fbpx .
السبعة وستين

النكسة كـ بداية | ثلاثة مشاهد من كفاح السويس

علياء مسلم ۲۰۱۷/۰٦/۲۲

المشهد الأول | قسم الأربعين، يوليو ٢٠١١

عندما اندلعت المظاهرات في مدينة السويس، صبّت مسيرة من الشباب في أحد الشوارع المحيطة بقسم الأربعين، مركز الشرطة الذي كان موقع معركة تحرير السويس في أكتوبر ١٩٧٣ وأولى معارك ثورة يناير ضد الشرطة. كان هتاف المتظاهرين يملأ الليل كالرعد:

عضم اخواتنا

نلِمّه نلِمّه

نسِنّه نسِنّه

ونعمل منه

مدافع

وندافع

كرّروا الهتاف مرارًا وتكرارًا وكأنه صيحات حرب. أسألُ البعض منهم إن كانوا يعرفون مصدر الهتاف أو معناه. بعض منهم لا يعرف إطلاقًا وآخرون يعرفون أنه هتاف نابع من أحداث الستينيات، ولكن لا أحد يربط الهتاف بأغنية فات الكتير التي كانت تُغنى على الجبهة أثناء حرب الاستنزاف بين يونيو ١٩٦٧ حتى أول فبراير ١٩٧٤. الأغنية هي من أكثر الأغاني المحملة بإحساس مزدوج يمزج بين الهزيمة والإصرار على القتال والبقاء حتى تنقلب الآية.

فات الكتير يا بلدنا

ما بقاش إلا القليل

بينا يللا بينا

نحرر أراضينا

وعضم إخواتنا

نلِمّه نلِمّه

نسِنّه نسِنّه

ونعمل منه

مدافع

وندافع

ونجيب النصر هدية لمصر

وتحكي الدنيا علينا

بكره يا بلدنا

حنعوض اللي فاتنا

أغنية فات الكتير من أكثر الأغاني التي تُردد عندما نبحث عن سرديات تلك السنوات في ذاكرة أهالي السويس. وإن تلاشت بعض الكلمات وتبخرت القصص مع الزمن، بقي الهتاف مُشبعاً بكل ما مضى. فبالرغم من أن الشباب قد نسيوا سياق الأغنية، ظل الجزء الذي يعرفونه هو ما يتسلحون به قبل الخروج إلى المظاهرة.  تقول هذه العبارات إننا لن ننسى وإننا نقوي أنفسنا بخسائرنا وإنّ ما فُقد هو ما يصنع معدننا، ما يحصننا، وما سيحقق لنا النصر في النهاية.

بين ١٩٦٧ و١٩٧٣ هُجّر نحو مليون نسمة من شعوب خط قناة السويس نتيجة العدوان الإسرائيلي. ولكن هناك من بقي في مدن القناة لتكوين مجموعات المقاومة الشعبية والدفاع الوطني، ومع مرور الوقت وحلول الـ “ضباب السياسي”، التعبير الذي استخدمه السادات لتبرير قرار تأجيل الحرب، بدأت الدولة حملات القبض على الذين عارضوا مواقفها السياسية ونفتهم من المدينة. مع ذلك، قاوم البعض واستمروا في التسلل لمدن القناة والنضال من أجل حقهم في البقاء. منهم من ناضل من خلال عمليات المقاومة الشعبية “غير الرسمية” تكونت المقاومة الشعبية من 'فدائيين' كما سموا أنفسهم أو 'دفاع شعبي' كما سمتهم الدولة وتولوا القيام بعمليات فدائية صغيرة وحماية الممتلكات العامة. وكانوا إلى حد كبير يقومون بتنظيم أنفسهم دون التنسيق مع الدولة. أما في الفترة بين ١٩٦٩ و١٩٧٠ قام البعض من تلك المجموعات بتشكيل مجموعة اسمها منظمة سيناء العربية يقول أعضائها إنهم كانوا تحت إشراف المخابرات الحربية، منهم من كوّن لجان شعبية، ومنهم من تفرغ لرفع الروح المعنوية على الجبهة.

من بين هذه المجموعات خرجت مجموعة ولاد الأرض التي تعاونت فيها  فرقة النضال الشعبية التي أسسها المركبي والمطرب الشعبي سيد كابوريا مع الفرقة التي استحدثها الكابتن غزالي. والغزالي هو مدرب المصارعة الذي كان عضواً في منظمة الشباب الاشتراكي في السويس في الستينيات ومدرب المقاومة الشعبية أثناء الحرب ومؤسس فرقة ولاد الأرض على الجبهة. وبعد قضاء وقت طويل على الجبهة اكتشفت الفرقة المزيد من المواهب بين المجموعات القتالية والدفاعية المختلفة، حتى خرج الغناء والشعر من جميع الذين كانون على الجبهة، أولئك الذي أطلق عليهم اسم الـمُستبقيينMADEO is awesome!. أجمع هنا مقتطفات من حكايات سبع سنوات من النضال، معارك منسية وأسماء أفراد خلدتهم أوتار السمسمية حين أُسقطوا من صفحات التاريخ.

طب وبعدين؟ | سبع سنين في عز الحرب

أكتب عن لحظة يونيو ١٩٦٧ كما يتذكرها بعض أهالي السويس، تحديدًا من خلال الأغاني التي أدّوها أثناء مقاومتهم على الجبهة بين ١٩٦٧ و١٩٧٤- “حتى يتفرغ الجيش للأعمال المهمة” على حد قولهم، غير أني كلما حاولت وصف تفاصيل تلك التجربة، أتعثّر. هي تجارب وتفاصيل تتقطع الكلمات عند محاولة احتوائها ونقلها. لذلك ربما، لدى السوايسة أغانٍ تختزل كلماتها وألحانها مشاعر متضاربة كالهزيمة والعزيمة، أغانٍ تسترجع ما نسيه التاريخ حيث أن “السمسمية بتدي حق اللي التاريخ نسي حقه” كما قال لي عازف السمسمية البورسعيدي إبراهيم المرسي. هي أغانٍ تحمل من الأمل والفقدان ما يستحيل على الكلمات تحمّل عِبئه وأحياناً ما لا تستطيع الذاكرة جمعه. كثيرًا ما يلجأ سكان المدينة لكلمات أغنية عندما يستعصي عليهم وصف لحظة بعينها، وأحيانًا يلجأون إليها لأنها تلخص اللحظة بتفاصيل ومشاعر لا تستطيع أي حكاية لم شملها. وأحيانًا يلجأون للأغنية لأنها توصل المعنى بأقل عدد ممكن من الكلمات، كقدرة الأغنية على إظهار الحقيقة وإحقاق الحق: “حقوا الحقيقة للغيطان، ضليلة”، كما يردد عازفو السمسمية بالإشارة إلى إحدى الأغاني التي تواجه القوى السياسية بفشلها بعد النكسة.

لا يُختصر دور الأغنية في توثيق اللحظات المختلفة ضمن سنين المقاومة الشعبية بين عامي ١٩٦٧ و١٩٧٤ فحسب، بل تنسج أيضًا تاريخ المدينة منذ تأسيسها وتاريخ الوافدين إليها على طريق الحجّ وقصص وأساطير سيدي الغريب عن حفر القناة في القرن التاسع عشر والمقاومة الشعبية من ١٩٤٨ مروراً بـ ١٩٥٦ حتى١٩٦٧. تذكر الأغاني تلك اللحظات وتسرد تاريخاً عابقاً بالتجارب الإنسانية وأحيانًا بالأساطير التي تربط ماضي هؤلاء الوافدين بواقعهم في المدينة – مدينة يستند إرثها على تاريخ سياسي وحربي وروحاني وتجاري، يختزن فيها قصص الغريب، دائماً الغريب، المجهول، البطل أو الشافع الذي تهرول كل القصص لتملأ مكانه، لتفسّر معنى حادثة بعينها – إن كانت حادثة معنيّة بنشأة المدينة أو أخرى أدت إلى نصر مبين في معركة معينة. ولكن بالرغم من أن كل القصص والأساطير تصلح لتفسير الأحداث التي لم توثق بشكل رسمي أو تاريخي، غالباً ما يفضل أهالي المدينة سرد الكثير من القصص والأغاني لملء اللحظة بالاحتمالات، أي بكل ما حدث وكل ما يمكن أن يكون قد حدث، مقاومين بذلك شخصنة التاريخ أو ما يراه كابتن غزالي اختزالاً لأحداث التاريخ في بطولة أشخاص وتواريخ بعينها.

تمنحنا الأغاني إذًا تاريخًا مختلفًا، تاريخًا محسوسًا ملموسًا، يشعرنا بهول الموقف حتى وإن لم نستطع أن نحدد ما حدث بالفعل في تلك اللحظة. ولهذا، ليست الأغاني في السويس مجرد أداة توثيق أو سرد للأحداث، بل هي لغة حميميّة، لغة يتداولها سكان المدينة عندما يُذكّرون بعضهم بالأحداث، أو عندما يريدون نقل الأحداث للمُهجّرين أثناء الحرب في غياب أساليب التوثيق أو الصحافة. فعلى حد قول كابتن غزالي “كنا نوثق تاريخ بالأغاني ونتواصل مع المهاجرين ونتواصل مع السياسة العالمية، ونقاوم السلطة بالأغاني. بنغني عشان نعيش، ونزف عرساننا ونودع موتانا بالأغاني.”

بالنسبة للحرب، كانت الأغاني ترفع الروح المعنوية وتساعدهم على التغلب على أكثر اللحظات صعوبة. لم تكمن الصعوبة في لحظات مواجهة العدو ولا المعارك غير المتكافئة بين جيش العدو والمقاومة الشعبية. بل كانت أصعب اللحظات، بحسب حكايات المستبقيّين، تلك الليالي الطويلة في الخنادق عندما كان يتسلل إلى قلوبهم السؤال القاسي “طب وبعدين؟”، إلى متى يستمرون في البقاء والمقاومة؟ وهل من فائدة من عملياتهم الصغيرة على الجبهة؟ وإذا رحلوا فهل سيبقى هناك ما يعودون إليه؟

لا تحكي هذه الأغاني حكاية الهزيمة الكبرى، على العكس، ففي السويس النكسة هي لحظة بداية سبع سنوات من المقاومة الشعبية بعد هزيمة الجيش، ومن الإصرار على محاربة العدو وإبقائه خارج بلادهم رغم تغير السلطة السياسية واتجاهاتها ما بين ١٩٦٧ و ١٩٧٤. ولهذا سننقطع عن سرد أحداث تلك اللحظة ونركز على ما تحاول الأغاني نقله لنا.

سنة ثورة ٢٠١١ كنت في السويس أبحث في أحداث هزيمة ١٩٦٧ – كنت كثيرًا ما أقابل الكابتن غزالي، وكان في كل مقابلة يعطيني بعض الأغاني لأقرأها إيماناً منه بأنني إن لم أتمعن بقراءتها فلن يصلني معناها. ولأن الأغاني كُتِبت ولُحِّنت بطريقة تشاركية، أي أن الكثير منها مرتجل على الجبهة، فإنها تحمل من تلك اللحظات ما يتعدى القصة أو الحكاية. كنت أركّز في بحثي على الأغاني التي بقيت في ذاكرة العديد من الذين قابلتهم، في محاولة تشاركية أخرى للبحث عن القصص التي أجمع عليها أكبر عدد من المستبقيين. إليكم بعض القصص المتناثرة والأغاني المؤثرة.

المشهد الثاني | السويس، يونيو ١٩٦٧

“انتظروا فرعنا الجديد.. غدًا في تل أبيب”

رفع أحد حلاقي المدينة لافتة طويلة تحمل هذه العبارة بالخط الأحمر العريض فوق متجره في حارة من حواري السويس يوم ٥ يونيو: “من ٥ يونيو والناس مستنية عبد الناصر عشان يطلع يقول إننا كسبنا الحرب” – كان العديد من سكان المدينة ينتظرون النصر المبين، فإذاعة صوت العرب تجلجل في المدينة وصدى صيحات “بشرى يا عرب!” يملأ المخابئ ليلًا حتى يوم ٨ يونيو حين اختلط على أهالي المدينة صوت مدفعية الانسحاب بصوت الراديو الذي يذيع أعداد الطائرات الإسرائيلية المتساقطة. لم تطل مدة الارتباك والحيرة ما بين أصوات الهزيمة التي تجلبها الريح عبر القناة، وبشائر النصر التي تبثها القاهرة عبر الراديو.

في صباح ٩ يونيو كان بإمكانهم رؤية العدو على الجبهة الأخرى من القناة. وفجأة بدأ فيضان العساكر الزاحفين من ميدان المعركة الرملي على المدينة. لم يكن هناك وقت لاستيعاب الصدمة، فتم تعبئة أهالي المدينة على الفور لاستقبال العساكر ومدّهم بالأكل والشراب والملابس وتوفير المبيت لهم من أجل تهدئتهم وإعادة تأهيلهم حتى يكملوا رحلتهم إلى بلادهم. قال الكابتن غزالي – “بعد ٥ يونيو بقى بيننا وبين اليهود مجرد مجرى، هم عندهم كل حاجة، وإحنا ما عندناش أي حاجة.”

مرت سنوات على الهزيمة وبقيت مشاهد العساكر وهم عائدون مهزومين، مشتتين، مذهولين من صحراء معركة هي الأكثر ارتباطًا بلحظة النكسة في الذاكرة الحية لمن عاش الهزيمة والمستعارة ولمن ورثها.

هنا تأتي أولى المشاهد البديلة من أغاني ولاد الأرض، وهي مشاهد تنقشها الأغاني التي حاولت أن تمجد كل عسكري صغير وكل فدائي وكل من استطاع أن ينفذ بجلده من المعركة الخاسرة والهزيمة الفاجعة. ارتبطت في ذهنهم الهزيمة بالعساكر، هم الذين كان علينا تمجيدهم، وهم أيضاً الذين دفعوا ثمن أخطاء القيادة العسكرية مرتين، مرة في ساحة المعركة الفعلية في يوليو، ومرة أخرى عند وصمهم بالهزيمة في ساحة الذاكرة الجماعية.

لذلك بذلت الفرقة مجهودًا في الغناء لمن اعتبرتهم أبطال تلك المعركة، لتسليط الضوء على من تقع عليهم المسؤولية. وفي كثير من الأغاني ربطوا بين قضيتهم وقضية عربية أكبر، فلسطين.

كانت أولى هذه الأغاني أغنية الفاتحة للعسكري (١٩٦٧/١٩٦٨):

الفاتحة للعسكري،

سبع السباع الفللي،

واقف وحاضن مدفعه

بطل وحارس موقعه والفاتحة!

الفاتحة للباكشاويش

حاضن سلاحه

تقول عريس

بيقول ألفين ميكفينيش

أضحي بعمري، وسينا تعيش ... والفاتحة!

الفاتحة لكل ملازم بيحب جنوده وملازم

بيعمل كل اللي لازم

علشان النصر أكيد لازم … والفاتحة!

الفاتحة لكل قائد

ضابط صغير أو رائد

لمجد بلده ناوي وعاقد

النصر ضميره قايم … راقد … والفاتحة!


الفاتحة لكل فدائي

فلسطيني أو عراقي

سوري، لبناني

بيلاقي حتفه في قدسه وسيناء الفاتحة!

كانت تلك الأغاني تغنى على الجبهة والفدائيون يصفقون بأيديهم ويدبّون بأرجلهم على أمل أن يحدثوا من الضوضاء ما يخيل للعدو عبر القنال أنهم أكبر من عددهم الحقيقي. في نفس ثيمة تمجيد كل من انضم للمقاومة، كانت أغنية برهوم. برهوم هنا، كما في كثير من الحكايات البطولية وأساطير الغريب، رمز لكل من ساهم في المقاومة الشعبية مهما قلّت موارده:

برهوم الحشاش

برهوم يا برهوم

يا بو زيد هلال

قوم صحي الناس …

دي بلدنا

عايزانا كلنا …

أي والله

برهوم كان حشاش

عنده جوزه نحاس

باعها وجاب رصاص

يحارب عدوه

برهوم حشاش

قام لمّ الناس

قال لهم مبقاش

ياللا على سينا

برهوم سويسي

والسويس بلده

شاف ضرب عليها

صمم … ليرده

برهوم صنايعي

عاشق مصنعه

حالف ليصونها

ويشيلها في عينيه

برهوم البحري

راكب سفينته

عباها صواريخ … مصرية

غرّق بيها إيلات

كانت الأغاني أيضاً وسيلة لنقل الأخبار لأهالي المهجرين في مدن وقرى أخرى بعد فقدان الثقة في الإذاعة ومنظومة الأخبار. فكان أعضاء فرقة ولاد الأرض يقيمون الحفلات في القرى الأخرى ويحرصون على أن تكون الأغاني سهلة الحفظ حتى يستمر انتقالها بعيدًا عن أرض المعركة، وتصل أخبارهم للبعيد، ويتذكر من نسي أن الحرب مستمرة.

حلول الضباب | الحرب الحرب يا شعب وجيش

بعد موت عبدالناصر ومجيء السادات استمر الحديث عن تأجيل الحرب حتى حل “الضباب السياسي” وتأجلت الحرب إلى أجل غير مسمى. كان تأجيل الحرب والعدو لا يزال قابعاً على ضفة القنال فكرة مرعبة لمن كانوا يتطلعون للعودة الى حياتهم الطبيعية في السويس من مستبقيين ومهجرين، وغير مقبولة لمن كانوا يتطلعون إلى استرداد الأراضي المصرية والعربية.  لذلك كُتبت العديد من الأغاني لتغنى في بلاد المهجرين وفي القاهرة، خصوصًا بين المنخرطين في الحركات الطلابية في بداية السبعينيات كوسيلة للتعبئة ونداء للحرب ولانتقاد سياسيات الدولة العليا.  فكانت أغنية جلا جلا (١٩٧١) نقدًا لاذعاً للسادات:

جلا جلا

شايل شنطة في باطه

تقول حاضن مراته

كله حركات وحياته

كذب/وتزوير ودنجلة

يقعد يخطب بالساعة

كداب زي الإذاعة

في كل كلمة إشاعة

زي الغراب/ في الحنجلة

وانتقدت أغنية يا هباب أحد أعضاء البرلمان (١٩٦٩/١٩٧٠):

يا هباب

سبحان العاطي الوهاب

يعطينا ويعطيك يا هباب

من غير ما تكافح وتناضل

ولا تعرف عن إيه بتناضل

مع إنك غبي وبهيم

مكتوبلك في الغيب يا لئيم

أمانة ورئاسة لمجلس

كرسي وعلى كرسي تمجلس

وتلهف مية وثمانين

وتخلي عيشتنا هباب

كتبت الأغنية التالية (١٩٧٣) كرد فعل على الأفلام والأغاني التي ملأت الساحة الفنية، وهي ما كان يعتبره المستبقيين سياسةً لتشتيت الناس وإلهائهم عن الحرب في السويس. تشير الأغنية لفيلم خللي بالك من زوزو (سيناريو صلاح جاهين وإخراج حسن الإمام) وفيلم امتثال (سيناريو ممدوح الليثي وإخراج حسن الإمام) ولعيب كرة القدم (في النادي الأهلي) عبد العزيز عبد الشافي المعروف بـ زيزو - وهذا لأن المغنين كانوا يعتبرون الأفلام والأغاني ومباريات كرة القدم قد ألهت المصريين عن الحرب.

خلي بالك من زيزو

وإحكي حكاية مرمر

واللي يجيب سيرة الخلاص

من بوزه يتجرحر

مدد يا ست امتثال

يا أم التاريخ في الهالي جال

إيه يعني

ما في داهية الرجال

وفي داهيه سينا والقنال

إيه دخلكم؟ ما الحاله عال!
والأمريكان عاشقين بوزو

عمار يا مصر بحسهم

والكباريهات وبوسطهم

وصحافة خايبة تحسهم

وتحكي عنهم ظرفهم

وليه يا فقر تغمهم

دي الكورة لسه مع زيزو

المشهد الثالث | ترعة المغربي، يناير ١٩٧٤

“المشكلة إننا كنا غير رسميين”

بعد أسبوعين من عبور القوات المصرية لقناة السويس في السابع من أكتوبر ١٩٧٣، ضُرب حصار حول الجيش الثالث الميداني في صحراء سيناء واتجهت القوات الإسرائيلية ناحية السويس مرة أخرى فيما سُمي وقتها بالثغرة للمزيد عن الثغرة - حرب أكتوبر. مذكرات سعد الدين الشاذلي. إصدار رؤية للنشر والتوزيع، ٢٠١١ (ص ٤٠٧-٤٥٦). عندما عرف المستبقيين باقتراب جيش العدو من المدينة، قاموا بالتعبئة والاستعداد لمواجهته. سلحوا أنفسهم بأسلحة مخازن مشارح المدينة (أسلحة جنود الجيش الذين دُفنوا في السويس)، وخاضوا مواجهة العدو عند قسم الأربعين بين ٢٤ و٢٦ أكتوبر. أدت المواجهة بين الجيش الإسرائيلي وعدد محدود من الفدائيين المدنيين إلي دفع مدرعات جيش العدو خارج حدود المدينة وحصار المدينة الذي عرف بـ حرب المئة يوم ويوم، من ٢٤ أكتوبر، حتى ١ فبراير ١٩٧٤. بعد الكثير من المفاوضات بين الجيشين وتدخل قوات المراقبين الدوليين لوقف إطلاق النار، توقفت الحرب وعمليات المقاومة وحان وقت رسم الحدود. على عكس تجربة حرب الاستنزاف، كان التنسيق بين الجيش والمقاومة الشعبية ضعيفًا جدًا إن لم يكن معدومًا، مما عزز من إحساس أفراد المقاومة الشعبية بأنهم غير رسميين – حتى وإن كانوا هم من استطاعوا إبقاء العدو خارج مدينتهم طوال هذه المدة بالمقاومة غير الرسمية. لم يكن واضحًا مدى قدرتهم على الإبقاء على حدودهم أو التدخل في المفاوضات بين الجيشين. ولذلك، وأثناء لحظات رسم الحدود، حاولوا على الأقل أن يثبتوا وجودهم في كل نقطة حتى يتأكدوا أن حدود المدينة سوف يتم رسمها كما عرفوها وعاشوا عليها هم، وليس حسب أي اعتبارات استراتيجية لدى الجيشين.

وفي أواخر أيام يناير ١٩٧٤، تجمع عدد من الفدائيين ووقفوا قرب قوات المراقبين الدوليين وهم يعاينون الحدود من قرب ترعة تسمى بترعة المغربي ليرسموها حسب خرائطهم. وعندما انتقلت قوات الأمم المتحدة لنقطة أخرى على بعد مئة متر من الحدود، سارع الفدائيون للوصول قبلهم، ووقفوا مرة أخرى قرب القوات ليثبتوا وجودهم على الأرض التي هي جزء من مدينتهم. وكلما تحركت القوات الدولية، هرولت مجموعة الفدائيين لتسبقهم إلى نقطة تلو الأخرى وفي كل لحظة يظهر أحدهم، ويظل الباقون جالسون بالقرب منه حتى يظهرون كأنهم مجموعة من المواطنين أو القوات المصرية على طول الخط. وحاولوا ألا يظهروا أنهم نفس المجموعة، وأنهم ينتقلون من نقطة إلى أخرى في محاولة لتعويض فراغ المدينة، وخوفًا من رسم خرائط حسب أي اعتبارات غير اعتبارات وطنهم. ظلوا في هذا السباق وهذه المسرحية لمسافة ست مئة مترٍ حتى لاحظت قوات المراقبين الدوليين أنهم ليسوا مواطنين يعيشون على هذه النقاط الحدودية، ولا هم جيش يحمي الحدود، بل هم الأفراد العشرة ذاتهم الغير الرسميين أو الـ كوماندوز كما كانوا يُسمون المقاومة الشعبية آنذاك فطلبوا منهم الانصراف.

بقي من بقي في السويس ليكافح من أجل الحفاظ على المدينة، وكانوا يخافون من أنهم وإن لم يدافعوا عن مدينتهم بأيديهم، سيفقدونها. غير أنه كان هناك خوف آخر عقب إنتهاء الحرب  وهو ألا يسمع أحد صوتهم أو سيرتهم وسط ضجيج المعركة الكبرى، أي معركة الجيش في الميدان من جهة، ومعركة كتابة تاريخ نصر حرب أكتوبر من جهة اخرى.

ولذلك كانت الأغاني مهمة لتوثيق المعارك ومن فقدوا فيها. وكان هذا يحدث أثناء الحرب من أجل نقل القصص والسير لأهالي المدينة المهجرين، كما كان يحدث لتوثيق معاركهم وتاريخهم وتضحياتهم التي سرعان ما هُمشت وكأنها تاريخ غير رسمي.

من هذه الأغاني أغنية خلديهم يا بلدنا التي كتبت عن شهداء معركة تحرير السويس في بداية حرب المئة يوم ويوم عام ١٩٧٤:

خلديهم يا بلدنا

لما نصرك يبقى عيد

علي محرم ابن قلبك

مصطفى وأخوه سعيد

خلديهم يا بلدنا

وإيدي منهم نور صباحك

خلدوكي هما قبله لجل ما تعودي لبراحك

إبراهيم سليمان وأشرف

أحمد أبو هاشم في أشرف

ملحمة والمولى حافظ

ندهتك فايز وحافظ

والسويس آذان ومدنى

خلديهم يا بلدنا

في ظل غياب متاحف أو منصات تفرض أي سردية رسمية حول أحداث الحرب في السويس أو حتى احتفاء رسمي لدور الفدائيين أثناء حرب الاستنزاف، وفي ظل ندرة توثيق حرب المئة يوم ويوم، تظل هذه الأغاني أقوى تذكار لأحداث كفاح المستبقيين من يونيو ١٩٦٧، وحتى انسحاب الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية في فبراير ١٩٧٤.

فهمتي يا أستاذة؟

 “… إن كثيراً من الفضوليين وكتاب القصص والصحفيين السطحيين سيتخذون من هذه المادة فرصة للكتابة عن القلعاوي،  ماذا سيقولون عنه؟ إنه عاش بطلاً؟ إنه شجاع؟ إنه قام بعبور قناة وسيناء أكثر من تسعين مرة؟ هل هذا ما يجب أن يقال عنه حقيقة؟ ثم سينسون كل شيء. قال (ك.ي) أنه لن يشارك في استباحة دم أقرب الخلق إليه. قال إن القلعاوي يجب أن يذكر بطريقة أخرى أنه يعيش هنا- خبط صدره براحته- في رجال المجموعة”. من حكايات الغريب لجمال الغيطاني.

توفى الكابتن غزالي قبل شهرين تقريباً، في الثاني من أبريل ٢٠١٧. آخر مرة رأيته فيها كان في أواخر عام ٢٠١٦. رغم مرضه بقي سريع البديهة، يملأ حس السخرية والفكاهة حكاياته. كان حكاءاً ماهراً، ولكن الحكي لم يأخذ مكان الأغنية. قد اقتبست معظم حكايات هذا المقال وأغانيه مما قاله لي في لقاءاتنا في السويس  بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٢ حينما كنت أنهي بحثي لرسالة الدكتوراه عن تجربة النكسة في السويس. كان الكابتن غزالي ضمن الكثيرين من المستبقيين الذين يصرون على حكي التجارب من خلال الأغاني. وكان دائمًا يرسلني في نهاية كل مقابلة للمغني سيد كابوريا وفرقته المكونة من أعضاء فرقة أولاد الأرض وأعضاء جدد، لأسمع غنائهم. لكن قبل الذهاب لسيد كابوريا كان علي أن أقرأ الأغاني أولًا – ليتأكد من مخارج حروفي وضبطي لإيقاع الأغنية، وكأنه إن لم أتمكّن من قراءتها، فلن أستطيع فهم ما حدث. في نهاية كل مقابلاتنا وعندما كنت أنتهي من قراءتي للأغاني كان يسألني: “ها؟ فهمتي يا أستاذة؟” كنت دائمًا أرد بـ”نعم” على استحياء لأني لم أكن أعرف ما كان يجب علي أن أفهم بالظبط.

Suez (1)

لعلّ الأغاني تأتي من لحظة أكبر مني ومنه ومن كل من بقي من تلك اللحظة، لعلها تختزن تجارب كل من كان معه، تجارب من الصعب وصفها، كلحظات الانتظار الطويل والسؤال الأصعب “طب وبعدين؟”

أصر الكابتن غزالي ألا يتذكر أبطالاً بعينهم – فلا يمكن لأي شخص أو أي بطولة أن يلخصا تلك السنين التي أمضوها على الجبهة وهم لا يعرفون بداية من نهاية، ولا نية الدولة من الحرب، تلك السنين التي أمضوها في الانتظار ومحاربة الخوف الأصغر – خوفهم من الموت – والخوف الأكبر – فقدان مدينتهم وموطنهم – السويس.

وددت في البداية أن تكون هذه مقالة عن الكابتن غزالي نفسه – ولكني لم أعرف ماذا أقول كي أُعبّر عن محبتي له وعند السوايسة وأهميته في تلك اللحظة ودوره في تشكيلها. فكما قال ك.ي. عن القلعاوي في حكايات الغريب في رواية حكايات الغريب لجمال الغيطاني كان عبدالله القلعاوي قائد مجموعة عسكرية تسمى بالمجموعة السابعة -قامت بعمليات بطولية في سيناء قبل حرب السادس من أكتوبر. وكان يحاول بطل الرواية أن يجمع قصص/معلومات عنه هو وأبطال مجهولون أخر، أي قصة أو سيرة حوله ستبدو مبتذلة، تحدد دوره، وتقلل من ذكراه.

لهذا، لم أجد طريقة أفضل لأتذكر الكابتن غزالي سوى أن أضع الأغاني، بكلامه وقصصه هنا حتى يتسنى لكم الاستماع اليه والى آخرين مثله من خلالها. إن كانت النكسة بالنسبة لنظام ثورة يوليو نهاية ما، فإنها كانت في السويس بداية سبع سنوات من المقاومة والكفاح، ربما باسم قيم الثورة واستقلالها وربما باسم ما هو أهم منها: بيوت السويس.

في آخر جلسة قراءة الأغاني معه، طلب مني أن أقرأ أغنية مرثية للشهدا، وقد كتب الغزالي كلماتها حين استشهد أعضاء ولاد الأرض في إحدى المعارك في يوليو ١٩٦٩.

مرثية للشهدا

غضبان وجاني صوته

من قلب قلب الموت

غضبان وبيعاتب

يا قلبكم

وعرفت رسمه

من قلب  قايمة أسامي

كذبكم

مع إنكم

قاتلينه… إنتوا

بصمتكم

سلطان

يوسف حسين

يا نجمتين…. ضي… من قلب السويس

يا فرج، يا عويس

يا كل الشهدا… يا ولاد بلدي

يا ناقشين سعادتي بدمكم

إكمنكم

أصدق

وأشرف مننا

طول عمركم

سلطان سلطان سلطان

يوسف حسين

يا نجمتين ضي من قلب السويس

يا فرج يا عويس

سير يا نسيم الصبح… نااار

متعدي

وأعصر جراح قلبنا

لفلف ودور في البوادي

واحكي حكاية عمرنا

طفي النور يا بلدنا

يا بلدنا طفي النور

وأمضغي صبرك يا بلدنا

يمكن نهب… نثور

نفرش عضانا نهار

تتحني بيه وتمدي

سير يا نسيم الصبح

نار ما تهدي

للمرة الأولى وجدت نفسي متأثرة وسيل من المشاهد التي حُكيت لي تنهمر في ذاكرتي المستعارة. توقفت بضعة مرات من قوة تدفق المشاهد والمشاعر، وعندما انتهيت، سمعت السؤال المعتاد: “فهمتي يا أستاذة؟”. نظرت إليه ورأيت عينيه دامعة، لكنني هذه المرة لم أستطع الرد. فقد استوعبت أخيرًا أنني لن أفهم أبدًا. ولأول مرة وللحظات خاطفة، أحسست بهول الهزيمة.

المزيـــد علــى معـــازف