fbpx .
الكونسبترونيكا معازف كونسبترونيكا

كونسبترونيكا | عن نخبوية الموسيقى الإلكترونية المعاصرة

رامي أبادير ۲۰۲۰/۰۳/۲۷

يعد البريطاني سايمون راينولدز واحدًا من أهم النقاد الموسيقيين المعاصرين. تكمن قوة راينولدز في أسلوب كتابته، وتحليله السلس لظواهر موسيقية وثقافية، مرتكزًا على مفاهيم ماركسية والنظرية النقدية، وتأثره بالعديد من الأفكار التحليلية لفلاسفة ما بعد حداثيين، مثل بورديو ودولوز وجتاري ودريدا وفريدريك جامسون، مثله مثل العديد من المفكرين والنقاد والفلاسفة المعاصرين ذوي الصلة بوحدة بحوث الثقافة السيبرانية في التسعينات. كتب راينولدز في العديد من المواضيع الهامة في بريطانيا وأوروبا وأمريكا، المتعلقة بالثقافات الموسيقية ومردودها الاجتماعي، مثل البَنك والبوست بَنك والجلام روك والهيب هوب وثقافة الرايف والموسيقى الهونتولوجية، متوجًا أعماله بواحد من أهم كتبه، ريترومينيا، عن الموجة الاستعادية منذ بداية الألفية التي طالت أنواع موسيقية عديدة وبالأخص البوب.

ما يميّز أسلوب راينولدز الكتابي، مثله مثل المنظّر مارك فيشر، تناوله لمفهوم الحداثة الشعبية الذي يسعى إلى منهج نقدي يسد الفجوة بين ما هو أكاديمي وتجريبي وما هو سائد، وتقريب الاتجاهين إلى بعضهما، لينعكس ذلك في تحليلاته للظواهر، التي تجعل المفاهيم الفلسفية والتنظيرية أكثر سهولةً للمتلقي.

في تشرين الأوّل / أكتوبر الماضي، نشر راينولدز على بيتشفورك مقال: صعود الكونسبترونيكا | لماذا بدت الكثير من الموسيقى الإلكترونية في هذا العقد وكأنها تنتمي إلى المتاحف بدلًا من النوادي الليلية. قوبل المقال بآراء متعارضة، اعتبره البعض بمثابة احتفاء بظاهرة وفناني الـ كونسبترونيكا، وقرأه آخرون كنقد للظاهرة والصناعة وراء الموسيقى الإلكترونية المعاصرة. جاءت آراء راينولدز مختلطة ومائعة، لا تعلن عن تأييدٍ أو رفض صريحين، لكن ما نستطيع الجزم به هو أن المقال سلّط الضوء على العديد من معالم تلك الموسيقى وصناعتها في الوقت الحالي.

أطلق راينولدز مصطلحه المستحدث كونسبترونيكا لحصر عدد كبير من منتجي الموسيقى الإلكترونية، الذين بات من الواضح خلال العقد الماضي وحتى الآن اعتمادهم بشكل أساسي وواعي على مفاهيم اجتماعية أو سياسية في أعمالهم. أثار المصطلح الجميع بسبب ميوله التصنيفية، في وقتٍ أصبح شائعًا فيه رفض الفنانين والجمهور لتصنيفات حصرية من قبل الصحافة، وهو في رأيي سبب رئيسي في تلقي الكثيرين لمقاله بتحفظ شديد، بالرغم من رصده لظواهر صالحة، وإن لم يعلن عن موقفه منها بوضوح.

يتناول راينولدز الموسيقى الإلكترونية المفاهيمية كما لو كانت صيحة جديدة، حتى يسهّل عملية الحصر، حيث يغفل التوجه المفاهيمي لـ تسجيلات ميل بلاتو الألمانية وإصداراتها في التسعينات والألفينات، والتي اعتمدت على مفهوم نزع الهيمنة لدولوز. وظّف أشيم تسيبانسكي (مؤسس ميل بلاتو) هذا المفهوم لاختراق التيار السائد، وخلخلة احتوائه للأنواع الموسيقية الإلكترونية، وفرض جماليات غير مألوفة على المشهد. اعتمدت إصدارات الشركة على طرح رؤية نقدية للرأسمالية، دون وجود حرج في استغلال آليات الرأسمالية لمواجهتها واختراقها، من خلال إرفاق نصوص مع كل إصدار من قبل الفنان أو أشيم، تطرح رؤية يسارية خاصة بظواهر اجتماعية وسياسية وتكنولوجية. لم تكتف ميل بلاتو بقوة النص فقط، إذ كان جزءًا لا يتجزأ من الموسيقى التي طوّرت جماليات جديدة في وقتها في مجال الآي دي إم، عن طريق توظيف عنصر الخلل الرقمي (digital glitch) والمواد الصوتية الميكروسكوبية، وإخضاع الموسيقى الإلكترونية السائدة لها مثل الهاوس والتكنو عملًا بمفهوم نزع الهيمنة.

ليست الأعمال المفاهيمية شيئًا جديدًا، ويمكن تتبع جذورها من الموسيقى الكلاسيكية كأعمال فاجنر إلى فرق البروجريسيف والإندستريال روك، وحتى توظيف الخيال في أعمال صَن رع ودريكسيا وسايبوترون. هنا تكمن نقطة ضعف في مقال راينولدز. 

يرصد راينولدز ملاحظة باتت واضحة في أعمال العديد من المنتجين الإلكترونيين في السنين الأخيرة، وهى إرفاق ألبوماتهم أو عروضهم الحية بوصف مفاهيمي مفصل، مستخدمين لغة منمقة ومصطلحات أكاديمية كالتي نجدها في المتاحف والمعارض التي ارتبطت كثيرًا بالنخبة، وإن كان هؤلاء الفنانين ما زالوا يعتمدون على منصات شائعة مثل ساوندكلاود وباندكامب. تتنوع ثيمات المفاهيم لتشمل قضايا إنسانية أو كونية أو اجتماعية ملحة. كما يستغل هؤلاء الفنانون الوسائط المتعددة، كالأعمال البصرية، للاستطراد في قضاياهم بشكلٍ واقعي، أو عن طريق خلق عالم خيالي يوتوبي أو ديستوبي. يعطي راينولدز أمثلة على ذلك بتناوله أعمال لتشينو أموبي (باراديسو وإِِرُويكا) ولي جامبل (إِن إأ برافنترال سكايل) وجام سيتي (دريم أ جاردن) وهولي هرندون (بروتو). يقول راينولدز: “في لحظةٍ ما خلال العقد الثاني من الألفينات، بدأ بريدي الإلكتروني باستقبال سيل من الإصدارات الصحفية، التي بدت كالنصوص التي تقرأها في مدخل متحف / معرض. كما لاحظت أن طريقة تفاعلي مع هذه النصوص تحاكي زيارةً لمتحف أو معرض: حيث استمعت لمعظم الألبومات لمرة واحدة، بينما قرأت مراجعات ومقابلات مع فنانين تبلغ درجات محظورة من التجريد، كما لو كانت مقالة قديمة من مجلة آرتفورم. كان فيها بيانات يجب الاشتباك معها واستيعابها، وتطورات يجب مواكبتها. بدا تأطيرهم لكل هذا كتقديم إعلاني للمستهلك الحائر، ليس لدفعه لشراء التسجيل بل لدفعه للاقتناع بالتسجيل.”

لم يوضح رينولدز ما إذا كانت مقولته احتفاءً أم اعتراضًا. بصرف النظر عن موقفه، يلفت رينولدز انتباهنا إلى استغلال الفنانين قضايا أو مواضيع لإضفاء جانب فني عليها، وفرض سردية على العمل الفني تقع في معظم الأحيان في فخ التمثيل (representation) أو امتلاك سلطة التحدث بالنيابة، والتكثيف في التنظير لإضفاء شرعية وعمق للعمل. على سبيل المثال، يأتي آخر ألبومين لـ لي جامبل كسلسلة أفكار عن الرأسمالية وبريكست والرقابة الرقمية والتسليع وإغراءات الرأسمالية … إلخ.

في ألبوم أنذر لايف لـ آمنيجا سكانر، يقول وصف الألبوم: “منذ تأسيسها في ٢٠١٤، كان نهج أمنيجا سكانر مستندًا إلى منظورٍ فريد للتكنولوجيا والطريقة التي تتوسّط بها التجارب المعاصرة. توجه أعمالهم خبرة في ميادين هشاشة الأنظمة، الحمولة الزائدة من المعلومات، والتنبيه الحسي المفرط؛ أعمالٌ وجدت موطنها في النوادي الليلية وفي المعارض.” بالإضافة إلى نص غارق في لغة أكاديمية تنظيرية حول التكنولوجيا. تطرّق ألبوم كلاسيكال كيرفز لـ جام سيتي إلى إغراء جماليات الثروة والأزياء والعلامات التجارية المتألقة، معلقًا: “ليس لدينا رفاهية أن تقتصر استجابتنا للرأسمالية المفرطة على الإعجاب أو النفور. كان وقتًا يجب فيه أن تكون واضحًا بشأن الجانب الذي تريد الوقوف معه.” كما يدور ألبوم بروتو لـ هولي هرندون عن البروتوكولات وانعكاساتها على حياة البشر ومصيرها في عالم تسوده بروتوكولات الإنترنت والذكاء الاصطناعي والسياسة، طارحةً أسئلة وجودية. أيضًا، نجد في أعمال تشينو أموبي حس سياسي نقدي وميل للحديث عن مواضيع أبوكاليبسية بطابع أكاديمي.

ترجع المبالغة في المصطلحات والطرح الأكاديمي اللامع في أحيانٍ كثيرة إلى الخلفية الأكاديمية لهؤلاء الفنانين، خلفية تسعى إلى طرح قضايا كبرى لتغيير العالم أو نقد الوضع الراهن. تتحدث المنظّرة النسوية كارن باراد، عن مشكلة التمثيل في ورقتها الأدائية الما بعد الإنسانية: نحو فهمٍ لكيفية احتلال المادة حيّز الاهتمام، وتتساءل عن السلطة وموازين القوى الخاصة بالتمثيل: “على سبيل المثال، هل يمكن للمعرفة العلمية أن تمثّل واقعًا موجودًا ومستقلًا بدقّة؟ هل تمثّل اللغة دلالاتها بدقّة؟ هل يمكن لمندوب سياسي ما، مستشار قانوني، أو تشريعٍ ما أن يُمثّل بدقّة مصالح الناس الذين يزعم أنه يمثلهم؟”

يجذب هذا التوجه الصحافة الموسيقية المغرمة بالسردية على حساب الموسيقى، وبالأدبي المجازي على حساب ما هو جمالي وتقني، فتصير الغلبة لنخبوية هؤلاء الفنانين الذي يأثرون ويفرضون أسلوبهم على المشهد. نجد هنا حلقة من التأثير المتكرر، بين الصحافة التي تسعى دائمًا وراء القضايا المطروحة وإيجاد سردية للعمل والفنان مسلطةً الضوء على هذا التوجه، وبين الفنانين الصاعدين الذي يجدون في السردية والطابع الأكاديمي والقضايا الجادة ملاذًا لأعمالهم ووسيلة للانتشار بين الفنانين ولإيجاد تغطية من قبل الصحافة، كما لو كان أي شيء خلاف ذلك سطحي وغير جذاب. تضخم المهرجانات الموسيقية أيضًا من واقع السردية لتزيد من الحس النخبوي والرغبة الملحة للارتقاء إلى ما هو أكاديمي وجاد، وهنا يكمن الجانب الطبقي لتلك النخبوية، التي تفرض نفسها على التوجه الأكثر تلقائية، والتوجه الموسيقي الاجتماعي الضمني الذي تخلقه المَشاهد بشكل عفوي.

هل هناك مخرج من ذلك؟ علينا بالأول أن نصطدم بالتمركزية اللوجستية للغة (logocentrism)، وسيادة السرديات والمفاهيم المكتوبة على الجماليات المتمثلة في الخامات والأنسجة الصوتية وتوظيف الأصوات ووقعها على المستمع، وسيادة الكلمات الغنائية والوصف المكتوب على الصوت الغنائي، وتفضيل القضايا العامة على جودة الموسيقى نفسها، وإن كانت جميع الموسيقى التي نتحدث عنها مبدعة وقوية. إذًا، هل هناك حاجة ملحة لتوجيه المستمع وفرض المفهوم عليه بلغة منمقة لأسره وإرشاده إلى العمل؟ وإلى أي مدى ينجح المُنتج في إيجاد صلة بين المفهوم والجماليات وإقناع المستمع بقضيته الكبرى؟ هل تشكل النصوص المرفقة تهديدًا للمنظومة الرأسمالية على سبيل المثال، وتؤثر على صناعة الموسيقى؟ الإجابة في رأيي هي لا، تأثير هذه النصوص معدوم؛ هي مجرّد تصريح من قبل الفنان يزيد من النخبوية مستخدمًا سلطة اللغة وسط المشهد الموسيقى، تلك اللغة التي يستخدمها الفنانون في مشاريع التخرج ورسالات الماجستير والتقديم على المنح، ما يعزز من صدى تلك المؤسسات النخبوية في مشاهد ولدت بتلقائية ومن المفترض أن تسلك طريقًا مغايرًا. في نفس السياق، نجد زيادة في النبرة الأخلاقية والتوعوية، مصحوبًا بوعظٍ وتوجيه رسالة في أعمال ونصوص العديد من هؤلاء الفنانين، الذين يجدون حاجة ملحة للتحرك بشكل فردي في لحظة نيو ليبرالية ينعدم فيها العمل الجماعي، وهو ما يعرضه راينولدز

تتناول أنجيلا نايجل في كتابها كيل أول نورميز تلك الصوابية الذاتية الخاصة بأفراد جيل الألفية ذي التوجهات اليسارية الليبرالية. مع زيادة الوعي بمخاطر الرأسمالية في العقد الماضي والثورات في المنطقة العربية، وحركة أوكيباي في أمريكا والتظاهرات في أوروبا في مواجهة تصاعد الشعبوية اليمينية، والنشاط السياسي على الإنترنت وسياسات الهوية في الغرب وكثرة الحديث عن الكارثة البيئية، أصبح هناك تزايد في الصوابية الذاتية وزيادة الحس التطهري الرافض للتفاوض والنقاش دون إبداء حلول فعالة. كما ترصد نايجل إحساس الفرد بتحمل مسؤولية ما تتغاضى عنه وتفشل فيه الحكومات، محذرةً أن زيادة الصوابية الذاتية وكثرة الوعظ فتح المساحة لقطاع واسع من الجمهور للتوجه إلى اليمين، الذي نزع مع الوقت الأسلوب المتمرد الذي كان يومًا لدى اليسار، والذي طغت عليه القيم الليبرالية. يمكن إسقاط هذا الحس الوعظي المصاحب للفنانين والمنتجين على الظاهرة التي ترصدها نايجل، وهنا يكمن السؤال، هل تسعى تلك النصوص إلى إصلاح العالم أم هى مجرد تحرُّك فردي مؤقت، لا يضيف إلى جماليات العمل بل يستغل أزمة لتمثيلها بشكلٍ سطحي؟ في إحدى المقابلات التي أجريت مع ستيف رايش، يرفض بشكل راديكالي تأثير الأعمال الفنية ذات التوجه السياسي على تغيير الواقع، معلقًا على لوحة جرنيكا لـ بيكاسو: “هل استطاع إيقاف القصف الجوي للمدنيين لجزءٍ من الثانية؟ انس ذلك.”

لكن من ناحية أخرى أرى مصداقية لدى تلك النصوص المفاهيمية لدى المنتجين الذين يتناولون مواضيعًا شخصية. يتحدث راينولدز عن المنتجين / المنتجات الكويريين / الكويريات الذين تعكس أعمالهم قضايا شخصية متعلقة بالجندر والعبور الجنسي، مثل سوفي وأَركا ولوتِك وآيا وإليسيا كرامبتون. يقول راينولدز: “يصنع الجميع موسيقى خارجة عن التصنيف بقدر ما هي خارجة عن النوع / الجنس، مذيبةً الحدود ليس فقط بين المعاصر والمنسوخ من أنواع موسيقى الرقص، بل وبين تقليد الرايف والضجيج، وبين الإندستريال والموسيقى الواقعية. يستعملون أصواتهم، ويشاركون في أعمال فنية وفيديوهات وأداءات حيّة، كما أصبح هناك إخراج مسرحي لطريقة تقديم الفنان ككيان فيزيائي، بعكس الصورة معدومة الملامح والمنفصلة عن الجسد التي لطالما مالت إليها الموسيقى الإلكترونية التجريبية في السابق.”

بتحليل هذه الأمثلة نرى أنها تخلو من نبرة الوعظ والصوابية الذاتية للأمثلة السابقة، كما لا تتطرق إلى قضايا كبرى وتستخدمها كوسيلة لإضفاء عمق مهموم على العمل نفسه، وإن كانت الصحافة الغربية ستفضل السردية عن الموسيقى كمعيار للتقييم، لكنها ليست موضوعي في هذه النقطة. تأتي هذه القضايا بشكلٍ صادق نظرًا إلى أنها محمّلة بتجربة شخصية تخلو من التمثيل (representation). يلعب الشخصي هنا دورًا سياسيًا واجتماعيًا نتبينه من تكاثر المشاريع التعاونية والفنانين الذين يتناولون ذلك التوجه، ما يُحدث صدًى لدى الجمهور الذي يمر بتجارب شبيهة فيصير أكثر انفتاحًا تجاه جنسانيته، بالإضافة إلى تأثير الحركات الكويرية في خلق مشاهد جديدة لها، وزيادة تأثيرها على مشاهد باتت ذكورية. لا يتوقف الأمر عند ذلك، فالنصوص المرافقة تُكتب بلغة سهلة غير متكلفة، كما ينعكس المفهوم بشكل واضح في الموسيقى المتحررة من أية قيود، خالقةً مع الوقت صوتًا ذو جماليات خاصة، متمثلة في تباين العينات الصوتية المستخدمة وعدم استقرار الإيقاع، والاعتماد على النغمية بشكل واضح وتفكيكها، بالإضافة إلى ما أشار إليه راينولدز.

من ناحية أخرى، يمكن رصد مشاهد موسيقية من الماضي لعبت دورًا كبيرًا في خلخلة بنية السلطة بشكل ضمني، وتشكيل تهديد لها بشكلٍ عفوي وجماعي مع تكامل المضمون السياسي والاجتماعي بالجماليات. بالإضافة إلى دور ميل بلاتو الذي أغفله راينولدز، يمكننا رصد مشهد الرايف البريطاني، الذي ظل يكبر منذ نهاية الثمانينات وحاربته السلطة البريطانية على مدار سنوات، كما نجد مشهد الديسكو الذي تلاه مشهدي الهاوس والتكنو في أمريكا في الثمانينات، وكيف لعبت هذه المشاهد دورًا قويًا في كسر النخبوية والفروق الطبقية والجندرية. يضاف إلى تلك الحركات البَنك والبوست بَنك المشحونين بروح التمرد وتفضيل الجماعي على الفردي، وإيجاد تأثير على الأرض بدلًا من الاكتفاء بالمفاهيم والوعظ بشكل نخبوي. في الوقت الحالي في منطقتنا لا يمكننا أيضًا إنكار تأثير أغاني المهرجانات على السلطة، بالرغم من تناقضاتها مع فئات متحررة على مستويات أخرى. لا يمكن إنكار أن السلطة أو من هو في مرتبة أعلى إجتماعيًا سيحاولون دائمًا احتواء تلك التحركات، وعندما يتم ذلك، يظهر مجال لمحاولة نزع هيمنة السلطة بعد الاحتواء.

بالرغم من تناول فناني الكونسبترونيكا لقضايا كبيرة وملحة، لا نجد نيّة لتغيير شكل الصناعة وإحداث تغيير سياسي فعلي، بل نرى استسلامًا للرأسمالية التي يواجهونها من خلال صيحة النصوص. من ناحية أخرى وكما ذكرت، نرى الدور النخبوي لدى المهرجانات الموسيقية الأوروبية مثل سي تي إم وأنساوند ونوي سونور ودكمانتل وغيرها. يرصد راينولدز، ويؤيده لي جامبل وأَمنيجيا سكانر، حاجة هذه المهرجانات إلى العروض المفاهيمية المتكاملة من حيث السردية والبصريات والموسيقى: “شيئًا فشيئًا لم تعد المهرجانات تبحث فقط عمن يستطيع تقديم وصلة دي جاي ضاربة أو أداءًا مبهرًا صوتيًا، بل عن العروض العالمية الأولى التي تصطدم مع فكرة المعادل ما بعد الحداثي للبهرجة المفرطة.” كما يقول لي جامبل: “فكرة أن أن تصعد على المسرح بصحبة لابتوب، بينما يتحكم شخص لم تعرفه من قبل بالإضاءة – لم تعد فكرة منطقية بعد الآن (…) التوقعات أصبحت أعلى بكثير من الاكتفاء بشيٍ كهذا.”

لم تنشأ التوقعات العالية للمهرجانات من فراغ، فإقبالها على عروض سمعية / بصرية ملحمية تتشابه مع ما تقدمه مهرجانات الميديا، هي نتاج تنافس فنانين ذوي تمويل كبير أو مميزات، نسبة كبيرة منهم ذات خلفية أكاديمية متعددة الوسائط. يظهر هنا التأثير النخبوي من قبل الفنانين على المهرجانات، وحلقة التأثير المتكرر، التي تفرض نفسها على سائر الفنانين الذين لا يجدون وسيلة للإعلان عن ذاتهم إلا من خلال التماهي مع المعايير العالية التي تفرضها المهرجانات، وفي أحيانٍ كثيرة يتم الاختيار بناءً عليها، غير مكتفين بتأثير الموسيقى وحده، كما لو كانت عاجزة عن خلق الانفعال لوحدها. بالرغم من ذلك نجد فنانين لا يستسلمون بسهولة لذلك، أذكر منهم أوتكر وتيم هيكر على سبيل المثال، الذين يفرضون معاييرهم مكتفين بالعروض الموسيقية فقط. بالطبع لا يستطيع جميع المنتجين تحمل تكلفة تلك العروض أو مشاركة فنانين بصريين أو مبرمجين أجورهم، وهو ما يدل على دور النخبوية في رفع سقف معايير وتطلعات هذه المهرجانات.

تسير هذه المهرجانات ومهرجانات الميديا مؤخرًا تبعًا لثيمات مفاهيمية، ويظهر ذلك من خلال إطلاقها شعارات معينة للمهرجان وإعدادها لحلقات نقاشية ومحاضرات وعروض تحاكي تلك الثيمات. عادةً ما تكون هذه الثيمات ذات توجه سياسي اجتماعي عن التعددية / التنوع والمساحات العامة والتغير المناخي (وهى القضية المسيطرة الآن)، والتعامل مع التكنولوجيا بشكلٍ إيجابي والرقابة الرقمية وصناعة الموسيقى في المشاهد الناشئة وغيرها. رغم أن العديد من هذه المهرجانات تؤكد على مفهوم التعددية وتعمل جاهدة على حجز منتجين غير أوروبيين ولا ينتمون إلى العالم الأول، إلا أن معظم قضاياها المثارة تخص بشكل كبير فناني وجمهور العالم الأول. تكمن المشكلة في تصدير المهرجانات لتلك القضايا كقضايا عالمية من العيار الأول، يجب على الأفراد التحرك لمواجهتها، فارضةً سرديتها وهمومها على بقية العالم، وهو نفس منطق المركزية الأوروبية التي لا مجال لتجاوزها من قبل بلدان العالم الأول. حتى هذه القضايا يجري تناولها من على الهامش دون توجيه نقد عنيف لبنية المنظومة التي تقف ورائها. طالما قررت تلك المهرجانات تسييس نشاطها، فلماذا لا تستمر حتى النهاية؟ على سبيل المثال لا توجَّه أي انتقادات للحكومات في ما يخص قضية التغير المناخي، بل تسعى إلى مطالبة الفنانين والجمهور بالتحرك الفردي، وتحمل المسؤولية لإنقاذ الكوكب بشكل أخلاقي. الحديث على المساحات العامة لا تطوله التعقيدات الكبيرة في البلدان الأسيوية والعربية وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال، ويبدو تناولها كثيمة ليبرالية منعزلة عن واقع غير أوروبي معقد. أما الحديث عن الرقابة الرقمية فيعد لعديد من غير الأوروبيين بمثابة قضية نابعة من فرط الرفاهية، ووهم مزيّف أمام رقابة بوليسية ملموسة من قبل الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية. من الناحية الأخرى لا نجد قضايا تخص مشاكل اللاجئين وتجارة الأسلحة والمصاعب التي تواجه الفنانين غير الأوروبيين من أقليات ذات طبقات فقيرة، وغيرها من القضايا السياسية المعقدة. على سبيل المثال، عندما قرر أعضاء المشروع التعاوني الكويري روم فور ريزستنس التضامن مع مبادرة دي جايز فور فلسطين وفتح النقاش حول القضية الفلسطينية والاعتراض على السياسات الإسرائيلية، قامت العديد من الفضاءات والأندية والمشروعات التعاونية أخرى بمقاطعتها، وهو مثال جيد على جاذبية القضايا الآمنة.

جميع هذه القضايا الأوروبية التي تستغل لخلق طابع جاد ومفاهيمي لتذويق المهرجانات لا تشكل تحديًا حقيقيًا للسلطة، بالرغم من مناداتها للتحرك الإيجابي ومواجهة المنظومة. معظم هذه المهرجانات مدعومة من حكوماتها وتتبنى فقط قضايا آمنة من على الهامش، ما يصب بدوره في مصلحة تلك الحكومات. حيث أن الحكومات تحتوي الحديث عن التعددية والبيئة والرقابة والمساحات العامة من خلال المهرجانات، وتستخدمه لتبييض وجهها. لن يضر الحديث عن تلك المواضيع واستخدامها كمساحة صغيرة أو كمسكّن لجمهور مشحون لكن آمن. لا يفرق هذا عن حكومات منطقتنا التي تبيض وجهها من حين لآخر مستغلةً الفن لنشر قيم الإخاء والحوار وما إلى ذلك. في النهاية لا أدعو الفنانين والجمهور لأخذ موقف تجاه تلك المهرجانات، حيث لا توجد مهرجانات تحمل توجهات بديلة، وبالتالي من المستحيل لوم الفنانين، لكن من المجدي نقد توجهات وقضايا تلك المهرجانات.

تطرح صناعة الموسيقى في الوقت الحالي حاجة ملحة للعمل المفاهيمي لتصحيح مسار العالم والمبادرة لإنقاذه وما إلى آخره من هذه الهموم العميقة، في حين أن نجاح المعادلة الفنية-السياسية قد يظهر بشكل أسهل في المبادرات والمشاهد العفوية التي لا تبحث عن ما هو عميق وجاد وما مصحوب بالصوابية الذاتية، أو لدى القليل من المشاريع والفنانين الذين يتحركون بشكلٍ مباشر لمساندة قضايا سياسية واجتماعية، ويتحدون السلطة. ما يعتبره البعض سطحي وهو في الحقيقة العفوي والأكثر تمردًا وفاعليةً ممن قرر أن يسلك الاتجاه النخبوي. 

في نهاية مقاله، يقول راينولدز أن موسيقى الكونسبترونيكا لم تمده بذلك الإحساس المحرِّر الذي صاحب موسيقى رايف التسعينات أو التراب. لا يعلن راينولدز عن السبب، لكن بصرف النظر عن التأثير الشخصي الذي تتركه أي موسيقى لدى المستمع، وبنظرة عامة، فإن الموسيقى الإلكترونية الحالية باختلاف أشكالها غنية جماليًا ومتطورة باستمرار، لدرجة يصعب حصرها تحت مصطلح واحد مثل كونسبترونيكا. بصرف النظر عن الآراء المؤيدة والمعارضة للمقال، يفتح راينولدز المجال للنقاش حول موضوع المفاهيم واللغة في مواجهة الجماليات، ونخبوية الفنانين والصحافة والمهرجانات التي من الممكن قراءتها من وجهة نظر منطقتنا والتعمق في تناقضاتها أكثر مما يطرحه راينولدز في مقاله. تصب المفاهيم في مصلحة الصحافة وعدد كبير من المستمعين، حيث أن الموسيقى من أكثر الفنون تجريدًا، بالتالي يسعى العديد من الناس إلى المفاهيم وإسقاط السرديات لفك رموز الموسيقى، غير مكتفين بنظرية الانفعال والتجربة السماعية وأثرها الشخصي. ما تفعله ثقافة الـ DIY ووسائل التواصل والعديد من المنصات الإلكترونية من حيث خلق إمكانيات واسعة لتحرير الموسيقى من النخبوية، يهدمه التأثير الأكاديمي والصحافة والمهرجانات الذين يعيدون مفهوم الثقافة العالية. ليس هناك مبرر لوضع الفنانين غير الأكاديميين تحت ضغط الارتقاء المفاهيمي كوسيلة للانتشار، وليس هناك داعي لتعزيز دور النيوليبرالية متوهمين أننا نحاربها.

المزيـــد علــى معـــازف