.
على مدار ٢٧ عاماً أصدر كاظم الساهر حوالي ٢٢ أسطوانة توزعت على مراحل متعاقبة، ترتبط باتجاهات وتصورات فنيّة تحاول الحفاظ على توازن سوقي وإيقاع جماهيري، مما يجعل الساهر نموذجاً يستحق التمحيص لفهم تطور مسيرة نجم جماهيري وسط تغير وتقلب الأذواق والأمزجة وظروف الإنتاج وما يعكسه ذلك على العمل الفني.
من الواضح أن الساهر ومنذ بداية الألفية وهو قادر تماماً على فرض شروطه بعدما وصل إلى مكانة وشهرة واستقرار مادي لا يضطره إلى أيّة تنازلات فنية. فلماذا لا يأخذ طريقاً أكثر استقلالية وجودة كانت على الأغلب ستصل به إلى مساحات جديدة؟ هذا التوجه كان قد نجح معه بالفعل، نافياً فكرة أن الجمهور ذوقه مُحدّد مُسبقاً، كما توضح إحصائيات موقع موالي. وحتى لو لم يكن هذا مجدياً جماهيرياً، فإن مبيعات الاسطوانات، نظراً لتغير اقتصاديات وشروط صناعة الموسيقى منذ بداية الألفيّة الجديدة، لا تحقق مردوداً مادياً معتبراً.
ظاهرة الساهر تعتمد بشكل أساسي على الحفلات الحيّة التي يكون متمكناً منها بكاريزميته العاليّة. كما أننا لا نستطيع تصور فرض توجهات فنيّة محددّة عليه من قبل المساهمين في العملية الإبداعية، فهو أولاً مغني وملحن، وموزع أحياناً، وهو ثانياً ذو مكانة تسمح له أن يختار مع ولمن يعمل. كان من الممكن للساهر التوقف مثلاً عن إصدار الاسطوانات مع شركة إنتاج احتكاريّة ليصدر ألبومات رقميّة تشبع توجهاته الفنيّة وتقتفي سبيلها بغض النظر عن مستوى أو قيمة هذه التوجهات نفسها، فالأمر الأساسي هنا هو كبت حرية الإمكانات والتوجهات الشخصية لصالح فلاتر ثابتة من الشكل والصوت والخيال يتم الموافقة عليها من قبل المنتجين بموجب تصورات محددّة عن الجمهور. هناك حالة أخرى مشابهة مع حالة الساهر في محمد منير، فهما يتماثلان في امتداد المشوار الفني لعدة عقود، والانطلاق بداية من الأغنية الفلكلورية والتوجهات المغايرة عن السائد وصولاً إلى إعادة إنتاجها بفلتر تجاري فج.
كانت المرحلة الأولى لإنتاج الساهر محمّلة ببذور التوجهات التي تحرك خلالها على مدار مشواره الفني، لكن بملمح أساسيّ هو تبني عناصر الأغنية الشعبيّة العراقيّة. فقد جاءت أول أسطواناته، شجرة الزيتون، في مجملها في سياق الأغنية الثمانينية العربيّة، ونلاحظ في فيديو أغنية احسبها عليّ أنه يرتدي بذلة كلاسيكية كاملة (وهو نفس المظهر الذي يظهر به في أغنية عابر سبيل من نفس الألبوم بتوزيعها الثمانيني الميلودرامي). كان التصور الذي يقدمه الساهر عندها هو الانتاج الحضري البغدادي لموسيقي بوب لها عناصر فولكلورية. بعد خمسة أعوام ظهرت اسطوانته الثانية غزال، التي شكلت الانطلاقة الحقيقية للساهر والتي ضمّت أغان معتمدة بشكل أكبر على الشكل التقليدي الشعبي العراقي، الأمر الذي أثار التعليقات السلبية من صفوة الموسيقيين في بغداد ومن بعض أساتذته في المعهد. مع ذلك حظيت أغاني الاسطوانة بانتشار واسع في العراق والبلاد العربية وتم إعادة إنتاجها بتوزيع ولهجات محلية مع وجود الحصان الرابح الذي صنع جماهرية وهو موال وأغنية عبرت الشط، كما ظهر في غزال مقدرة الساهر على غناء المواويل العراقيّة وتلحينها، والتي استخدمها في جميع حفلاته حتى الوقت الراهن. أما اسطوانة العزيز (١٩٩٠) فتعتبر الجزء الثاني من غزال، وإن كان بها نضوج فني أكبر في تطويع الشكل التقليدي ووضع بصمته الخاصة عليها.
بسبب حرب الخليج الأولى سافر الساهر إلى الأردن ومنها إلى بلاد مختلفة، متنقلاً بينها وبين العراق حتى استقر في مصر. خلال تلك الفترة، أصدر أغنية/أسطوانة لا يا صديقي التي يصل طولها إلى ٤٧ دقيقة؛ يأخذ فيها الساهر بذرة عابر سبيل وشخص ثاني ليوسعها على مدى أكبر. الموسيقى كلاسيكيّة الطابع والتوزيع له ملامح ملحميّة ويستخدم مقامات متعددة يغلب عليها المقامات التي تستخدم عادة في الأغان المصرية، كأنه يعلن أنه قادر على موسيقى جادة ومركبة وقادر أيضاً على التنوع المقامي. يلاحَظ في الحفل الذي أقامه في نفس العام في الأردن وغلاف الأسطوانة أنه انتقى الظهور بالبذلة الكلاسيكيّة. في عام ١٩٩٢ عاد الساهر باسطوانته الخامسة أفرح مبتعداً خطوة عن الحِدّة العراقيّة ليقترب أكثر من منطقة الغزل واللعب. اسطوانته التالية، بانت ألاعيبك ضمت أغان ترتبط بألبوم العزيز لكن بشكل مخفف، وظهرت فيها للمرة الأولى توجهاً مصرياً بشكل واضح خصوصاً في أغنية لا تحرموني.
أصدر بعدها الساهر سلامتك من الآه بعناصر من المرحلة الأولى، مع هيمنة اتجاه الخفّة والإيقاعات الراقصة بكليبات راقصة ملونة. تظهر أغنية سلامتك من الآه الشهيرة من تأليف الساهر نفسه في كليب له عناصر رومانسية واضحة، وظهور أول لقاء بين الساهر والشاعر السوري نزار قباني في أغنية اختاري. في الاسطوانة التالية، بعد الحب، هيمنت الأغاني ذات الطابع المصري واشتهرت جميعها. أتت بعد ذلك أسطوانة اغسلي بالبرد والتي أتت خليجية صرفة، لا تضم سوى ثلاث أغان خليجيّة، كتب على غلافها “كلمات سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم“، ويظهر الساهر مرتدياً بذلة كاملة لينفي ربما عن نفسه خلجتنه بشكل تام.
لا أعني هنا رومانسية كلمات الأغاني، بل الخيال الذي تتبعه الساهر ليقدم صورة محددة عنه للجمهور عن طريق عناصر مختلفة مثل الكلبيات المصورة، أغلفة الاسطوانات، أحاديث ولقاءات وتصريحات، طريقة ملبس وحتى تغيّر بدني، ليشكل الساهر مخيال المطرب الرومانسي، بقصّة شعره الطويلة والقصيرة، وخسارة الوزن وارتداء الملابس الكلاسيكية. لربما كان في باله بالتحديد عبد الحليم حافظ في فترته الأخيرة التي ارتبط فيها بنزار قباني وصاغ بكلماته الأغاني الطويلة الحزينة السوداوية متعددة المقامات بالتوزيع الكلاسيكي الدرامي. بالطبع ينعكس هذا الخيال على اختيارات التوزيع والتوجهات الفنيّة التي تسيطر على هذه المرحلة، وهو بالفعل ما نجده يقوله صراحة نزار قباني نفسه للساهر في بداية هذا الفيديو، والذي يمكن مقارنته بلقاء قديم مع عبد الحليم حافظ.
أصدر الساهر في مدرسة الحب عام ١٩٩٧، ورغم أن التوجه الرومانسي الكلاسيكي هو عنوان المرحلة، وعنوان الاسطوانات الثلاث فيها، إلا أنه تعامل معها بحذر، فوضع أغنية الألبوم الرئيسية في مدرسة الحب (١٢ دقيقة) آخر الوجه الثاني، وزيديني عشقاً آخر الوجه الأول ولا يوجد بمصاحبتهما إلا أغنية الرحيل بالعامية المحايدة. باقي الأسطوانة أغان خليجيّة وأغنيتين راقصتين بإيقاعات لاتينية. أما أسطوانة أنا وليلى (١٩٩٨) فظهرت بها أغنية شجرة الزيتون التي تعتبر ذروة الطريق الذي بدأه بـ عابر سبيل. شجرة الزيتون لها نفس الملامح التي اتبعها على مدار السنوات الماضية: طولها يقترب من ربع الساعة، الكلمات فصحى، التوزيع كلاسيكي درامي بمقدمة ملحميّة، ومقامات متعددة. هذه المرّة، كان رد فعل الجمهور مذهلاً. ففي كل البلاد العربيّة تقريباً، ولعدة سنوات، سيطالب الجمهور بالأغنية الطويلة في الحفلات وفي أحيان أكثر من مرة. أعلن الساهر نفسه أنه لم يتوقع أبداً رد الفعل الذي حدث على تلك الأغنية، فهي، كما قال، بلغة عربية غير سهلة وتوزيع غير بسيط، وليست بنفس المدّة الزمنيّة المعياريّة (٣ إلى ٥ دقائق) مشيراً إلى المواصفات السوقيّة لشكل الأغاني.
إذا كنا نرى أن الساهر قد تتبع الخيال الذي انتقاه إلى ذروته وفعل ما يُعتبر حرية في الاختيار الفني – بغض النظر عن التقييم أو الذوق الشخصي – في وقت كانت تسيطر عليه الأغنية القصيرة التجارية بشكلها المحدّد، فقد وجد هذا صدىً جماهيرياً، حتى أن مغنيين ومطربين كثيرين قلدوه، منهم على سبيل المثال مصطفى كامل ومحمد فؤاد. أما عن أسباب نجاحها الجماهيري فيمكن الإشارة إلى أداء الساهر بالأخص في الحفلات الحيّة، والعبارات الرومانسية التي تمس مفاهيم مثل الهزيمة في الحب، الفقر وضعف الحال، الاحتلال والتشرد من الوطن (مع تزامن الغارات الأمريكية على بغداد سنة ٩٨)، وصور بلاغية تبدو عميقة مثل الفراشات التي تحترق في النار وما إلى ذلك. ساعد أيضاً نسج الأساطير حول هوية المؤلف وقصة كتابتها. مثل أن شاباً فقيراً - حسن المرواني - أحب فتاة غنية في الجامعة تدعى ليلى. رفضته لفقر حاله وتزوجت غيره، فكتب تلك القصيدة تخليداً لقصته وبثاً لشجواه. قصة أخرى أقل شهرة كانت أن جندياً شاباً عراقياً كتبها أثناء الحرب لحبيبته التي رفضته لفقره. هي دوماً قصص تدور حول شاب فقير معدم يحب فتاة غنية تدعى ليلى
.
أعلن الساهر أكثر من مرّة أنه سيلحن الجزء الثاني من أنا وليلى، من بقيّة القصيدة الأصلية الطويلة، لكنه تراجع عن ذلك معلناً أنه قادر على صنع مثلها (وهو ما فشل فيه في رأيي لأن تلك الأغنية أرتبطت بمرحلة ومزاج آخر). من الملاحظ أيضاً أن الساهر وازَن – كما في الاسطوانة السابقة – بين المتطلبات التجارية لشكل الأغاني وهذا التوجه، واضعاً قصيدة نزار إلا أنت في بداية الوجه الأول، وأنا وليلى في بداية الوجه الثاني، وباق الأغان موزعة بين اللاتيني الراقص والتوزيع الخليجي، مع أغنية في واحدة ذات توجه مصري خمسيني. بعد النجاح الساحق لأغنية أنا وليلى، ختم الساهر المرحلة باسطوانة حبيبتي والمطر بعدها بعام، التي هيمن عليها هذا الخيال والتوجه بـ ٧ أغان فصحى من أصل ٩، خمسة منهم لنزار. لم تتعدى أي منهم الثمان دقائق، وكانت هناك أيضاً أغنية خليجية وأخرى لاتينية راقصة.
كانت هذه مرحلة إعادة انتاج اتجاهات وإمكانات المراحل السابقة بشكل مقولب أكثر على مدار عشر أسطوانات. تغيرت الصورة التي تبناها الساهر سابقاً وأصبح يمثل خيال الفنان السعيد بإشارات إلى الغنى والراحة الماديّة، والعاشق الذي يتغزل بخفة وحتى يلوم ويتألم بشكل بعيد تماماً عن حدّة المرحلة العراقية أو المبالغة الدرامية للمرحلة الرومانسية، والتركيز أكثر على الدلع والشقاوة والهناء في الحب. تطور مظهره ليكسب الوزن الذي فقده وكبرت عضلاته الصورة التي هيمنت علي شكل المطرب في الحقبة الأخيرة هي أن يكون رياضاً ذو عضلات، وربما بدأ عمرو دياب هذه الصورة في المنطقة، ليهمن في آخر ثلاث أسطوانات التوزيع الخليجي، بما أن الخليج أصبح القوى الشرائية الأكبر، مع الاستعانة بتوزيعات هاوس وأنواع غربية أخرى بشكل مشّوه.
قد يبدو أنه كلما نجح فنان، وقع أكثر في شبكة السوق، وازداد خوفه من الفشل ومن التجريب والتوجه لمساحات غير مطروقة، ليصبح مثل كاظم الساهر، يُنفذ في النهاية عمولات من أمراء وملوك جاعلاً منها توجهه الأساسي دون أي سبب فني مقنع.
يوجّه الساهر فنيّاً تصوّر محدد يُملي عليه هذه الاختيارات، يتشكل بالإساس على توقعه لقبول الجمهور لما يفعله، أو ما يتصور هو عن قبول الجمهور. هذا التصور مبني على السياق الواسع للمجتمع والفن وشروط الإنتاج. فيمكن لفنان من مستوى كاظم الساهر انتاج موسيقاه وتوزيعه بحرية بعيداً عن قيود شركات الانتاج واعتباراتها. يفعل الكثيرون ذلك عالمياً. يوقعون عقوداً مع شركات ضخمة، ويشترطون أن تسمح لهم هذه الشركات بالانتاج على الإنترنت كما يريدون. لكن مرّة أخرى، لم تذهب هذه الحرية بعيداً بالموسيقى بالقدر الكافي، فحتى الآن أغلب إنتاج هذه الموسيقى مقولب ويحافظ على الشروط الفنيّة نفسها، مع قدره مخيال السوق والجماهيريّة على ابتلاعه مرّة أخرى في جوفها، نظراً لضعف الوعي بحدود الموسيقى وكيفية تخطيها وتجديدها. فالعملية الإبداعية، رغم عدم تطلبها مادة فكريّة واضحة في مضمونها، من شروط وجودها بالذات هو الوعي بالحدود التي توجد فيها واستطاعتها الإنفلات منها.
ربما يكون الحل الوحيد المتاح لخلق موسيقي حيّة، أصيّلة، وفعّالة، هو التأسيس الفني والفكري الجيد، مع حضور الموهبة والرغبة الجادة في التعبير والسعي الجمالي دون أن تكون المكاسب الجماهيريّة أو الماديّة الهدف الوحيد. كمطرب وموسيقي، حظي كاظم الساهر بالإمكانية لأن يكون أحد هؤلاء لكنه انجرف مع السوق، وأصبح نسخة تجارية باهتة عن فنان كان يمكنه أن يكون عظيماً.