجاتٍ مختلفةٍ على التحليل اللغوي، باعتباره الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحقيقة (ما يسميه الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي بالمنعطَف اللغوي)، بمثابة تخلُّصٌ من ثنائية الفكر / اللغة لصالح اللغة بوصفِها القطب القابل للدراسة الواضحة، بقدر ما هو انتصارٌ للجسد / المادّة على الرُّوح، وللمتعيِّن القابل للإحاطة والوصف على الغيبيّ / الميتافيزيقيّ. يتجلى هذا الانتصار كذلك في الفلسفة الوجودية، التي حققت أكبر انتشار واحتفاء شعبي في القرن العشرين، إذ اقترب سارتر وميرلوپونتي من المساواة بين الذات والجسد، بعد أن سارت قبلهما الفلسفة الحديثة على نهج ديكارت الذي صرّح بأنه يمكنه أن يتصور نفسَه ذاتًا مفكّرةً بلا جسَد. حتى جابرييل مارسيل، قلب الوجودية المسيحية، قالها صريحةً: “أنا جِسمي.”
في حالة كارمينا بورانا، يبدو لي أنّ إقدام أورف على هذا العمل ونجاحَه يشيران إلى حنين أوروبي إلى التوحد مع الأسلاف، الذين عاشوا في العصور الوسطى وعبَّروا عن همومهم الفكرية باللاتينية، حنين إلى التوحد بهم حتى على المستوى الجسدي. فبما أننا لن نستطيع أن نتبنى أفكارهم كما كانت – نظرًا لاستعصاء الفكر على الإحاطة – فلنُغَنِّ بلُغَتهم ولننطق مثلهم. الوجه الآخَر لهذا الشغف يمكن العثور عليه في جواب السؤال: ما الذي يفتقده الإنسان الأوروبي في عالَمه، وكان موجودًا في عصر أوروبا الوسيط؟
قبل سطوع نجم اللغات القومية الأوروبية كنتيجة لظهور المطبعة ولحركات الإصلاح الديني الپروتستانتي، التي تذرّعَت بترجمة العهدين القديم والجديد إلى هذه اللغات لإخراج الجماهير من قبضة البابويّة، كانت اللاتينية لغة مقدَّسَة لا يجيدُها إلا سالكو الطريق الكنَسِيَّة، ومن يُقدِمون على التأليف العلمي أو الفلسفي. بذلك، تبدو ظاهرة كارمينا بورانا معبِّرةً عن حنين الإنسان الأوروبي إلى مظاهر القداسة وجو الأسرار الذي لَفّ حياة الأوروبي في العصور الوسطى. ذلك الجّو الذي تبخّر تدريجيًّا حتى لم يكد يبقَ منه شيءٌ في بدايات القرن الماضي، بفِعل الخروج المتأرجِح بين الحِدّة والتدريجية من قبضة الكنيسة، والعلمنة المتزايدة للحياة في تلك البقعة من العالَم. يعيدُنا هذا إلى الحدَث الذي بدأنا به المقال، وهو اكتشاف مخطوط كارمينا بورانا أثناء تسريح الرُّهبان كأحد مظاهر تلك العلمنة.
الحَقّ أنّ تقليد الغناء الكلاسيكي الأوروبي الديني لم يَخلُ أبدًا من مُغَنَّياتٍ باللاتينية، وما آفِه ماريا وبيِّه يِسو إلا نموذجان شديدا الذيوع لهذه المُغنَّيات. تتمثّل صدمة كارمينا بورانا في أن الحفرية الثقافية الآتية من أكثر من سبعة قرونٍ مضَت، على هذا القَدر من الثورة على القدَر وتمجيد اللذة الحِسّيّة. هُيّئ الظرف التاريخي لبزوغ كارمينا بورانا كي تكون استعادة الوعي الأوروبي لقداسة العصور الوسطى وأسرارها، مغموسةً بكلماتٍ تلعن القدَر وتسخر من كُلّ شيء، فتُفسِد آخِر محاولة جادّة لإحياء الأسرار المقدسة بالموسيقى.
منذ سبعة عشر عامًا، سمعتُ للمرة الأولى موسيقى فيلم غزو الجَنّة التي وضعَها اليوناني ڤانجلس، وكنت مسحورًا بها. بحثتُ عن الكلمات التي يتغنى بها الكورَس، ليُخبرَني صديق قديم بأنها باللاتينية، وأنها تنضح بالـ “كُفريّات”. بالطبع ألهبَ ما قالَه خيالي، ولشَدّ ما كان إحباطي حين اكتشفتُ أن الكلمات مكتوبة بلاتينية زائفة (Pseudo-Latin). تعني اللاتينية الزائفة خلق جُملة ما تقلّد صوتيات وطريقة تركيب الجُمَل في اللاتينية.
السؤال المؤرّق هو لماذا لجأ الموسيقار اليوناني إلى كلماتٍ ليس لها معنى حقيقي في النهاية؟ في العالم آلاف الأكاديميين الذين يستطيعون أن يكتبوا أغانيَ لاتينية بدرجات متفاوتة من التعقيد. خاصةً أنّ مواضع أخرى من موسيقى الفيلم تصاحبها كلمات لاتينية حقيقية، ففي مقطع دير رابيدا نستمع في النهاية إلى المزمور ١٣٠ من مزامير داود باللاتينية.
في مثالٍ آخر على حفريةٍ لاتينيةٍ كاذبة، لجأ إرِك ليڤي، العقل الإبداعي في فرقة إيرا المنتمية إلى تيار النيو آيج (New Age)، إلى كتابة أغاني الفرقة بلاتينية زائفة. أشهرُ أغاني الفرقة على الإطلاق آمِنو، الأغنية التي يستحضر عنوانها كلمة آمين، كأننا إزاء ترنيمة مسيحية، كما تؤدي الفرقة الأغنية بطريقة الترنيم الجريجوري (Gregorian Chant) المونوفوني، مع بعض الجُمَل التي يؤديها پروثيرو وهاريِت چِان.
هذا الإصرار من جانب ليڤي على اللاتينية الزائفة يطرح – مثل أغنية ڤانجلِس – سؤالًا عن الباعث على الزيف. الحَقّ أنّ ظاهرة الكلمات الزائفة أوسع من منجَز ڤانجلِس وفرقة إيرا. لدينا الأيرلندية إنيا وكلمات روما رايان التي تغترف من لغةٍ جديدةٍ اخترعَتها، اللوكسيان، والتي تعطينا انطباعًا مبدئيًّا بأننا أمام كلماتٍ بلغة سِلتية قديمة من أسلاف الأيرلندية الحديثة، كشكل من أشكال تمجيد القومية الأيرلندية، لكنها ليست كذلك. هناك أيضًا الموسيقي الوِلزي كارل چِنكنز، صاحب أغنية أديِاموس التي لا معنى لكلماتها.
يمكننا أن نُلحِق بهذا التيار أغنيةً مثل مصطفى إبراهيم لفرقة كوين، تحتوي على بعض الجُمَل الإنجليزية مثل: “Allah Allah, we pray for you”، بينها سطور من الأصوات لا معنى لها، تشبه في منطوقِها العربية أو العبرية، يحاول فرِدي مِركُوري بها – على خلفية موسيقية في سلّم صغير هارموني (نهاوند حجازي) مرتبط هو الآخر في وعي الموسيقيين الأكاديميين الغربيين بالإسلام (Mohammedan Scale) – أن يجسِّد حَمِيّة شخصية المُسلم كما نمذجَها الوعي الغربي في ذلك الوقت.
في نهاية المنعطَف اللغوي الذي أشارَ إليه رورتي، جاءت التفكيكية ورائدها الفرنسي دريدا، بمفهومِه الثوري الذي نحت له كلمةً جديدةً في الفرنسية Différance – ترجمَها الدكتور حسام نايل إلى الاختلاف المُرجِئ، والذي يعني، باختزالٍ مُخِلٍّ، انحلال الدلالة اللغوية إلى تعالُقات لا نهائية بغيرها، حيث لا تكتسب الكلمة معانيها إلا باختلافِها عن غيرها. بالتالي يمكن النظر إلى محاولات التغنّي بالكلمات العديمة المعنى، كشكل من أشكال البناء على هذا المفهوم السالب للمعنى، أو الإشارة إلى اللغة كعدم منمّق.
كذلك تتشارك أغاني اللاتينية الزائفة ولغة روما رايان (لوكسيان) وأغنية مصطفى إبراهيم، بنغمة ساخرة مُضمَرة بدرجات متفاوتة، لا تختلف عن السخرية المعهودة في فن ما بعد الحداثة، الذي يرُدُّ القيمة إلى اتفاق الناس عليها، وينفي القداسة المطلقة عن كل شيء. لتنشد هذه الأعمال، بدايةً من كارمينا بورانا، نعيًا ذاتيًا متهكمًا من حنين الأوروبيين لأوروبا العصور الوسطى، واستسلامًا للفقدان الكامل للمعنى، وبالتالي الفقدان الكامل للقداسة.