.
معازف: في كانون أول/ ديسمبر 2010، كنتِ قد قدّمتِ في الأردن واحد من أول عروض أسطوانة “ونبني“. اقتصر عدد الحضور على 70 شخصاً كما اشترطت أنتِ. تم أخذ الحضور طابقين تحت المركز إلى غرفة البويلر، مارين بأرفف تركت عليها ملفّات رسميّة، وحيث جلس الحضور بين المواسير والغبار. كيف ترين علاقة المكان بالتلقّي؟
كميليا: كان هذا على ما أذكر أول عرض للمشروع في بلد عربي.
أنا لم أطلب أو أبحث عن مكان بهذه المواصفات تحديداً. كل ما أردته هو مكان صغير يتسع لستين أو سبعين مستمع. والفكرة من وراء ذلك هو اهتمامي أنا وشريكي في العمل– فيرنر هَسْلر بتقديم عرض موسيقي في جو قريب من ما يسمى بـ“موسيقى الحجرة“. وبما أن المكان الوحيد المتوفر في بناية المركز الثقافي، بهذا الحجم، كان “غرفة البويلر“، وافقتُ على ذلك.
صادف أن المكان يذكّر بأجواء ستوديو عمل: أسلاك وغبار وغيره ليس إلا. ورأيت أن هذا الديكور تناسَب، نوعاً ما، مع الحدث. لا أخفي أن الغبار أحد أعدائي اللدودين، ودفعت الثمن غالياً بنوبات سعال سبقت العروض. لذا أقول أن الفكرة الأساسيّة كانت تقديم عرض “ونبني” أمام جمهور صغير، وفي مساحة صغيرة وكأننا في غرفة التدريب.
لا شك أن للجمهور دور مهم في شكل أو سير العرض. ومن تجربتي أقول أن العدد المحدود والمساحة الصغيرة من شأنها أن تساهم، أو أن تلعب دوراً إيجابيّاً في إضفاء شروط تواصل مريحة للعطاء والتلقي. خاصة في حالة موسيقى ليست مألوفة بالضرورة.
أريد أن أضيف نقطة هامة هنا: أننا في سعينا، أثناء تنظيم هذه الجولة من عروض “ونبني” وإيصال المشروع إلى مدن ومناطق لا ندعى إليها كثيراً، أردنا أن نتحكّم بتشغيل أجهزة ومكبّرات الصوت بأنفسنا، وبدون مساعدة مهندس صوت (لأسباب اقتصاديّة). ولذلك، كانت شروط المكان الصغير والعدد المحدود مهمّة جداً. بل أساسيّة.
عدا عن أن هذه التجربة اسثنائيّة نوعاً ما. إذ عادةً ما نقدّم العروض الموسيقية ضمن شروط عاديّة أو تقليديّة.
معازف: البعض يصف أعمالك بالنخبوية. هذا الاتهام كثيراً ما يكون مجرّد طريقة لدرء كل ما هو جديد ومختلف وإشكالي. ما هي أشكال المقاومة التي تشعرين بأنك واجهتها خلال مشروعك الفني؟ وهل تشعرين بأن أعمالك نخبويّة؟
كميليا: أوافق القول أن تصنيف “نخبوي” مجحف، وبحقّ جميع الأطراف. ولا أقول ذلك من موقع الدفاع عن النفس. في رأيي هو تصنيف أصابه التقادم ربما، إذ يلقى كل ما هو جديد استقبالاً مستهجناً، وهذه ظاهرة معروفة نوعاً ما، ولا أراها سيئة، تتراوح أو تختلف باختلاف المكان والثقافة، ولها علاقة ربّما بمدى تعرّض الأشخاص أو الثقافات، واهتمامها بما يصدر من إنتاجات بالتذوق بدرجة المخزون الثقافي، وغيره.
معازف: هل تفكّرين بتلقي المستمع وردّ فعله أثناء التلحين؟
كميليا: أثناء عملي لا أفكّر بمسألة المتلقي، أو بمسألة الجدوى من الناتج. قلقي وانشغالي وقت العمل لا يُبقي متّسعاً لانشغالات أخرى. ومن ثمّ تأتي المرحلة التالية: وهي العمل على الأداء والتنفيذ: وهذا قلق من نوع آخر لا يقلّ حجماً.
التفكير بالآخر عملية حاصلة في ذهني بشكل لا واعي، ولا تأتي على شكل مهمّة معيّنة عليّ أن أقوم بها بلحظة معينة.
معازف: هل أن تتحدثي أكثر عن هذا القلق؟ وهل فترة تأليف الأسطوانة وتسجيلها صعبة ومرهقة إلى هذا الحدّ؟
كميليا: فكرة إنتاج الأسطوانة تأتي عادة في مرحلة لاحقة، أي أن ما يسبق ذلك ويفوقه أهمية هو، أولاً: تحديد الفكرة لمشروع معين، ومن ثمّ تأتي مرحلة تنفيذ هذه الفكرة– أي تحديد العناصر المكونة من التلحين وبناء المحتوى. ومن ثمّ مرحلة التمرّس والتمكّن من الأداء الحي.
إنتاج الأسطوانة، أو الشريط، أو الألبوم، أو العمل– بمعنى لحظة توثيق وتسجيل الحدث ليصبح بعدها بمتناول من يهتم بالاستماع إليه، هي مرحلة خاصة يجب التحضّر لها جيّداً، لأنها تعني أننا سنقبل بإيقاف عقارب الزمن في لحظة معينة قد لا تكون هي المثلى بالضرورة، أو قد لا نكون بلحظتها في قمة التجلّي أو العطاء الفذّ. ولكننا نضطرّ لأن نقبل بذلك– نظراً لأحكام التقيّد بشروط– وإلا فلن نتقدّم. ومن هذا المنظور، أفضّل القيام بعملية التسجيل بعد تقديم العمل عدة مرات أمام جمهور.
هذا من ناحية.
من ناحيه أخرى: تتطلّب عملية إنتاج أسطوانة منِتجاً أو دار إنتاج، ومن ثم دار توزيع– طالما وصلنا إلى هذا المرحلة. ومن الأسهل أن تتوفّر دار إنتاج وجهة توزيع قبل المباشرة بعملية التسجيل، وذلك لعدة أسباب. ذلك لا يعني أنه لا توجد طرق أخرى للإنتاج، ولكن ذلك يتطلّب بالنتيجة طرق أخرى للعمل. فلكل مسار أحكام وصعوبات وفوائد. وقد عشت التجربتين.
أكثر من أب موسيقي واحد
معازف: هل توافقين على أن ليس لتجربتك آباء، وعلى الأرجح لن تنتج مريدين موسيقيين؟
كميليا: أرجو أن أكون فهمت المقصود من السؤال. لا أعتقد أن تجربتي جاءت من الحائط، أو من فراغ. ولا أطمح لأن يكون لي مريدين، بمفهوم الشيخ ومريديه.
دعني أوضّح قليلاً: أرى أن ارتباطنا، أو علاقتنا بالفن، لحسن الحظ، ليست بيولوجيّة كما هي علاقتنا بآباننا أو أبنائنا، (وحتى لو كان هناك نوع من التناظر بين الحالتين، إذ هناك احتمال– شئنا أو أبينا– بأن نشبه آباءنا. ولكن بإمكاننا أيضاً، إذا شئنا، أن نشبههم بأمور ونختلف عنهم بأخرى). ولنا، أو لي على وجه التحديد، في حالة العلاقة غير البيولوجيّة، الخيار في أن أعتمد أكثر من “والد واحد“. وأن أطمح لأن يكون أبنائي بدورهم شيئاً آخراً إن هم اختاروا ذلك.
معازف: قلتِ سابقاً أنك مللتِ من غناء أم كلثوم في الرابعة عشرة. لتأتي مرحلة فرقة “صابرين” والبحث عن فرص أوسع بعدها، ثم “وميض” مع فيرنر هَسْلر، ثم البحث عن فرص أوسع في أسطوانة “مكان” الفرديّة. ومن ثم العودة مع فيرنر في “ونبني“. والآن تطلقين “نول” مع عازفة الكونتراباص سارة مورسيا.
أنتِ، بهذا، تستمرين بفتح مساحات موسيقية جديدة في أعمالك. أين ترين نفسك تتجهين في الموسيقى التجريبيّة؟ بمعنى آخر، ما الذي تبحثين عنه في تجاربك المستمرة؟
كميليا: دخلت، منذ طفولتي، إلى عالم الموسيقى من باب الأغنية. ووجدتّ نفسي، في مرحلة لاحقة، منخرطة، وبشكل واع، في عملية خلق لأغنية. لتتطوّر المسألة أكثر وتصبح نوعاً من هاجس مُلحّ. ذلك عندما أدركت هول سعة الفضاء، أو المجال.
أستطيع تلخيص ما أنا بصدده، في مشاريعي المختلفة، أنه محاولة للاعتناء بالأغنية، والوصول بها إلى مناطق جديدة. أرى وأشعر كل يوم أن الوقت أمامي يقصر، وبأنني ما زلت في مؤخرة الأحداث. هذا هو محرّكي اليوميّ. وهو جزء كذلك من هذا القلق الذي تحدثّت عنه.
البقاء بالقرب من الشعراء، واللغة
معازف: في أسطوانة “مكان“، تمّت كتابة أربع من النصوص خصيصاً لك وبناء على طلبك. ما هي المعايير التي تعتمدينها في اختيار النصوص؟ وأين تتم لحظة صناعة الأغنية: في الكلمات أو اللحن؟
كميليا: على النص أن يعجبني. أن يخاطبني. أن أجد نفسي فيه. أما بالنسبة للحظة صناعة الأغنية، فقد تأتي الفكرة اللحنيّة قبل تحديد أو اختيار النص، وقد يكون العكس. ليس هناك قاعدة.
معازف: كيف تتم عملية التعاون مع الشاعر؟ هل تبدأ من قصيدة موجود أصلاً أم من فكرة أو توجه لديك أو للشاعر/ة؟
كميليا: في حالة تواجد شاعر على اطّلاع وعلى قرب وتواصل مع تجربة الموسيقي، ستكون هذه فرصة رائعة جداً حالفني الحظ أن أتذوّق بعضاً من جماليتها أثناء مرحلة تعايشي مع فرقة صابرين. عندما تعاونّا مع الشاعرين حسين البرغوثي وصبحي زبيدي من فلسطين. ومن ثم مع الشاعر سيّد حجاب من مصر.
منذ عام 2002، وعندما ابتدأت تجاربي الأولى في تلحين ما أغنّيه، اعتمدت عملية اختيار عفوية لنصوص معاصرة أعثر عليها أثناء قراءاتي. فإذا أعجبتني أحاول الالتقاء بصاحب النص– إذا أمكن. وهذا اللقاء، حتى لو أنه يأتي في لحظة متأخرة، إلا إنّه يهمّني جداً بما يتعلق بفهمي واستيعابي، ومن ثم تصرّفي بالنصوص.
أودّ أن أذكر في هذا السياق أن هناك قناة تبادل وحوار مفتوح مع صديق لي، الكاتب والشاعر سلمان مصالحة. وأحظى بين فترة وأخرى بالاطلاع على قصائده وخواطره. وسبق وأن استخدمتُ بعضاً منها لمشاريع مختلفة. مثل مشروع فيلم “رنّات العيدان” (2005-2006)، والذي قامت بإخراجه آن ماري هالر، وهي مخرجة من بيرن، حصل بيننا تعاون مشترك “مقصود” هذه المرة، حيث تحدّثنا وناقشنا موضوعات الفيلم. وعلى إثر ذلك طلبت منه معالجة بعض هذه النقاشات في نصوص، استخدمت جزءاً منها لأغراض الفيلم، وكذلك لاحقاً في أسطوانة “مكان“.
معازف: “أأقدر أن أحذف هذا التاريخ الدموي، وأكتب تاريخي وحدي“. أداءكِ للعبارة في أغنية “ونبني” معبّرة ومؤثّرة للغاية. هل لك أن تتحدثي قليلاً عن اختيارك لهذه القصيدة، وعن كيفية تعاملك معها وتلحينها؟ هل كان هناك حوار مع الشاعر قبل التلحين؟
كميليا: سأتحدّث عن قصّة أخرى. اتّضح لنا، فيرنر هَسْلر وأنا، وخاصة بعد تقديم العشرات من العروض لمشروع “وميض“، بأن الاستمرار في تطوير لغة التخاطب الموسيقي بيننا بات أمراً ملحّاً. تساءلنا نحن الاثنان عمّا ستكون عليه أغنية “الشاطئ الآخر” لو قمنا بإنتاجها الآن، أي بعد مضي ست سنوات أو ما يقارب ذلك على تعارفنا. وأتى الجواب بأغنية “ولسنا” في أسطوانة “ونبني“. وكانت هي إنطلاقة هذا المشروع. اختلفت طريقة العمل في هذا المشروع عن سابقه. إذ قمنا بتحضير الموضوعات اللحنيّة والأفكار الموسيقيّة كلها تقريباً معاً، وبمعزل عن التعامل المباشر مع النصوص. وجاءت النصوص واختياراتها في مرحله لاحقة.
في هذا المشروع، ومن منطلق الحفاظ على مستوىً معين من النمو الطبيعي للعمل على مستوى الكلام أيضاً، عدت للالتقاء بأصحاب النصوص التي استخدمتها في أسطوانة “وميض” للبقاء على إطلاع بآخر إنتاجاتهم. وجاء اختيار نص أغنية “ونبني” على هذا الأساس، وذلك إثر لقائي ثانية بالشاعر فاضل العزاوي بمنزله في برلين، ومشاركته إياي ببعض آخر ما كان قد كتبه في حينه. كذلك كان الأمر مع عائشة أرناؤوط وسوسن دروزة. إضافة إلى حسن نجمي الذي كنت تعاملت مع بعض نصوصه في أسطوانة “مكان” إثر لقاء لنا في مدينته الرباط.
بالنسبة لأغنية “ونبني” بالتحديد. فمن حيث الجانب الموسيقي، رغبت في التعامل مع المقام الذي اخترته بطريقة مختلفة، مثل تصويره على درجة ليست مألوفة بالضرورة. إذ أن إعطاء أهمية لنغمات معيّنة ليس ضرورة أساسيّة من حيث تراتبها التقليديّ. كما رغبت بخلق فضاء، مع فيرنر، تأتي عناصره الصوتيّة من عالميْنا. (ينطبق ذلك على جميع أغاني المشروع بالمناسبة) كل ذلك سبق اختياري للنص. أما بحضور النص، فقد تم إجراء تعديلات كاختزال النص الطويل، واختيار مقاطع رأيتها مناسبة ووافية، ومن ثم بناء تسلسل للتصاعد الزمنيّ للأغنية، مع استخدام العناصر الموسيقيّة التي كنا قد حددناها.
معازف: لاحظنا أن موقعك الإلكترونيّ باللغة الإنجليزية فقط، وكافة المواد الصحافيّة عليه باللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة. السؤال: ما رأيك بالوضع الحالي لصحافة النقد الموسيقي في العالم العربي؟ هل تجدين تعاملاً كافياً/ مقنعاً مع أعمالك باللغة العربيّة؟
كميليا: أولاً أعترف بتقصيري في متابعة ترجمة مواد الموقع إلى العربيّة. إذ كنت بدأت بذلك، ولكن سرعان ما أهملت الموضوع، خاصة وأن موقعي تديره شركة يونانيّة، ذلك يعني إما أن أقوم أنا بهذه المهمة أو لا أحد. وهذا ما يتطلّب الكثير من الوقت والمجهود.
من ناحيه أخرى، صحيح أن غالبية التعليقات أو المقالات النقديّة تأتي بلغات أخرى غير العربيّة. ربما لأن غالبيّة العروض التي أقدمها تقام في بلاد غير عربيّة، وربما لقلة النقّاد الموسيقيين العرب من ناحية أخرى.
كيمياء الموسيقيين، والأعواد
معازف: عندما تتعاونين مع موسيقيين، ما الذي تبحثين عنه فيهم من مواصفات؟
كميليا: هناك ما يسمى بـ“الكيمياء“. وهو أمر لا بد منه. ومن ثم مجال الفكر والبحث الموسيقي الذي يتواجد فيه الشخص المعني. بمعنى نوعية الموسيقى التي يقدمها. ومن ثم تأتي تفاصيل أخرى، مثل التساؤل وحب الاستطلاع. ذلك عدا الموهبة والخبرة بالطبع.
معازف: كيف التقيت بفيرنر هَسْلر؟ هل كان لك اهتمام سابق بالموسيقى الإلكترونيّة، أم أن هذا الاهتمام كان تابعاً للقاء؟
التقيت بفيرنر بمحض الصدفة. إذ كان اسمه وارداً على قائمة بأسماء لفنانين وفنانات مقيمين في سويسرا أعطيت لي من قبل مؤسسة برو هلفيتسيا– الجهة المانحة للإقامة الفنيّة التي حصلت عليها في حينه لفترة شهري أيّار/ مايو وحزيران/ يونيو (2002) في مدينة بيرن. وكان من أول ممّن أبدوا استعداداً واهتماماً للقائي في حينه.
كانت لي اهتمامات بالموسيقى الالكترونيّة قبل لقائي به بفتره معينة، وتعزّز هذا الاهتمام وقت اللقاء بالطبع.
معازف: هل لك أن تصفي لنا عودك؟ صانعه ومدة اقتنائك له؟ هل تغيّرين أعوادك للحصول على نبرات وأصوات مختلفة؟ أو الأوتار مثلاً؟
كميليا: صنع لي والدي هذا العود عام 2006، وذلك أثناء تصوير فيلم “رنّات العيدان“. أمتلك عوداً آخراً أيضاً من صنع والدي، لكنه أقدم منه ببعض السنوات.
يتشابه العودان من حيث الحجم المصغّر نسبيّاً لعمق انحناءة الصندوق المصوّت لهما، ومن حيث نوعية الصوت. علما بأن أحدهما له نبرة أعمق (باص) من الآخر بقليل– وهو العود الذي أستخدمه في عروضي المنفردة على الأغلب. تعجبني هذه النوعية من النبرة أو الرنين (وسط– منخفض)، وتتماشى مع طبقة ولون غنائي.
التاريخ اليقظ
معازف: كيف ترين العلاقة بين الثورات العربية والاتجاهات الموسيقية الجديدة التي بدأت تظهر مؤخراً في العالم العربي؟
كميليا: من الطبيعي أن يتم التعبير عن التحرّكات في الأقطار العربيّة المختلفة على المستوى الموسيقيّ أيضاً. ينعكس ذلك في الفيض الهائل من الإنتاجات الموسيقيّة. يأتي الكثير ممّا نسمعه مؤخراً مبنيّاً على عملية “فعل ورد فعل” أكثر ممّا هو على أساس فكري فنيّ– وربما أكون على خطأ. بنفس الوقت، قد يكون من السابق لأوانه التقييم أو إصدار أحكام، وغيره. خاصة وأنّنا في مزاج، أو مرحلة احتفائيّة بالتحرّر من نير عبودية “الأحاديّة“، والمطالبة بمصداقية تواجد “الإمكانيات الأخرى” على مستوى عام .
كل مرحله تحتاج وقت.
معازف: هل أثّرت هذه الأحداث على عملك؟ وإن أثّرت، فهل كان هذا سلباً أو إيجاباً؟
كميليا: أتابع ما يحدث الآن وبشغف وترقّب– شأني شأن جميع من يتابعون الأحداث والتطوّرات، وبكل ما يواكب ذلك من تخوّفات وتفاؤل. إذ دخلنا، برأيي، مرحلةً جديدة من مراحل التاريخ من الواضح أنها ستطول. ومن السابق لأوانه معرفة ما سيكون وقع هذه التغييرات على عملي.
ما أستطيع قوله هنا على سبيل المثال أن تراكمات الأحداث التاريخيّة – السياسيّة لمنطقة فلسطين التاريخيّة، والتي تشكل جزءاً يقظاً من تاريخي وحاضري، وتعرّضي المتواضع لشؤون العالم العربي عامة، معطيات لا شك أن لها وقعهاً واثراً في كيفيّة فهمي للأمور، وفي نوعية المسار الموسيقي الذي أنا فيه الآن.
“نول“
معازف: ما هي الموسيقى التي تستمعين إليها مؤخّراً– بعد الانتهاء من أسطوانة “نول“؟
كميليا: على سبيل المثال لا الحصر، أعيد الاستماع إلى موسيقى من التراث العثماني التركي، ومن تراث المغرب العربي، خاصة المغرب والجزائر. ذلك كنوع من التحضير للمشروع القادم.
معازف: تبدأ أسطوانة “نول” بتآلف ما بين العود والكونترباص بشكل يشعر المستمع لوهلة أن الآلتين آلة واحدة. هل هذا هو المقصود من اسم الأسطوانة؟ هل الآلتين على نفس المنوال؟
كميليا: في هذه الأغنية بالتحديد– حياتي– العود والكونترباص يلعبان نفس الخط، وكأنهما فعلاً آلة واحدة، وهذا مقصود.
معازف: يذكر النص المرفق بالأسطوانة أن سارة قضت فترة طويلة جداً لتتعلم الربع نوتة والمقامات الشرقية وجملها الطويلة تحضيراً لهذا العمل. وهذا واضح في أغنية “كم” على سبيل المثال. هل لك أن تتحدثي لنا عن هذا؟
يشعر المستمع أنك صبورة وتعطين وقتاً كافياً للعمل لينضج، ولتتبلور علاقتك بالعازفين الذين تتعاونين معهم. كم كانت المدة بين بداية هذا العمل وإصداره؟
كميليا: لقائي بسارة يعود إلى العام 1998. التعارف والتبادل الأول كان من خلال العمل على أسطوانة “على فين” لفرقة “صابرين“، تلاه جولة عروض في السنوات 2000 و2001. استمر الحوار المفتوح ما بيننا، وتحوّل إلى شكل لقاءات صداقة وعمل منذ 2002 مع انتقالي إلى سويسرا ومن ثم فرنسا.
في هذه الأثناء، كنا نتساءل عن ماهية الموسيقى التي نريد خلقها وتقديمها معاً، والتي تتوازى مع التبادل اللغوي والفكري الحاصل بيننا. وفي أواخر العام 2011 قدّمنا معا باكورة “نول” بشكلها الأولي كثنائي.
ومن ثم تطورت الأمور تدريجياً ليصبح عملاً متكاملاً. قامت سارة خلاله بكتابة توزيعات لثلاثي آلات وتريّة كانت قد تعاملت معه في السابق، لنصبح فريقاً خماسيّاً.
في أثناء كل هذه الفترة، كان من الطبيعي أن تدخل كل منا في عالم الأخرى من أجل التعرّف على التفاصيل، والمكونات، وفهم الأشياء، ومن ثم خلق أرض أو “ملعب” مشترك نلتقي عليه بسلاسة.
معازف: هل لك أن تحدّثينا عن النصوص باللهجة البدويّة في الأسطوانة، وعلاقتك الشخصية بالشعر البدوي؟
كميليا: جاءت النصوص باللهجة البدويّة التي اخترتها بفضل كتاب وقعت عليه بالصدفة لباحث يدعى بيلي كلنتون، الذي نشر خلاصة بحثه في كتاب يتحوي على قصائد لشعراء من قبائل بدويّة تعيش في سيناء والنقب. عملية الاختيار جاءت مشابهة لما أقوم به عادة: وهو الإعجاب بالنص ليس أكثر. وممّا لفت نظري هو تماسك المواضيع التي عولجت فيها، أي منذ فترة الحرب العالميّة الأولى تقريباً، مع الحاضر.
اللهجة والثقافة البدويّة هي جزء من اللهجات والثقافات الموجودة في البلاد العربية عامة، على اختلاف الشكل والتاريخ، وغيره.
أذكر جيداً أنّني سمعتُ هذه اللهجة منذ طفولتي من أشخاص تردّدوا على منزلنا. أذكر أيضاً أنّني في تلك المرحلة تعلّمت الغناء باللهجة المصريّة. وفي كلتا الحالتين، لم لكن أفهم ما يقال. ولكني فهمتُ أن كل ذلك هو شكل من أشكال اللغة التي تحدثّتها في البيت.
معازف: أنتِ تعيدين زيارة قصيدة “لفظ” لسلمان مصالحة التي قمتِ بتلحينها أولاً في أسطوانة “مكان“. ما الذي يدفعك لإعادة زيارة قصيدة؟ هل هو شعور بعدم استنفاد إمكانيّاتها، أم أن رؤية جديدة للقصيدة قد ظهرت لديك؟
كميليا: هذا المشروع، أقول بشكل مجازيّ، يحتوي على مفاصل أو محاور رئيسيّة تعكسُ، نوعاً ما، مدى التواصل الحاصل: نقوم بخطوةٍ إلى الوراء: استرجاع الماضي، بعدها إلى الحاضر القديم قليلاً: فترة العمل على أسطوانة “مكان” عندما رافقتني سارة في كل مراحل العمل آنذاك. ومن هنا جاءت فكرة استعادة أجزاء من “مكان“، فاخترنا منها هذه الأغنية. ومن ثم نخطو إلى الأمام: وذلك بلغة قمنا بصياغتها معاً.