موسيقى الإفيه، وصعود كتكوت وعبد السلام

يشكل كتكوت وصاحبه عبد السلام خطوة في مسيرة انتصار الإفيه على ما عداه في مجالات التعبير الفني المختلفة في مصر، عبر جمل آسرة مثل “يا عبد السلام إنت مخدرات” أو “قول ياع” أو “إنت زعيم كوكب المشترك” مصحوبة بخلفية موسيقية على الأورج يصنع صوت كتكوت بصحبة تعليقات عبد السلام النغمية حالة موسيقية تشابه اﻻنتشاء بالكيوف المتنوعة، بأنغام هي في حد ذاتها إفيه، موسيقى ﻻ غرض لها سوى “خلي الناس تتحظ”.

عَرَفَ مصطلح الإفيه (بالفرنسية effet) طريقه للعربية المصرية المتداولة من اﻷعمال المسرحية المترجمة عن الفرنسية في بدايات عصر المسرح، غرضه وسط الرواية إحداث أثر مباشر ومستمر في المتلقين يعبرون عنه مباشرة بالضحك وبعده بتذكر الإفيه أطول فترة ممكنة. الإفيه ليس مجرد جملة عابرة في سياق المسرحية وكثيرًا ما يترك موقعه وينتشر أكثر حتى من مصدره الرئيس.

في العقود اﻷخيرة انتصر الإفيه على ما عداه من عناصر التعبير الفني غازيًا لها بنفس التسلسل التاريخي لظهورها، في المسرح، أولها ظهورًا، تحولت المسرحيات الكوميدية السائدة إلى إفيهات مُعادة وسط مشاهد ﻻ غرض لها سوى تبرير الإفيهات، ولحقت السينما الكوميدية بالمسرح الكوميدي، ثم تبعتها اﻷعمال التلفزيونية الكوميدية، في الأشكال التمثيلية الساخرة صار الإفيه، أخف العناصر المتضمنة في العمل، أكثرها نجاحًا وحياة، وكثيرًا ما مات المؤلف والمخرج وفنان الديكور والممثل وعاش الإفيه.

لطبيعة التعبير الموسيقي الخاصة حتى في أدنى حالاتها تعقيدًا تأخر دخول الإفيه للغناء المصري حتى دخول الأصوات الإلكترونية في تسجيلات نهاية القرن الماضي، كانت “با ببا ببا با” في اضحك لحنان (١٩٩٢) أشهر إفيهًا موسيقيًا في عقد التسعينيات وأكثرها دلالة على طبيعة إفيهات المرحلة الموسيقية عبر استبدال اللازمة النغمية بصوت من السنث كثيرًا ما كان يشبه صوت اﻷراجوز، لكنه لم يزل ضمن السياق اللحني العام ﻷغنية ذات معنى لفظي ومبنى نغمي وﻻ يمكن له أن يحتل الصدارة في وسط العناصر اﻷخرى أو ينحيها، فتلك مهمة كان ﻻ ُبد معها من تفكيك البنية اللغوية للأغنية المصرية من اﻷساس بحيث يتضمن الإفيه في نص اﻷغنية وبنيتها وليس في لازمة موسيقية ممكن استبدالها، وهو ما بدأ مع بداية اﻷلفية أو ما سُمي بمرحلة أفلام السبكي، بـ كتاكيتي صوصو صوة في فيلم اللمبي (٢٠٠٢)، بكلمات مصاغة لتشبه الموال الشعبي المفتتح لغناء ساخر لمبي الطابع لأغنية شهيرة ﻷم كلثوم هي حب إيه، وفي فيلم أيظن (٢٠٠٦) تختتم أحداث الفيلم بأغنية أيظن لعماد بعرور ومي عز الدين المكونة من إفيهات مقفاة متضمنة في جملة لحنية مُكررة.

يلعب كتكوت دورًا أكبر من الدور المعتاد لنبطشي اﻷفراح، فالنبطشي، وهي كلمة ذات أصل عسكري (نوبتجي) مثلها مثل مرادفها الفصيح عريف الحفل، مهمته اﻷساسية تنظيم نوبات الفرح وهو المسؤول عن الميكروفون أو الحديدة كما تُعرف في أوساط اﻷفراح الشعبية. حدود الشخصية اﻷصلية ﻻ تناسب كتكوت وتحويله لها، فرغم كونه نبطشيًا ﻻ يكتفي كتكوت بتحية الجمهور أو طلب النقوط، على المسرح يصبح كتكوت طيفًا مشتركًا بين النبطشي ومغني الفرح والمسطول والمونولوجست وأداء شخصية أبو العربي الكليشيه المعروف في التنكيت على أهل بورسعيد والقنال، ويغني “أنا وأنا ماشي في تل أبيب”.

يأتي تفكيك الجمل وعدم ترابطها وتحويلها لإفيهات بلا معنى نابعًا من طيف شخصية المسطول المتضمنة داخل الدور الذي يؤيديه كتكوت على مسرح اﻷفراح، والمعتاد ألا يكمل المسطول حكاية متناسقة. فمن التمشية في تل أبيب إلى “يا عبد السلام إنت التايتانيك اللي ما بتغرقش” ﻻ يهتم كتكوت بتقديم حكاية مترابطة من سرد خط لحكاية لها رأس وذيل، بل يستبدلها بسحابة من الإفيهات الطائرة مثل دخان الحشيش تعادل حالة الانبساط الناتجة عن الجلوس في محششة، وهي حالة تنسحب إلى المنتج الموسيقي النهائي بحيث يوحي هو اﻵخر بسحابة الكيف.

كتكوت هو لسان محمد عبد السلام الصامت دائمًا، وعبد السلام هو محرك كتكوت. “عبد السلام خلاني إنسان آلي“، النغمة المميزة لعبد السلام هي المزمار، تأثير من تأثيرات اﻷورج أو السنث يقارب صوت المزمار البلدي، وهو عند عبد السلام جملة لحنية إيقاعية مكررة تختلف باختلاف الحفل أو الفرح ولكل موسم وموقف جملة جديدة، فقد تكون الجملة ذات صوت إلكتروني يُوحي بأثر فضائي إذا كانت تعليقًا على تحول كتكوت لإنسان آلي أو جملة راقصة توحي بالسخرية إذا كانت تعليقًا على ترشح كتكوت لرئاسة الجمهورية، ﻻ يحتاج عبد السلام لصوت متكلم طالما أن اﻷورج صوته المُعلق الذي يرد على إفيهات كتكوت. فحينما يعلن أن “الشعب لازم ياخد ٣ هوبا” ﻻبُد أن يعلق عبد السلام بتتابع هابط على مفاتيح اﻷورج ليكمل حالة السخرية.

كانت المهرجانات السلف السائد في اﻷفراح الشعبية قبل حالة المزمار والنبطشي التي يمثلها عبد السلام وكتكوت، سلف لم يتحرر من المعنى بعد حتى وإن تمردت المهرجانات على التعبير الشائع في موسيقى التيار السائد التجاري، فالمعنى في المهرجان ﻻ زال متضمنًا داخل نص يتتابع سرده على إيقاع ثابت ويحكي حكاية موصولة، في موضوعات لم تغادر أرضية المواويل الشعبية الشاكية من غدر اﻷصحاب والمحذرة من غدر الزمان.

لكن اﻷمر يختلف عند كتكوت وعبد السلام، فالمحتوى الموسيقي ﻻ غرض له سوى حالة الحظ، والحظ معنى قديم للانبساط وحالة الفرح، لحظة عابرة يجب اقتناصها كما يقول المثل السائر “ساعة الحظ ما تتعوضش”، المَغنى يجلب الانبساط والانبساط يجلب الرقص والرقص ﻷهل الحظ مباح وإذا قاطع أحد النبطشية الصغار الناس وهي ترقص ينبهه كتكوت “سيب الناس تتحظ”.

المعنى عند كتكوت وليد الإفيه، يمكن تكراره إذا نجح، والإفيه ملتقط من سحابة اﻷحداث اليومية. هكذا يتحول “النهاردا ٦ أكتوبر” إلى كل يوم بينما ﻻ يتكرر “كهربا كهرب المنتخب بعد كأس اﻷمم اﻷفريقية ٢٠١٧، وموسيقيًا ﻻ غرض للمزمار عند عبد السلام سوى تكرار نغمات بسيطة بإيقاع راقص صاخب ليسهل على الناس الحظ والانبساط.

ينفرد النبطشي كتكوت بعيدًا عن مزماره الصاعد محمد عبد السلام ليلعب نفس الدور مع آخرين، في هنحارب داعش أو مولد الضفدعة مع هاني الجيارة يستثمر كتكوت شخصية أبي العربي الشهيرة بالفشر والمبالغة ليحارب داعش، فيتصل به قائد داعش بدلًا من البت بطة التي اتصلت به سابقًا، لكنه ﻻ يكمل الجملة وينتقل ﻷخرى كما جرت العادة.

دون مصاحبة كتكوت يمضي محمد عبد السلام وحيدًا في مسيرة الغناء الشعبي السائد دون إعادة إنتاج حالة النبطشي والمزمار مع آخرين، ويقدم في عم يا صياد مع محمود الليثي أغنية شعبية حسب النمط المعروف، حتى لو استعار الليثي حالة النبطشي بالنداء على عبد السلام وتقديم الإفيه ” يا عبسلام ما تربربرب” و “ادينا دوامة”، تظل اﻷغنية ذات معنى لفظي ومبنى لحني. معنى لفظي يتحدث عن غدر الزمان ويستعيد أغنية صغيرة على الحب (١٩٦٦) التي غنتها سعاد حسني من ألحان محمد الموجي، ويقتبس جملة من لحن بعيد عنك لبليغ حمدي في “ليه يا كمان غدرك وصل ع الشط قول لي”، كل ذلك يبتعد بما قدمه الليثي بمشاركة عبد السلام عن الحالة اﻷخرى مع كتكوت.

سريعًا سيمضي كتكوت ومعه عبد السلام مثل حالة الحظ والانبساط، مثل سحابة المعاني التي تعادل في منتجهم الموسيقي سحابة دخان الحشيش اﻷزرق، وربما يُنسيان غدًا أو بعد غد، وربما يتم تكرار النمط على يد آخرين. هذا النمط لبساطته ممكن إعادة تكراره أكثر من مرة، هو كالإفيه قد يبقى أو يموت.