.
هناك حقًا عدد من المنتجين أكثر من أي وقت مضى، يترتب عليه عدد مهول من الإصدارات التي يجد الكثيرون صعوبة في تحصيلها. حتى مجلات ومنصات الموسيقى لا تنجح في حصرها جميعًا مهما حاولت، ولا يمكن إغفال أن تغطية المجلات للإصدارات محكومة بالطبع بذوق المحررين والكتاب المساهمين. في اعتقادي لا تقترب تغطية المجلات من نصف الإصدارات الشهرية، حتى في أحسن الأحوال.
لا عيب في تواجد المنتجين والإصدارات بهذا الكم، فهذه طبيعة سهولة الوصول إلى أدوات صناعة الموسيقى ووفرة باقات السامبلز، وسهولة اختراق البرامج وتناميها جميعًا بشكل متسارع مع مرور الوقت. أمر جيد في كثير من الأحيان، ففي وسط الزخم تزيد إمكانية ظهور موسيقى جيدة، إذا نظرنا إلى الجانب المشرق.
هناك فرص ضائعة بالطبع، وينقلنا هذا إلى الحديث عن جمعة باندكامب. مبادرة موفّقة وذات نوايا حسنة بالتأكيد، ظهرت أثناء فترة الكوفيد لتعويض خسائر المنتجين الناتجة عن استحالة العروض والمهرجانات، إذ يذهب عائد بيع الألبومات بأكمله إلى الفنانين وشركات التسجيل دون أن تقتطع باندكامب نسبة منه. شجّع ذلك الجميع على تكثيف الإصدارات ومحاولة تعويض خسائر تلك الفترة. كما سهُلت متابعة الجمهور الإصدارات خصوصًا مع عدم قدرتهم على الحركة وقضائهم وقتًا أطول على الإنترنت وفي بيوتهم دون مشتتات.
انتهت الجائحة وبقي الفنانون وشركات التسجيل حبيسين في منطق هذه الفترة. ها نحن على مدار ثلاث سنوات نصطدم بكم لا آخر له من الإصدارات بشكل مثير للدهشة، عندما تقرر باندكامب جمعة باندكامب بشكل أقل انتظامًا مما سبق. قد لا يشكّل هذا تحديًا على المستمع فائق الشغف الصبور. لكن يثير ذلك العديد من التساؤلات حول إمكانية إيجاد الوقت الكافي لهضم وفلترة هذه الإصدارات من قِبل متابعي المشهد بتفرّعاته.
على سبيل المثال اكتظ بريدي الإلكتروني بأكثر من مائة إشعار مطلع هذا الشهر، علمًا أنه بجانب الإصدارات الجديدة هناك إيميلات بغرض التذكير لشراء ألبومات قد نزلت من قبل. من أين سيجد القيّمون وقتًا لسماع كل هذه الموسيقى واتخاذ قرارات حجز الفنانين في الحفلات والمهرجانات؟ ينطبق الأمر نفسه على المجلات التي يغرق محرريها في فيضان من الإصدارات، إضافةً إلى البروموهات والحزم الإعلامية قبل صدور ألبومات أخرى.
حتمًا تفقد العديد من الإصدارات تأثيرها وتتوه وسط إصدارات أخرى حظيت مسبقًا بدعاية من قبل شركات ترويج (هناك أيضًا تساؤل عن جدواها). يعد ذلك ظلمًا للكثيرين بالأخص للأسماء غير الكبيرة. كما أنه مع اختلاف نموذج باندكامب وتغيّر ملّاكها إلى ما هو رأسمالي، تجني باندكامب بالطبع ثمارًا هنا أكثر مما يجنيها الفنانين، مع العلم أنه ما زال نموذج باندكامب الأكثر اتزانًا بالمقارنة مع نموذج آخر فاسد كسبوتيفاي. يأتي ذلك من خلال زيادة زيارات الموقع في يوم واحد، ما يحسن ظهورها في نتائج البحث SEO، وتوفير دعاية وتسويق مجاني من قبل الفنانين والمستمعين على السوشال ميديا، بالإضافة لاشتراك فنانين وانضمام جمهور جديد إلى الموقع. ذلك بعض ما تجنيه باندكامب، فباختصار هو استثمار ناجح طويل المدى.
ليس المغزى هنا نقد باندكامب، فلا تزال المنصة الأهم لدى المشهد الإلكتروني ومن الجيد التمسك بها، خصوصًا مع عدم توفر منصات بديلة. لكن الأهم، لفت النظر إلى الفرص الضائعة في جمعة باندكامب. أتذكر أثناء فترة كوفيد أنني كنت، وما زلت، أقدّر شركات التسجيل والفنانين الذين يصدرون ألبوماتهم في أي يوم غير الجمعة.
تتغير كيفية استماعنا للموسيقى من عقد إلى آخر بحكم تغيّر التكنولوجيا. لكن من العبث فلترة هذا الكم من الإصدارات في يوم واحد قبل شرائها، ذلك غير الإصدارت التائهة. يؤدي هذا إلى استماع ناقص وشديد التشتت، يتشابه كثيرًا بطريقة تعاملنا مع الواقع من خلال السوشال ميديا؛ أي اختزال كل شيء إلى كم هائل من المحتوى واستهلاكه سريعًا.
إضافةً إلى ذلك، يسفر هذا الزخم من الإصدارات في يوم واحد إلى تعزيز الروح التنافسية بين الفنانين. بالطبع يفرض الواقع الرأسمالي وضغوطات الحياة على الجميع تحقيق ربح صافي دون مقاسمته مع ملاك المنصة، لكن أليس هناك سبيل لذلك سوى التنافسية وحس الإفراط والتهافت على فعل نفس الشيء والتأكيد على واقع متسارع، التي تعد جميعها عرض من أعراض الليبرالية؟
أرى أن الهدف هو تقليل الفرص الضائعة وتخصيص وقت كافي لكل إصدار غالبًا تم بذل الجهد فيه دون مردود مادي طوال فترة إنتاجه، حتى يأخذ دورته كاملة على أمل أن يلقى صداه مع جمهور لديه وقت أكثر للاستماع وهضم هذا الكم الرهيب من الإصدارات. هناك فرص كثيرة ضائعة، فليس من الحكمة زيادتها.
يأتي ألبوم بلوم جيرل الجديد على تسجيلات مابا السلوفاكية لإنعاش الموسيقى المحيطة، مزيج متناسق بين المشاهد الصوتية الحالمة والارتجال المتأثر بأصولها الهندية وغناء ذي ألحان جذابة وتسجيلات ميدانية وكولاجات صوتية. من السهل تبيّن المجهود المبذول في الألبوم حتى تستطيع بلوم جيرل إيجاد صوت مميز لنفسها وسط العديد من منتجي الموسيقى المحيطة.
ينساب كل تراك برقة ويبعث على راحة متناهية. تصل بلوم جيرل إلى ألبوم جميل بكل بساطة دون أي استعراض أو تعقيد، معتمدةً فقط على أفكار غنية تنساب بتلقائية وحس موسيقي عالٍ. تثبت تسجيلات مابا بهذا الإصدار احتوائها جواهر.
يعد نشوة الهوس من كنوز باندكامب المدفونة. ألبوم راقص من العيار الثقيل، بالغ الجاذبية على مستوى الألحان والعينات الصوتية وتوظيف الإيقاعات السريعة. يدمج عمرو زيدان بين الشعبي المصري وثقافة السوشال ميديا والشارع وتأثيرات راقصة من مشاهد أخرى بشكل خفي.
يملك المنتج السكندري حسًّا مرحًا ومعادلة صوتية راقصة لا تشبه أي منتِج آخر. يعادل الخفة والسخرية بإنتاج جاد وصلب موظفًا الديستورشن والخامات الحادة والإيقاعات المشبعة والبايس الممتلئ بتمكن يقودنا إلى النشوة.
على مدار ما يقرب من ساعة، يجد عمرو زيدان لتراكاته الثمانية عشر الطازجة سياقًا مختلفًا تمامًا للشعبي والموسيقى الراقصة خارج منطقتنا دون تكرار أفكاره. لدى عمرو صوت فريد، متجذر الأصول ومتفرع الخيال.
على مدار أكثر من عشر سنوات تغيّر صوت دادب بالتدريج من الدب تكنو، إلى هجره تدريجيًا حتى تبلور صوت جديد لهم بالكامل في ألبومهم الأخير على تسجيلات أوبل تايبس.
يصل الثنائي الإيطالي إلى أقصى درجات صوتهم خشونة وحدّة، متجهان نحو منطقة إندستريال داكنة ذات مشاعر أكثر عمقًا من أي إصدار سابق لهم. يوظّف دادب الضجيج بحرفية ويأخذ كل صوت مساحته في كل تراك مهما بلغت قوته وقدر معالجته بالديستورشن ليغلي ويتحوّل باستمرار دون أن يغطي على ما حوله، ما يعكس حرفيتهم الإنتاجية.
تكسب التعاونات في الألبوم مزيدًا من التشويق خصوصًا مع تنوع أسلوب الفنانين في كل تراك، وبرغم كثرتها، تأتي النتيجة متماسكة للغاية. ألبوم قوي يعكس خبرة سنوات وشغف على الخوض في صوت جديد وأكثر تشبّعًا وعنفًا على الثنائي.
يعود بريال بعد غياب ثلاث سنوات بإصدار قصير جديد مكوّن من تراكين. يستحضر بريال صوت بعض من إصداراته السابقة، بالأخص تلك التراكات ذات المساحة البينية الغريبة التي تضع إيقاعات اليو كاي غراج في الخلفية وتدفع بجميع العناصر الأخرى إلى المقدمة. يخدع آذاننا كأننا نستمع إلى موسيقى راقصة من بعيد، في حين تسيطر ألحان السنث والعينات الغنائية الشبحية والتسجيلات الميدانية.
ينقسم كل تراك إلى ثلاثة أجزاء، ما يعزز من التجربة السمعية الأشبه بحلم غريب مصحوب بميلانكوليا، ليثير فينا القشعريرة مع كل لحظة صمت يعقبها مقطع جديد. عشرون دقيقة من التحليق الذي عودنا عليه بريال على مدار عشرين عام.
الفرق بين إصدار إم سي يلا السابق الذي بدى كتجميعة تراكات وإصدارها الجديد، أن الأخير يعد أكثر تماسكًا نظرًا لإنتاج دبماستر له بالكامل. يتنقل دبماستر بين أمزجة متنوعة عبر قالب التراب والبوم باب لاجئًا إلى تأثيرات متنوعة من أفرع الموسيقى الراقصة.
تكسب إم سي يلا الألبوم مذاقًا خاصًا بتنقلها بين الراب بفلوهات شتى والغناء بأكثر من أسلوب وطبقة، حيث تتحكم بحرفية في صوتها بأداء مكشر عن أنيابه ومرح في مواضع أخرى. المميز هنا هو قدرة إم سي يلا على نقل أداءها الحي المعروف بطاقته العالية إلى الألبوم.
جاودنسيا ألبوم مهم يؤكد على تواجد إم سي يلا ودبماستر في منطقة فريدة تجمع بين الراب والموسيقى الإلكترونية. عودة قوية للثنائي منذ ألبومهم الأول كوبالي.
إن دققنا السمع سنرى في أتريشن وجهًا جديدًا لـ سليكباك، هناك تركيز أكثر في التفاصيل، مزج كل تراك أكثر عناية، بنية التراكات مرتّبة وتأخذ مساحتها للتطوّر، تراكات أعلى جودة على المستوى الإنتاجي من ما قبل.
أتريشن ألبوم قوي، أكثر أعمال سليكباك تكاملًا وخلاصة سنوات من التجريب والشغف عليه. يقف سليكباك في مناطق بينية تجمع بين ما هو مخصص للرقص والاستماع، وبين الضجيجي واللحني، وبين الغاضب المظلم والمرح الآمل، وأخيرًا بين ما هو مألوف وغريب. بذلك ينجح في ما رسمه لنفسه كما في وصفه للألبوم “أردتُ أن أخلق رحلة داخل كل مقطوعة، وكأن شيئًا غريبًا ينشأ من الفراغ – جمال ينبثق من الفوضى.” حيث لا تخلو أي رحلة من تلك التقلبات الجمالية والمزاجية.
إذا أراد أحد أن يستمع إلى واحد من أكثر تحوّرات الدبستب والبايس البريطاني بشكل عام، فعليه بـ ٩٦ باك. رأينا ذلك في إصداره مطلع هذا العام على تسجيلات تمبا ويكرر الأمر ذاته في إصداره الجديد على تسجيلات يوكو.
يعبث المنتج الإنجليزي بتوقعاتنا للجانغل على سبيل المثال في تراك بيبر، حيث يوظف أصواتًا غير معتادة ويتألق تقنيًا في تصميمها، في نفس الوقت لا يتّبع أي بنية مألوفة. ينطبق الأمر نفسه على مدار الألبوم، كما نفاجأ بمقاطع لحنية تخلق توازنًا في اللحظة المناسبة. يملك ٩٦ باك حسًا لعوبًا يساعده حتمًا في إخراج صوته الراقص الخاص.
بعد مجموعة إصدارات ركّزت على بث دماء جديدة في الدبستب، تعود تسجيلات تمبا إلى صوت حقبتها الذهبية في الألفينات وواحد من أوائل منتجيها، دي١. يقفز بنا دي١ إلى الصوت التي تأسست عليه تمبا عبر ثلاثة تراكات تدمج بين الدبستب والتو ستب والمزيد من المدى المنخفض النابض. لا يضر القليل من النوستالجيا أبدًا، وسط كم كبير من الموسيقات التي تفتقر إلى قاعدة ثقافية بالمعنى المادي، معتمدةً فقط على شبكات عبر الإنترنت والسوشال ميديا.
لا يخيب ظننا دي١ بتصميم صوته الكلاسيكي وإيقاعاته المتشابكة، تاركًا إيانا في حالة تعطش لمزيد من البايس البريطاني الخاص بتلك الفترة.
واحد من إصدارات النويز المنتظرة على تسجيلات دراوند باي لوكالز. يأخذنا دي جاي داي سون في جولة مهلوسة ذات طابع غريب ومؤرق حافلة بالضجيج والأنسجة الصوتية المحشرجة والنغمات الناشزة.
يتلاعب المنتج الياباني بأنواع مختلفة من الديستورشن من أكثر درجاته حدة ولمعانًا إلى اللو-فاي مصحوبًا بمدى منخفض عميق. ينساب الألبوم بتعاوناته الكثيرة كقطعة صلبة واحدة مزيّنة بالحواف والتشققات، كأنه تراك واحد طويل ومتماسك، مجسّدًا التوتر والانفراجة والألم والهياج والتربص.
يستمد دي جاي داي سون جمالياته من صن رع وضوضاء القطارات في اليابان. يلفت نظرنا في وصف الألبوم عدم اكتراثه بتكوين أي صورة عن المستقبل، وينجح بالفعل في إحاطتنا بصرخة في وجه حاضر مظلم. ألبوم حافل بالخيال وذو عالم صوتي فريد.
يجمع الألبوم الجديد للمنتج اللبناني تيدي طويل باقة غنية بين ما هو راقص ومخصص للاستماع. سبعة تراكات مشحونة بطاقة عالية، حافلة بإيقاعات ومقامات شتى ومشاهد صوتية عريضة وتصميم صوتي يثير فضول المستمع. يخيّم إحساس بالغضب والتشتت والفوضى وحافة الانهيار على التراكات يعكس واقعًا صعبًا ومتخبطًا نشعر به على المستوى الجمعي في منطقتنا.
يطرح الألبوم تلك المشاعر المظلمة بدافع غير رومانسي أو جمالي أو من فرط رفاهية، لكن من مكان صادق يتفاعل مع ما حوله ويحاول أن يعكسه. ألبوم متماسك على المستوى المفاهيمي والموسيقي.
خلال عشرة تراكات يصيغ خالد قربة يومياته ببراعة وينقلها لنا موسيقيًا بشكل سائغ جدًا. ينتقل الفنان السوري بين ثيمات خاصة بالليل والنهار والمد والجزر، والبيروقراطية والصدفة والفوضى والحظ الجيد، في إطار يجمع بين الإلكترو أكوستيك والموسيقى المحيطة في سرد صوتي لا تشوبه شائبة. يجيد خالد توظيف مصادره الصوتية بدقة في موضعها الأمثل والتي تحتوي السنث والهارمونيوم والفندر رودز مع لمسات إيقاعية وتسجيلات ميدانية.
تتباين الأمزجة وتتداخل الأنسجة الصوتية برقة وبحس موسيقي محكم، حيث يجعل جميع الأصوات والألحان تأخذ مجراها في التحوّل والتطوّر متسللةً ببطء، ما يكسب الألبوم ديناميكية من نوع خاص تتخللها لحظات صمت مثيرة للتأمل. ألبوم جميل ومريح، مناسب لمن يبحث عن لحظات من السكينة.
يستكشف كل تراك في الألبوم جانبًا مختلفًا من مفهوم موت الأنا، ذلك الفقدان للهويّة الذي يُصادَف كثيرًا في طريق الوصول إلى التنوير، والانفصال بين الذات والجسد الذي يحيط بها. تُبنى الذات شيئًا فشيئًا، شظية بعد أخرى، إلى أن يتم التخلي عنها بالكامل. تعكس الموسيقى هذا المسار؛ إذ تنمو الشظايا الصوتية الصغيرة والضوضاء المتناثرة لتصل إلى مستويات طاغية، بينما يوضع المستمع في قلب التجربة، ليتتبع كل ما يحدث لحظة بلحظة. التحام وتلاشي، فراغ يليه اتساع فخم ثم خواء تام.
يُجسّد إيجو دث مفهومه بدرجة شبه كاملة من الإتقان. عمل واسع عاطفيًا، ودقيق للغاية على المستوى الصوتي. نجح الفنانان في ترجمة فكرة بالغة التعقيد دون أن ينطقا بكلمة واحدة، وذلك عبر تحكّم كامل بالصوت وتدفقه. تجربة استماع مرهقة ومستنزفة في بعض اللحظات، لكنها في غاية الأهمية.