fbpx .
لقد كنا هنا دائمًا | كيف تصبح كرديًا في ١٤ أغنية

لقد كنا هنا دائمًا | كيف تصبح كرديًا في ١٤ أغنية

رافاييل لايساندر ۲۰۲۵/۰۳/۲۷

عام ٢٠١٩، نشر مروان علي كتابًا صغيرًا بعنوان كيف تصبح كرديًا في خمسة أيام. ليس الكتاب دليلًا تعليميًا، رغم مما قد يوحي به عنوانه للمتفائلين أو المرتبكين بشدة، بل هو يوميات شخصية تسرد تجربة المؤلف في العيش في قرية كردية سورية.

العنوان عبارة عن استعارة، إشارة ساخرة إلى الطريقة التي تُعامل بها الهويات غالبًا كأشياء يمكن للمرء اكتسابها من خلال مجموعة من الخطوات المتسلسلة، ​​مثل تركيب مجموعة تلفاز أو خبز كيكة. علقت هذه الاستعارة في ذهني، وجعلتني أتساءل: هل هناك حقًا طريقة لاكتساب عرقية أخرى أو ثقافة مختلفة؟ لا عبر الأنساب أو معاملات التجنيس، وإنما من خلال شيء أكثر سيولة، وأكثر نفاذًا.

ليس في خمسة أيام، بالتأكيد، ولا عبر أي محدد زمني. ولكن ماذا عن عشرة أفلام؟ أو أربعة عشر أغنية؟ 

هذا بالضبط ما حصل معي. ولدت لأب عربي وأم كردية، ما يعني أن هويتي كانت منذ البداية موضعًا للتبادل؛ وعلى النقيض من اللغة العربية، التي كانت لغة التلقين الرسمية في المدرسة، لم يتوفر لي أي تعليم باللغة الكردية. 

لم تتحدث والدتي ـ التي كان من الممكن أن تكون بوابة لغتي في ظل ظروف مختلفة ـ معي بهذه اللغة، وهو قرار لم تتخذه برغبتها، بل بسبب الضغوط الخفية المستمرة التي فرضت على الناطقين بالكردية في سوريا. مع ذلك تعلمت الكثير عن الكردية، لغةً وثقافة وسياسة، وحملت قضيتها كما حملت القضية الفلسطينية، وكان كل ذلك من خلال الأغاني.

ليس حالي فريدًا، فالثقافة، بالنسبة لكثير من الناس، لا تأتي من خلال الكتب المدرسية أو التعليم الرسمي، بل من خلال ما يتسرب من الحدود، من خلال الموسيقى، الأفلام، ومن خلال الأدب. 

على سبيل المثال، درست باجتهاد على مدى خمسة أشهر في دورة لغة تركية لدى معهد تركي رسمي ومرموق، وخرجت بنفس المستوى تقريبًا من اللغة التركية الذي يتقنه ببغاء مدرب جيدًا. في غضون ذلك، تعرفت على صديق تعلم تحدثها بطلاقة بمجرد مشاهدة المسلسلات التركية. 

لم يزر صديقي إسطنبول قط، لكنه يستطيع وصف شوارعها وطعامها وكأنه قضى طفولته في تناول السميت على مضيق البوسفور. ما يجعلني دائمًا أتساءل: هل يتعلق تعلم اللغة في نهاية المطاف بالقواعد النحوية؟ أم بالانغماس والعيش في إيقاع لغة حتى تصبح، بشكل غير محسوس، جزءًا منك؟

لأن اللغة بطبيعة الحال ليست مجرد نظام من الكلمات. إنها المادة الخام للهوية. قال فيتجنشتاين إن حدود لغتنا هي حدود عالمنا، وزعم فانون، الذي فهم هذه الأشياء من مكمن التجربة الحية، أن التحدث بلغة ما يعني وراثة ثقافتها، وجراحها، وطريقة رؤيتها بالكامل. 

يعني هذا أن فقدان لغة، أو عدم اكتسابها بالكامل، ليس مجرد عجز لغوي. بل إنه قطيعة، وعضو مفقود من الذات؛ وإذا بدت استعادة اللغة في مرحلة البلوغ مستحيلة – لأن كتب القواعد النحوية، مهما حاولت بحماس، ليست فاعلة – فربما تكون الموسيقى هي البديل الأقرب.

من هذا المنطلق، هذه قائمة بالأغاني الأربعة عشر التي جعلتني، جوهريًا، كرديًا. أو على الأقل، آمل أن أكون قريبًا من ذلك هذه القائمة شخصية جدًا، وليست أكاديمية، ولا تدعي بأي شكل أن الأغاني المذكورة فيها هي أفضل إنتاجات الموسيقى الكردية أو أكثرها تمثيلًا لها..

من نحن | شيفان

أتذكر خالتي وهي تزورنا في التسعينات ومعها شريط كاسيت لأحدث أغاني شيفان، وتخبر والدتي أنها حصلت على النسخة من تركيا عن طريق كاوا الذي يعمل على خط الشحن. تنسخ والدتي بعدها الشريط عن طريق مُسجلة يابانية ذات شريطين أحضرناها من السعودية، ونستمع لهذا الكاسيت في المنزل وفي الرحلات وفي المناسبات حتى نبدأ بخلط كلماته مع التحية الصباحية الطلائعية. 

أسأل والدتي لماذا شيفان مهم لهذه الدرجة؟ فتجيب أن كل ما عرفوه من الكردية في القرية كان عن قطف الزيتون، وتربية الماشية، وتجفيف البندورة على السطح، حتى أحضر والدهم يومًا كاسيتًا لشيفان، واكتشفوا أن الكردية أغنى من مصطلحات القرية.

ظل الأكراد يقدسون الموسيقى منذ أمد بعيد، لا باعتبارها وسيلة للترفيه فحسب، بل باعتبارها ركيزة أساسية للحفاظ على الثقافة؛ وبالنسبة لشعب لا يتمتع بفرصة الوصول المستمر إلى التعليم الرسمي بلغته الأم، كانت الموسيقى بمثابة مستودع أساسي للغة والتاريخ والذاكرة الجماعية. 

في بعض الأحيان يصبح هذا التبجيل الموسيقي حرفيًا، كما في حالة الطائفة اليارسانية، التي تستخدم البزق والغناء كوسيلة روحية.

ازدهرت الموسيقى الكردية التقليدية في المقام الأول في البيئات الريفية، في ديوان القرية (بيوت التجمع) وتحت حماية زعماء العشائر والشيوخ. أصبحت هذه المساحات أوعية لنقل الثقافة، حيث كان الرجال يتبادلون الأخبار والقصص والأغاني أثناء ترفيه الضيوف. 

تنقسم الملحمة الغنائية، التي تعتبر أعلى أشكال التعبير الموسيقي الكردي، إلى فئتين: تلك التي تتحدث عن الحب والفراق، وتلك التي تحتفل بالقوة والشجاعة والشرف. حافظت أمثلة مثل قلعة دمدم ودرويش عبدي على السرديات المعقدة للتجربة الكردية عبر الأجيال.

قبل النهج الثوري لشيفان، كانت الأغاني الكردية تتميز عادةً بعازف منفرد يعزف على البزق بينما يغني مقطوعات مطولة في الاحتفالات، أو أغاني الزفاف الفولكلورية؛ وتعكس تسجيلات محمد عارف جزراوي ومحمد شيخو هذا التقليد. 

كانت هذه الموسيقى أحادية الصوت، وغالبًا ما تكون حزينة، وتعتمد بالكامل على الأداء الصوتي بدلًا من التعقيد التوافقي. كمنت قوة هذه الموسيقى في وظيفتها كوسيلة للوعي المجتمعي، خاصة من خلال الملاحم البطولية التي حركت الجماهير بقصص التضحية والظلم والمقاومة.

ما يميز مساهمة شيفان هو كيف قام بربط هذا التقليد الشفوي الغني بالخطاب السياسي الحديث. كما لاحظ الروائي محمد أوزون: “الأغاني هي المصدر الأكثر ثراءً ودقة للمفردات الكردية الأصيلة.” لقد حول شيفان هذه الثروة اللغوية إلى أداة ثورية لاقت صدى لدى سكان القرى المتآلفين مع الصور التقليدية فحسب، بل وأيضًا لدى الشباب الحضري والشتات الكردي المتنامي.

يوازي تأثير شيفان على الموسيقى والهوية الكردية التأثير التحويلي الذي خلفته فيروز وأم كلثوم على التقاليد الموسيقية العربية، كفنانين ارتقوا بالأشكال الثقافية إلى ما هو أبعد من الترفيه، إلى رموز قوية للهوية الجماعية.

لا شيء قولب تصوري عن أن تكون كرديًا بقدر أغنيته كين إم (من نحن). كلمات الأغنية للشاعر الكردي جكرخوين Cigerxwîn، الذي نرى في سيرته حالة مثالية عن الكرد والشتات. بدأ جكرخوين مسيرته كرجل دين، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي، وقبض عليه وسجن في دمشق عام ١٩٦٣، ثم نٌفي إلى مدينة السويداء. لاحقًا انتقل إلى كردستان العراق أثناء تواجده في العراق أنشأ قسمًا جديدًا للغة الكردية في جامعة بغداد، وكتب ونشر كتاب قواعد اللغة الكردية.، وانخرط في الانتفاضة الكردية بقيادة مصطفى البارزاني. 

عام ١٩٧٣ هاجر جكرخوين إلى لبنان حيث نشر مجموعته الشعرية التي نالت شهرة واسعة: من أنا؛ وعندما أقول واسعة، فالمقصد هنا بين المثقفين الكرد القلائل وقتها، أو بالأحرى الذين استطاعوا القراءة، لأن تعليم اللغة الكردية كان شبه محظور في دول الإقليم، وفوق ذلك، لم يكن توفير الكتب الكردية أمرًا هينًا لأسباب سياسية ولوجستية.

بعدها غنى شيفان القصيدة عنوان المجموعة الشعرية بحماس ثوري مقاتل، وظهر في عدة حفلات في دول المهجر الأوربية بلباسه الكردي التقليدي بكل فخر، وصار الباقي تاريخًا. ليس من المبالغة القول – على الأقل في محيطي – أن القصيدة والأغنية قولبتا رؤية الكرد لأنفسهم وتاريخهم. تقول كلماتها: 

“من نحن؟

المزارعون والعمال

الفلاحون ومربي الماشية

جميع البروليتاريين

شعب كردستان

الثورة والبركان”

تستحضر الأغنية أبطالًا كردًا على وجه التحديد مثل كاوا، ورموزًا ثورية دولية مثل لينين، فتؤدي توازنًا جدليًا بين الخصوصية والعالمية التي تميز حركات التحرير الوطني. يساعد هذا الاستحضار المزدوج – للمرونة الكردية والتضامن الثوري – في تفسير سبب تحول كين إم إلى محفز رئيسي لرفع الهمة قبل النزول لكل المظاهرات التي شهدتها؛ سواء في عيد النيروز، أو احتجاجًا على أحداث القامشلي في ٢٠٠٤.

تعكس الأنماط اللحنية المتكررة في كين إم، والتي تتأرجح بين الرثاء على مستوى ثانوي والتحولات النغمية المفاجئة غير المتوقعة، نحو التفاؤل الحذر، في توازٍ مع دورات الأمل والقمع في التجربة التاريخية الكردية، والرؤية والمحو. 

باستخدام شيفان لتقنيات الصوت التقليدية – ذلك النهج الذي يشد الحلق ويقفز بين النغمات، ويجعل الغناء الكردي قابلًا للتمييز الفوري حتى للأذن غير المدربة موسيقيًا – يربط بين سياسات الهوية الكردية المعاصرة وأشكال ما قبل الحداثة من النقل الثقافي.

حلبجة

لا أعتقد أن الكثير من العرب يعرفون عن مجزرة حلبجة أو حتى سمعوا بها. وقعت المذبحة بالكردية Kêmyabarana Helebce. في ١٦ مارس ١٩٨٨، حيث قُتل الآلاف من الكرد بهجوم استخدم فيه غاز الخردل وغيره من غازات الأعصاب. نُفذ الهجوم خلال حملة الأنفال التي قادها الضابط العسكري العراقي علي (الكيماوي) حسن المجيد.

تظل مذبحة حلبجة أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية موجه ضد منطقة مأهولة بالسكان المدنيين في تاريخ البشرية، حيث أسفرت عن مقتل ما بين ٣٢٠٠ و٥٠٠٠ شخص وإصابة آلاف آخرين. كما أظهرت النتائج الأولية من المسوحات التي أجريت للمناطق المتضررة ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان والعيوب الخلقية في السنوات التي تلت وقوع الهجوم.

أنا كذلك لم أسمع بها في ظل التعتيم الإعلامي الحكومي وقتها، وعندما سمعت الأغنية لأول مرة سألت والدتي فيما إذا كانت حلبجة هي اللفظ الكردي لمدينة حلب السورية، فأخبرتني بقصة المجزرة، وبصور الآباء مقتولين مع أطفالهم في أحضانهم في الشوارع.

لا أعلم مدى صوابية خيار والدتي بإخبار طفل في الثامنة من عمره بهكذا أمور، إلا أن الأخبار المنقولة شفويًا لعبت دورًا مهمًا في رؤيتي للعالم الذي نعيش فيه وللمسألة الكردية، خاصة عندما سألت: “ولماذا فعلوا ذلك؟” فكان الجواب: “فقط لأنهم كرد.” 

مع تقدمي في السن وقراءتي للسرد التاريخي الكامل، بدأت أفهم التعقيدات الجيوسياسية التي تتجاوز هذا التفسير المختزل. مع ذلك فإن تفسير والدتي، على الرغم من تبسيطه المفرط، احتوى على حقيقة عاطفية غالبًا ما تتجاهلها الروايات الرسمية: وهي أن مذبحة حلبجة كانت في جوهرها تمثل النهاية المنطقية لأيديولوجية قومية عرقية جعلت حياة الكرد غير ذات قيمة.

تحقق أغنية حلبجة لشيفان ما فشلت الصحافة في تحقيقه: فهي تصور الكارثة لا باعتبارها تجريدًا إحصائيًا، بل باعتبارها تجربة معاشة. تخلق الآلات الموسيقية، وعلى رأسها العود المتوتر الذي يوفر الانسجام البنيوي تحت صوت شيفان، مساحة سلبية يضطر المستمعون فيها إلى مواجهة الغياب. هذه هي الموسيقى الكردية باعتبارها أنثروبولوجيا جنائية، تستخرج الجرائم التاريخية من القبور غير المميزة للروايات الرسمية للدولة.

لا يكتفي شيفان بإحياء ذكرى الفظائع فحسب؛ بل يخلدها باعتبارها عملًا فنيًا. يحولها إلى شيء يقترب من السمو دون التقليل من رعبها – وهو حبل أخلاقي مشدود وصعب يمشي عليه الفنانون الأكراد منذ أجيال وإلى الآن، حيث يظل إنتاجهم الثقافي في ظلال العنف الجيوسياسي.

تبدأ الأغنية باتهام مباشر، لا تسأل الجناة فحسب بل الإنسانية جمعاء:

“لماذا لا تشبع عيناك؟

ألا يكفيك سطح العالم؟

من قبلُ ناجازاكي وهيروشيما

أمس في فيتنام

اليوم في كردستان

هل حلبجة صغيرة؟”

تتصاعد الموسيقى بكثافة محكومة بينما تصف الكلمات “السحب السوداء الداكنة” التي نزلت في النوروز (رأس السنة الكردية)، حيث يخلق التقابل بين الاحتفال والفناء تنافرًا معرفيًا يعكس تجربة الشعوب المقهورة. عندما يصل صوت شيفان إلى المقاطع:

“لا تزال صرخات الجرحى موجودة

يأتي صوت الأم من شاحنتهم

يلقي الآباء بأنفسهم على أطفالهم في حزن

لكن الطفل يظل بلا نفس، بلا روح، بلا حياة.”

تتحول تقنيته الصوتية لتشمل صراخًا محكمًا يوجد في مكان ما بين الأغنية والرثاء، بين التعبير الفني والحزن الخام. لا تعمل العبارات المتكررة “أوه، أنا جريح” كمجرد خلفية وإنما كحزن طقسي، حيث يعترف كل تكرار بالصدمة ويرفض السماح بنسيانها.

ليلى

الأغنية الأخيرة لشيفان، والعزيزة على قلبي، هي ليلى. لا تقول كلمات الأغنية الكثير عن قصة ليلى، الأمر الذي يخلق توترًا بين السطح اللحني اللطيف للأغنية ومحتواها السياسي المغمور.

عندما سألت والدتي من هي ليلى، وهل لها علاقة بليلى وديع الصافي – وهو ارتباك معقول لعقل طفل يحاول خلق روابط عبر المشهد الثقافي المتنوع في الشرق الأوسط، أجابت أن الأغنية رثاء في ليلى قاسم، الناشطة الطلابية التي تحدثت علانية ضد نظام البعث العراقي، واعتقلت وعذبت بحرق وجهها بالزيت المغلي، ثم أصبحت أول امرأة يعدمها نظام صدام حسين.

تعمل أغنية ليلى بشكل مختلف عن أغاني شيفان الأكثر صراحةً في السياسة، فلحنها يشبه التهويدات، ومع ذلك تعترف باستحالة النوم البريء في وطن متنازع عليه. تخفي الخطوط اللحنية اللطيفة للأغنية تياراتها السياسية؛ إنها موسيقى مريحة ترفض مواساة السرديات الزائفة. 

يخلق اللحن المتكرر تأثيرًا منومًا مماثلًا لما يحققه فيليب جلاس من خلال التكرار، لكن مشبعًا بالإلحاح العاطفي الذي يأتي من الحفاظ على الثقافة باعتباره شأنًا وجوديًا وليس مجرد اهتمام فني.

مرة أخرى أتسائل حول خيارات والدتي التربوية، ومع ذلك، في كل مرة استمعت للأغنية، شعرت في حبلي الشوكي رعشة رعب وكره اتجاه أي نظام شمولي ديكتاتوري كرد فعل غريزي يسبق الفهم الفكري. ربما يكون هذا أعظم إنجاز لشيفان في الأغاني الثلاث هنا: خلق موسيقى تتجاوز المعالجة الدماغية للوصول إلى شيء عميق يضرب الجهاز العصبي للمستمع، أصوات تتجاوز خلق اللحن إلى خلق ذكريات كذلك، وإيقاعات تصل حد المقاومة من المفيد في النهاية الاطلاع أيضًا على أغنية Ey Reqîb (أيها العدو)، والتي تعد كنشيد وطني للأمة الكردية..

قسمنا | مجموعة ورود البرية

أغنية سوندا مي (قسمنا) مثال ممتاز على الموسيقى المتمردة والنضالية التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي وعرفت بمسمى كوم (الجماعة أو الفرقة). وحدت موسيقى الكوم الموسيقى الكردية الاحتجاجية النضالية مع ثقافة الرقص الشعبي التقليدية (غوفيند)، وأكدت على فكرة التمرد من أجل القضية الوطنية. 

هيمنت الكوم على الإنتاج الموسيقي الكردي خلال الثمانينيات والتسعينيات، لتبدأ في الانحدار خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث تصدر المزيد من الفنانين الأفراد الإنتاجات الموسيقية. 

أفضل من وظف المجموعات الغنائية هو حزب العمال الكردستاني عبر قناته الفضائية ميزوبوتاميا، التي اتخذت من أوروبا مقرًا لها. ظلت ميزوبوتاميا لفترة القناة الكردية الفضائية شبه الوحيدة، لدخول عالم الغناء والحصول على وصول واسع، ما أوجب على الكثير من المغنين أن يعلنوا ولاءهم للحزب. تجاهلت القناة أغاني شيفان تمامًا بسبب اصطفافه مع نهج البرزاني بدلًا من حزب العمال. 

يقدم الاستخدام الاستراتيجي الذي ينتهجه حزب العمال الكردستاني للموسيقى بعدًا آخر رائعًا لتشكيل الهوية الموسيقية الكردية المعاصرة. تقوم هذه المجموعات ذات التوجهات السياسية الصريحة، والتي تحمل أسماء مثل كوما بيركويدان (مجموعة المقاومة) أو كوما دينجي آزادي (مجموعة صوت الحرية)، بتحويل التعبيرات الشعبية التقليدية إلى أدوات لرفع الوعي الثوري. 

في الواقع إن نهج هذه المجموعات الموسيقي – الذي يتسم في كثير من الأحيان بالطابع الجماعي بدلًا من التركيز على النجوم، والذي يعطي الأولوية للرسالة على الموهبة – يتجاوز تمثيل كردستان باعتبارها وطنًا ثقافيًا فحسب، إلى اعتبارها مشروعًا ثوريًا. 

المثير للاهتمام بشكل خاص في التقاليد الموسيقية التابعة لحزب العمال الكردستاني هو الكيفية التي يتعامل بها مع تمثيل الجنسين، حيث غالبًا ما تبرز المغنيات الإناث أكثر من المعتاد في الموسيقى الكردية السائدة. 

يعكس هذا التزام المنظمة الاسمي بالمساواة بين الجنسين (الذي يتجلى بشكل واضح في وحداتها العسكرية النسائية)، في حين تستغل في الوقت نفسه المؤدين الإناث كرموز للحداثة الكردية في تناقض ضمني مع المحافظة الإقليمية المتصورة. ليس الصوت النسائي مجرد تعبير فني بل بيان أيديولوجي يحمل طبقات متعددة من الأهمية تتجاوز تأثيره الجمالي المباشر.

كما يوضح التقليد الموسيقي المرتبط بحزب العمال الكردستاني كيف يحدث تشكيل الهوية الكردية، لا عبر التضاد مع الثقافات الوطنية المهيمنة (التركية والفارسية والعربية)، وإنما أيضًا من خلال التمايز الداخلي. 

يقف التوجه العلماني اليساري للإنتاج الموسيقي لحزب العمال الكردستاني على النقيض من التقاليد الموسيقية الكردية ذات التوجه الديني، ما يخلق تمييزات داخل الكردية نفسها. تعقّد هذه الحدود الداخلية، الأيديولوجية والإقليمية والطائفية، أيّ مفهوم متجانس للهوية الموسيقية الكردية، وتكشف عنها كمجال للتنافس بدلًا من جوهر ثابت.

اللاجئ | آرام تيجران

للمشككين في فرضية أن يصبحوا كردًا عبر عدد محدود من الأغاني، أدعوهم للاستماع إلى آرام تيجران، الذي ولد كـ آرام مليكيان في القامشلي شمالي شرق سوريا، لعائلة أرمنية أصلها من ديار بكر بتركيا. بعد الصف التاسع، ركز جهوده على تعلم الموسيقى والعزف على العود وقدم أول حفل موسيقي عام ١٩٥٣ في احتفالات النوروز وهو ابن ١٩ عامًا. 

كان يغني بأربع لغات: الكردية والعربية والسريانية والأرمنية. يعتبر آرام من بين أفضل المطربين والموسيقيين الكرد. سجل ٢٣٠ أغنية باللغة الكردية، و١٥٠ باللغة العربية. عام ٢٠٠٩ ومع الانفتاح التركي على الكرد تمكن من زيارة القرى التي نشأ فيها والداه في تركيا، وأقام حفلة موسيقية في احتفالات النوروز في باتمان.

تصف أغنيته بينابير، بكلمات بسيطة، طالبي اللجوء بأنهم كالطيور التي فقدت أجنحتها، تنتقل قافلتهم من بلد إلى آخر، تركوا منازلهم وممتلكاتهم، وضحوا بأرواحهم. ثم يقول المهاجر الأرمني بالكردية: “انظر إلي، انظر إلي.”

يشبع الأغنية بما يمكن وصفه فقط بالعلامات الصوتية المفرطة في الحنين إلى الماضي – هياكل نمطية وتقنيات صوتية تبدو تقليدية بشكل واعٍ تقريبًا، وكأنها تعوض عن المسافة الجغرافية بالقرب الجمالي من وطن متخيل، في استراتيجية ثقافية متطورة.

من خلال النهج الذي يعتمده ديكران في استخدام الصوت كأداة موسيقية – تلك الزخارف الموسيقية التي تبدو وكأنها تضغط عصورًا تاريخية بأكملها في مقاطع لفظية واحدة مستمرة – يخلق ما قد يطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا أرجون أبادوراي المناظر الطبيعية العرقية Appadurai, A. (1990). Disjuncture and Difference in the Global Cultural Economy. Theory, Culture & Society, 7(2-3), 295-310. https://doi.org/10.1177/026327690007002017 (Original work published 1990).، وهي جغرافيا كردية محمولة في الحلق بدلًا من تحديدها بواسطة نقاط التفتيش الحدودية.

المثير للاهتمام بشكل خاص في عمل ديجران هو كيف يوضح الطريقة التي تعمل بها الموسيقى الكردية في اتجاهين عبر شبكات الشتات. إذ تتدفق الأغاني التي ألفها في شقق ستوكهولم أو استوديوهات التسجيل في برلين عائدة إلى القرى في جنوب شرق تركيا أو شمال العراق، ما يخلق حلقات تغذية مرتدة من التعزيز الثقافي الذي يقاوم الميول الإنتروبية للمنفى. تصبح الموسيقى بمثابة تحويل صوتي، رأس مال ثقافي يُرسل إلى الوطن جنبًا إلى جنب مع التحويلات المالية الأكثر حرفية التي تدعم المجتمعات الكردية في الوطن.

يعمل النزوح في كثير من الأحيان على تكثيف الهوية الثقافية بدلًا من إضعافها. تُجسد أغنية آرام ديكران أتساءل من كان Gelo Ew Kî Bu هذه الظاهرة، وتجسد ما قد يسميه علماء الاجتماع: القومية البعيدة المدى، إلا أنها في الحالة الكردية قومية بدون جهاز الدولة القومية الفعلي لدعمها.

توفي تيجران في أثينا عام ٢٠٠٩. أراد أن يُدفن في ديار بكر في تركيا، إلا أن طلبه رفض على أساس أنه ليس مواطنًا تركيًا. عوضًا عن ذلك، دُفن في بروكسل، ونثرت حفنة من تراب ديار بكر في قبره.

قاسمخان | كامكارس

“سبعة إخوة، أخت، وابنة”، هكذا قدمت كاثرين زيتا جونز الفرقة في حفل تكريم شيرين عبادي بجائزة نوبل للسلام. تمثل فرقة كامكارس محاولة الموسيقى الكردية للاعتراف بها في سياق نادر من المهرجانات الموسيقية العالمية وقاعات الحفلات الموسيقية. 

يحول نهجهم في قاسمخان التقاليد الشعبية الكردية إلى ذخيرة حفلات موسيقية، دون التضحية بطابعها الأساسي ـ وهو إنجاز رائع إذا ما أخذنا في الاعتبار مدى سهولة تحول مثل هذه الحفلات إلى متحف فولكلوري. المجموعات الثلاث الرئيسية للغة الكردية هي: أ) الكردية الشمالية (المعروفة باسم الكرمانجية)، التي يتحدث بها أكراد تركيا وسوريا والمحيط الشمالي الغربي للعراق، إلى الشرق والشمال من بحيرة أورمية؛ ب) الكردية الوسطى (المعروفة أيضًا باسم الصوراني)، وهي إحدى اللغات الرسمية للمنطقة الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في العراق، ويتحدث بها أيضًا عدد كبير من السكان في غرب إيران على طول الحدود العراقية؛ ج) الكردية الجنوبية، التي يُتحدث بها تحت أسماء مختلفة بالقرب من مدينة كرمانشاه في إيران وعبر الحدود في العراق. نجد بعض الأمثلة الفنية للهجة الكردية الإيرانية في أعمال نيشتيمان وكامكارس.

ما يجعل قاسمخان مقنعة بشكل خاص هو تعقيدها البنيوي. إذ يتحرك التركيب الموسيقي عبر أقسام مميزة بمنطق معماري للموسيقى الكلاسيكية الغربية، مع الحفاظ على الانحرافات الدقيقة والتباينات الإيقاعية التي تميز الجماليات الموسيقية الكردية. 

ليس هذا انتقائية في حد ذاتها، بل هو بالأحرى هوية موسيقية كردية تؤكد على تطورها، وتطالب بالانخراط فيها وفقًا لشروطها المعقدة الخاصة بدلًا من استهلاكها كفضول إثنوجرافي غريب.

تخدم براعة كامكارس في العزف على الآلات الموسيقية وظائف متعددة في وقت واحد: الجمالية، والسياسية (إظهار التطور الفني للثقافة الكردية في دحض ضمني للقوالب النمطية اللا-إنسانية)، والحفاظ على التراث (توثيق الآلات والتقنيات التقليدية التي قد تختفي لولا ذلك تحت ضغوط الاستيعاب). 

عندما يتداخل السانتور (القانون المطروق) مع الكمنجة (الكمان المسنن)، خالقًا ذلك القوام المتجانس المميز، ما ينشأ ليس مجرد صوت لطيف، وإنما دليل صوتي على استمرارية الثقافة الكردية على الرغم من كل شيء مرتب ضدها.

يقودنا هذا ربما إلى أعمق مفارقة للهوية الموسيقية الكردية: هامشيتها ومركزيتها في آن واحد. تظل الموسيقى الكردية هامشية في أسواق الموسيقى العالمية، ونادرًا ما تحقق نجاحًا تجاريًا سائدًا يتجاوز فئات الموسيقى العالمية المتخصصة. مع ذلك، داخل المجتمعات الكردية – سواء في كردستان التاريخية أو في جميع أنحاء الشتات – تحتل الموسيقى مكانة مركزية في الحياة الثقافية، حيث تعمل ليس فقط كترفيه ولكن كأرشيف تاريخي وتعبئة سياسية وطقوس جماعية.

تولد هذه المفارقة تأثيرات مثيرة للاهتمام عندما تحقق الموسيقى الكردية لحظات من الظهور العالمي. لنتأمل الاستقبال الدولي لفنانين مثل شيفان برور وأينور، اللذان يظهران بشكل دوري في الوعي الغربي من خلال الظهور في المهرجانات أو التعاون مع الموسيقيين الغربيين. 

تأتي لحظات الاعتراف هذه، على الرغم من كونها تمنح المجتمعات الكردية شرعية، غالبًا على حساب إخراجها من السياق. إذ غالبًا ما تصبح الأبعاد السياسية للموسيقى – التي تشكل أهمية مركزية لمعناها في السياقات الكردية – مكتومة أو غريبة عندما تُقدَّم لجمهور دولي يبحث عن حداثة صوتية ممتعة أو التعرف على فلكلور نادر بدلًا من الانخراط في الواقع السياسي الكردي.

هاوار بيرو | ديار

توضح هذه الأغنية الكيفية التي طوَّر بها الموسيقيون الكرد أنظمة معقدة من الاستعارات والتلميحات التي مكنتهم من توصيل الرسائل السياسية مع الحفاظ على إمكانية الإنكار المعقولة. لم يضعف هذا التلميح القسري التعبير الموسيقي الكردي، بل ربما عززه، ما أدى إلى توليد استراتيجيات شعرية متطورة حولت القيود إلى فضيلة جمالية.

هكذا صارت موسيقى الأعراس الكردية – التي كانت غير سياسية ظاهريًا، والمسموح بها حتى في ظل الأنظمة القمعية – أوعية لمحتوى ثوري، حيث وفر السياق الاحتفالي غطاءً للمقاومة الغنائية، فأخفت إيقاعات الرقص رسائل الاحتجاج؛ واحتوت أغاني الحب البريئة على إشارات مشفرة إلى كردستان. يكشف هذا التكيف الاستراتيجي كيف كان تشكيل الهوية الموسيقية الكردية حواريًا دائمًا، واستجابة للضغوط. 

يصلح لحن هاوار بيرو لزفاف، أو نداء للرقص، أو أمر بالابتهاج. لكن أنصت باهتمام. الإيقاع مُلح، وتحت الكلمات همسة، وطلب، ورفض للاختفاء. لقد فهم أن لغة المنفى لا تُستخدم دائمًا في المنفى، بل إنها أحيانًا تُنسج في نسيج الاحتفال ذاته. كما أدرك الموسيقيون الكرد أن المكان الأكثر أمانًا لقول شيء خطير هو وسط حشد من الناس، تحت نبض الطبلة، وداخل نشوة ليلة الزفاف.

لقد فرضت الرقابة الإبداع، فأصبح الإبداع تقليدًا. تحوّل ما كان في السابق قيدًا إلى بنية، وطريقة في الكتابة وفي الغناء، وطريقة في الوجود.

فتيات كرديات | أينور دوغان

إلى جانب شهربان وجولستان، أوائل المغنيات الكرديات اللواتي تعرفت عليهن، كان تعرفي على جولستان عن طريق ديو مع شيفان ظننته كأي أغنية ثنائية سمعتها، قبل أن أعرف القصة الخلفية (الشائعات) التي تشبه المسلسلات التلفزيونية: كانت جولستان في الواقع زوجة شيفان، الذي رفض السماح لها بالظهور في الحفلات الموسيقية أو التصوير. بعد الطلاق، صار من الشائع مشاهدة جولستان على قناة ميزوبوتاميا، مع عدم التزامها الحصري بملابسها التقليدية. شكلت هذه القصة واحدة من أولى نمائم المشاهير التي انتشرت عن الموسيقيين الكرد. كانت أينور دوغان هي المغنية الكردية الثالثة التي أعشق الاستماع لصوتها.

تمثل كيجي كردان للمفارقة، الأغنية من كتابة وتلحين شيفان. شيئًا ظهر على وجه التحديد مع بداية الألفية عندما خضعت القومية الكردية لعملية العسكرة. بدأت النساء في الانضمام إلى النضال القومي بأعداد كبيرة، وفجأة أصبح لزامًا على الخطاب الثوري أن يستوعب مقاتلات حقيقيات يحملن أسلحة ويشاركن فعليًا في القتال. بدل النسوية النظرية كنّ نساء يضعن أنفسهن حرفيًا كمشاركات متساويات في النضال القومي.

المثير للاهتمام حقًا هو كيف خلقت هذه المشاركة حلقة تغذية مرتدة في الإنتاج الثقافي الكردي. فمع انضمام النساء إلى النضال، ظهرت المزيد من الأغاني التي تحتفي بالبطولة النسائية، الأمر الذي ألهم المزيد من النساء للانضمام إلى النضال، وأنتج المزيد من المنتجات الثقافية التي تركز على مشاركة النساء، وهكذا في دورة زيادة ظهور النساء.

يقودنا هذا إلى شخصية زيلان والإلهة القديمة ستيرك، والتي تظهر في أغنية شهربان، كيجي دلال، والتي تحكي عن زيلان، أول امرأة عضو في حزب العمال الكردستاني تنفذ هجومًا انتحاريًا عام ١٩٩٥. حيث تعلن كلمات الأغنية: “زيلان هي سلسلة أشهر الصيف / زيلان تجوب وطنها الأم / هي بركان فتيات ميد / زيلان زيلان.” 

هنا تصبح الأمور معقدة على المستوى النصي: فقد نجح الخطاب القومي الكردي في خلق هذا النسب الذي يربط المقاتلات المعاصرات بالأساطير السومرية القديمة. عبر ربط الكرديات المعاصرات بالقوة الأنثوية الإلهية في عصور ما قبل التاريخ، تؤدي هذه الأغاني وظيفة تاريخية مزدوجة: فهي تؤكد في الوقت نفسه على وجود كردي قديم في المنطقة (على النقيض من السرد القائل بأن الأكراد مجرد “أتراك من الجبال” أو أي تسمية أخرى رافضة) بينما تستعيد في الوقت نفسه القوة التاريخية للمرأة. خطوة بلاغية ذكية تجعل مشاركة النساء في النضال لا تبدو ثورية بل إصلاحية – عودة إلى هوية كردية أكثر أصالة بدلًا من تعطيل التقاليد.

ما يثير الاهتمام بشكل خاص في كل هذا هو كيف تعمل الموسيقى الشعبية الكردية كآلية إدماج فعالة، حيث تربط هوية المرأة بالنضال الوطني دون الحاجة إلى أطر نظرية معقدة أو إعلانات سياسية رسمية. تقوم الأغاني نفسها بالعمل الثقافي، وتضع معايير للهوية التي تتسم بالجنسانية والقومية والتقليدية والثورية في نفس الوقت.

يجري تأطير قمع الهوية الكردية وقمع المرأة كعمليتين متوازيتين، ما يعني أن التحرير لا بد أن يكون متوازيًا أيضًا. هناك شيء ثوري حقًا في هذا الإطار المفاهيمي، والذي يتجنب كل من فخ إخضاع اهتمامات المرأة للأولويات القومية (حجة “ليس الآن، بعد الثورة”) والمشكلة المعاكسة المتمثلة في التعامل مع النوع الاجتماعي والهوية الوطنية كقضيتين منفصلتين تمامًا.

إيمان ديلو | جوان حاجو

في فترة التسعينات، أراد كل الشباب والشابات الكرد الذين عرفتهم في حي الأشرفية أن يصبحوا عازفي بزق، وربما أن يحترفوا هذه المهنة. أحب أن أعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك كان صورة جوان حاجو وفيديو كليباته. 

ما ميز أغاني جوان حاجو هو تأثره بإقامته في أوربا ومحاولته التجديد في الموسيقى الكردية عبر إدخال أنماط غربية. مع ذلك ما يبقى لافتًا في الموسيقى الكردية هو هجينيتها العنيدة، ورفضها أن يجري تصنيفها بدقة. 

تمزج هذه الأغنية، على سبيل المثال، بين الحساسيات اللحنية الكردية التقليدية وقيم الإنتاج التي لن تبدو غريبة على محطة إذاعية معاصرة للبالغين في منتصف التسعينات. ليس هذا استسلامًا للجماليات الغربية بل هو بالأحرى تكيف استراتيجي، إذ تحافظ الهوية الموسيقية الكردية على طابعها الأساسي مع ارتداء الملابس المعاصرة. يظل أداء جوان الصوتي، بزخارفه الكردية المميزة وكثافته العاطفية، متحديًا للبوب العالمي حتى مع وجود ترتيبات إلكترونية مركبة تدور حوله.

يمثل ظهور موسيقى البوب ​​الكردية دراسة حالة نموذجية لما قد نسميه جدلية الاستمرار الثقافي. اللافت للنظر ليس أن الموسيقيين الأكراد تبنوا أجهزة توليد الأصوات وآلات الطبول، في تكيف تكنولوجي كان عالميًا تقريبًا في جميع التقاليد الموسيقية العالمية بعد الثمانينات، بل الطرق المحددة التي جرى بها استيعاب هذه التقنيات داخل الأطر الموسيقية القائمة.

لم تكن موسيقى البوب ​​الكردية التي ظهرت مجرد ألحان تقليدية معدلة بآلات إلكترونية، ولا كانت استيرادًا شاملًا لهياكل البوب ​​الغربية مع تطبيق كلمات الأغاني الكردية بشكل سطحي؛ كانت شيئًا أكثر دقة، توليفة حقيقية خلقت إمكانيات جديدة للتعبير الموسيقي الكردي.

السياسة الصوتية التي تعمل هنا خفية لكنها مهمة: من خلال الاستيلاء على الفخاخ الصوتية لموسيقى البوب ​​العالمية – ديناميكياتها المضغوطة، وطيف الترددات المصمم بعناية، وبريق الاستوديو الخاص بها – اختطف الموسيقيون الأكراد بشكل فعال دلالات الشرعية التجارية، وهي الطرق التي كانت غير متاحة في السابق في ظل أنظمة الإعلام التي تسيطر عليها الدولة.

تزامن هذا التحول التكنولوجي مع – بل ويسر بالفعل – تحولًا حاسمًا في شبكات التوزيع. ثورة الكاسيت في الثمانينات، تليها تكنولوجيا الأقراص المضغوطة في التسعينات، ثم الملفات الرقمية ومنصات البث في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نقلات أدت إلى لا مركزية السيطرة على تداول الموسيقى الكردية تدريجيًا. حيث كانت الإذاعة الحكومية تتمتع ذات يوم بسلطة احتكارية على الأصوات الكردية التي يمكن بثها (كما يوضح مثال إذاعة بغداد). 

خلقت هذه التقنيات الجديدة قنوات توزيع بديلة أثبتت صعوبة مراقبتها أو قمعها بشكل ملحوظ. يمكن تكرار شريط ديار المهرب آلاف المرات في عمليات تحت الأرض؛ لقد أصبحت ملفات إم بي ثري قادرة على عبور الحدود من خلال محركات الأقراص المحمولة ومرفقات البريد الإلكتروني، الأمر الذي جعل الرقابة الحكومية غير فعّالة على نحو متزايد.

لم تكن الجمالية الشعبية الناتجة مجرد تسلية في معارضة للأشكال التقليدية، بل كانت جبهة جديدة في الصراع المستمر من أجل الحضور الثقافي. ليست القيم الإنتاجية اللامعة لفنانين مثل أعمال شيفان اللاحقة أو مقاطع الفيديو الفيروسية لهيلي لوف تنازلات للأذواق الغربية بل تأكيدات على المعاصرة، مطالب بالتعامل معها كمنتجين ثقافيين حديثين وليس كعينات إثنوغرافية غريبة. 

ربما يمثل هذا الإصرار على المعاصرة الجانب الأكثر تطرفًا في موسيقى البوب ​​الكردية: رفضها أن تُحْصَر في زمن الماضي الثقافي، ومطالبتها بالمشاركة في الحاضر العالمي على قدم المساواة بدلًا من كونها بقايا محفوظة.

قافلة | أحمد كايا

كايا معروف جيدًا لمحبي الموسيقى التركية، وأفضل وصف لأعماله لم يكتب في المجلات الفنية أو ألقي في حفلات الجوائز، وإنما كُتب على جدران إسطنبول: “المخدر الوحيد الذي يؤخذ عبر الأذن هو أحمد كايا.” 

كايا كردي تركي، وحقق منزلة مرموقة في الفن التركي تقارن دائمًا بمسيرة بالجان Selda Bağcan. مع ذلك، خلال حفل توزيع جوائز الموسيقى السنوي المتلفز الذي كان من المقرر أن يتم اختيار كايا فيه كموسيقي العام، قال كايا إنه يريد إنتاج الموسيقى بلغته الأم، وأعلن أيضًا أنه سجل أغنية باللغة الكردية، كرفان (قافلة)، وينوي إنتاج فيديو مصاحب لها.

بعد هذا الإعلان، واجه اعتراضًا مقلقًا من حضور الحدث. في وقت لاحق، تعرض كايا لهجوم من قبل المشاهير. تصف زوجة كايا الهجوم قائلة: “فجأة، تحول كل هؤلاء الرجال والنساء الأنيقين إلى وحوش، أمسكوا بالشوك والسكاكين وألقوا بها علينا، وأهانونا وأطلقوا صيحات الاستهجان. تخيل كيف تغير الجو في خمس دقائق فقط، تحول أشبه بتحول كافكاوي.”

بعد هذه الحادثة، اختار كايا النفي الطوعي، وهاجر إلى فرنسا حيث توفي بعد فترة وجيزة بذبحة قلبية. 

أنا كردي | سرهادو

ما يلفت الانتباه بشكل خاص في الإنتاج الموسيقي الكردي المعاصر هو وعيه الذاتي، ووعيه الفوقي بوظيفته في بناء الهوية؛ وعلى النقيض من الأجيال السابقة من الموسيقيين الأكراد الذين كانوا أكرادًا ببساطة، وكانوا يصنعون موسيقى تعبر بشكل عضوي عن بيئتهم الثقافية، فإن الفنانين الأكراد اليوم غالبًا ما يضعون أنفسهم صراحةً في موقف كونهم يؤدون الهوية الكردية، سواء للاستهلاك الداخلي (تعزيز التضامن العرقي) أو للاعتراف الخارجي (تأكيد الشرعية الثقافية على المسارح العالمية). 

ليس هذا البعد الأدائي عدم أصالة بل هو بالأحرى تكيف مع الظروف الانعكاسية لأواخر الحداثة، حيث أصبحت الهوية نفسها واعية بذاتها بشكل متزايد.

لنتأمل هنا ظاهرة الهيب هوب الكردي، فنانون مثل سرهادو أو ديلين هوكس، الذين يمزجون بين الأشكال الموسيقية الغربية والمحتوى اللغوي والثقافي الكردي. لا يمثل عملهم استيعابًا بل انتقالًا ثقافيًا، ما يخلق ما قد يطلق عليه المنظر الثقافي هومي بابا الفضاء الثالث، حيث لا تظل التقاليد الكردية ولا الهيمنة الموسيقية الغربية على حالها. 

تكتسب تقنيات أخذ العينات المتأصلة في إنتاج الهيب هوب أهمية خاصة في السياق الكردي، حيث التفتت الرقمي وإعادة تركيب الصوت بالتوازي مع الطبيعة المجزأة لكن المستمرة للهوية الكردية نفسها.

ما يجعل هذا التهجين مختلفًا عن الأشكال السابقة للتكيف الموسيقي الكردي هو انخراطه الصريح في التدفقات الثقافية العالمية بدلًا من التدفقات الإقليمية فحسب؛ وفي حين استوعبت الأجيال السابقة من الموسيقيين الأكراد تأثيرات من التقاليد العربية أو الفارسية أو التركية المجاورة (غالبًا بشكل سري، مع الحفاظ على وهم النقاء الثقافي)، يتبنى الفنانون المعاصرون علنًا التأثيرات العالمية دون قلق بشأن التلوث. يعكس هذا التحول تغييرات أوسع نطاقًا في كيفية تصور العرقية نفسها – أقل كجوهر يجب الحفاظ عليه وأكثر كمورد يجب تعبئته.

لا يعني هذا أن الموسيقى الكردية تتمتع بطابع عالمي لا يشوبه أي احتكاك. لا يزال المشهد الموسيقي الكردي يتسم بالتوترات بين المتشددين الذين يرون في التهجين استسلامًا، والمجددين الذين ينظرون إلى التقاليد باعتبارها موردًا قابلًا للتغيير وليس نصًا مقدسًا. لا تقتصر هذه المناقشات على الجانب الجمالي، بل إنها سياسية إلى حد كبير، وتعكس رؤى متباينة لما قد يعنيه الاستقلال الثقافي الكردي في الممارسة العملية. 

إذًا، هل ينبغي للموسيقى الكردية أن تخدم في المقام الأول احتياجات المجتمع الداخلي أم تعمل كسفيرة ثقافية؟ وهل ينبغي لها أن تؤكد على الاستمرارية التاريخية أو الأهمية المعاصرة؟ تظل هذه الأسئلة دون حل، ما يؤدي إلى تناقضات مثمرة تغذي الإبداع والابتكار.

شامامة | إبراهيم تاتليسس

قد توحي القائمة أن الأغاني الكردية تدور حول السياسة والحزن، وأنها دائمًا جدية. لكن في الحقيقة الشعب الكردي يحب الاحتفال والفرح، ويعشق الرقص كما يعشق هويته. في الحقيقة إذا أردت أن تصبح كرديًا فعليك الاستعداد للكثير من الرقص. 

يحدث التقاطع الأكثر مباشرة بين الموسيقى الكردية والهوية الجسدية بطبيعة الحال في الرقصات المعقدة التي تتشكل منها تقاليد الرقص الكردية. ليس هذا مجرد تحفة فولكلورية يتم عرضها في المهرجانات الثقافية؛ بل إنه أرشيف جسدي، وطريقة للمعرفة والتذكر تتجاوز الإدراك الفكري بالكامل. 

تعمل رقصة الخط التقليدية في الوقت نفسه كنشاط ترفيهي وآلية للترابط الاجتماعي وتربية ثقافية مجسدة. عندما تنظم الأجساد نفسها في دوائر متحدة المركز، وتربط الأيدي في قبضة كتف إلى كتف مميزة، فإنها لا تنفذ سلسلة من الخطوات فحسب، بل تمثل فعليًا نظرية معرفية جماعية، وتتمسك حرفيًا ببعضها البعض من خلال النزوح التاريخي الذي قد يؤدي لولا ذلك إلى تفتيت الهوية الكردية إلى شظايا لا يمكن استعادتها.

لنتأمل هنا العلاقة بين الإيقاع الموسيقي وحركة الرقص في أشكال محددة مثل رقصة الدليلو أو رقصة الجراني. إن إيقاعات ٢/٤ أو ٦/٨ التي تهيمن على هذه الأشكال ليست اختيارات جمالية تعسفية، لكنها تطورت بدقة لاستيعاب أنماط معينة للقدم، ونقل الوزن للأمام والخلف والذي يبدو وكأنه يطبع الهوية الكردية مباشرة على الأرض التي يجري الرقص عليها.

عندما تتمكن نساء القرية المسنات اللاتي لم يتلقين تدريبًا موسيقيًا رسميًا من التمييز على الفور بين إيقاع ديليلو وجراني، فهذا لا يمثل المعرفة الثقافية فحسب بل والحكمة المجسدة، العضلات والأعصاب التي استوعبت الأنماط الإيقاعية تمامًا حتى أصبحت غريزية وإدراكية.

المثير للاهتمام بشكل خاص هو كيف تعمل الرقصة في المجتمعات الكردية في الشتات، حيث تستمر غالبًا حتى عندما يتعثر اكتساب اللغة. قد يكافح المهاجرون الأكراد من الجيل الثاني في ألمانيا أو السويد مع مفردات الكرمانجية، لكن أجسادهم تتذكر الأنماط الدائرية، واهتزازات الكتف، واللحظة الدقيقة عندما يشير قائد الدبكة serçopî إلى تحول في تصميم الرقصة بحركة منديل. 

يشير هذا إلى شيء عميق حول مرونة المعرفة الثقافية المجسدة، ربما الجوانب الأكثر ديمومة للعرقية ليست البنى الفكرية ولكن الذكريات العضلية، والمسارات العصبية المنحوتة من خلال تكرار الحركة بدلًا من تكرار الكلمات.

من المفيد أيضًا الاطلاع على رقص صوفي عمر الذي أصبح تريند على تيك توك في وقت ما، وأغنية سيليليه مع رقصة خاتون المميزة بشبك خنصر اليد، ونموذج من رقص كردستان العراق في ده بيرو. أخيرًا، ولعدم خلق صورة نمطية كئيبة عن الموسيقى الكردية، استمع لأغنية ترس بيف الفلكلورية التي تتميز بحس فكاهي لافت، حيث يغازل المغني حبيبته بعصبية ويصفها بالشحاطة (الشبشب) الصفراء. 

يمكنك أن تشاهد في المقطع عازف المزمار وهو لا يتمالك نفسه من الضحك في الخلفية. لطالما ذكرتني هذه الأغنية – والمطرب بشاربه العريض – بسهرات عفرين وليالي السمر حتى الصباح، وهو جزء ضروري من حياة أي كردي، خاصة بعد محصول زيتون وافر.

رويدًا رويدًا | جولبهار

عندما سألت جدتي: لماذا تبدأ الأغاني الكردية بمواويل طويلة وكأنهم يصرخون، أليس ذلك مؤلمًا؟ أجابت بأنه قبل اختراع الهاتف، تواصل الكرد، الذين يعيشون في الجبال، بين القرى بالنداء على رؤوس المرتفعات. أيضًا، في الأعراس، وفي موسم قطاف الزيتون كان الصوت الجهوري ضروريًا وميزة مهمة في غياب الميكرفون. وبقيت تقاليد تلك الأزمنة.

أقنعني كلام جدتي رغم أني لا أعرف دقته. مع ذلك يقدم هذا التفسير لمحة سريعة لفهم تاريخ الموسيقى الكردية، مع استحالة عرضه في مقالة واحدة، وهي أن الموسيقى الكردية لطالما كانت ابنة بيئتها وتفاعلت مع ظروفها. 

أحد الأمثلة على فلكلور الموسيقى الكردية هو أغنية هيدي هيدي. التي ظهرت لأول مرة على راديو بغداد عام ١٩٦٠. وهي من نوع الجوراني، أغانٍ قصيرة غير سردية ويسهل تعلمها، ما يجعلها أكثر شعبية من الأنواع الصوتية الأخرى. يمكن اعتبار أغاني الرقص والأغاني الغنائية والأغاني السياسية من نوع الجوراني. 

غنتها جولبهار باللهجة الكرمانجية، ويجمع ترتيب أحدث بين نسخة جولبهار باللهجة الكرمانجية وكلمات قديمة وجديدة باللغة الصورانية. 

بث راديو بغداد عروضًا من الروايات الغنائية والشعر والأغاني الراقصة وغيرها من الأنواع من الصوت والكلمة اللحنية. كان لهذه البرامج تأثير دائم على الحياة الموسيقية للأكراد، واكتسبت الأنواع والأساليب التي جرى بثها شعبية واسعة النطاق. اجتذبت برامج بغداد الإذاعية العديد من الموسيقيين الأكراد من تركيا وإيران، الذين هاجروا إلى بغداد للعمل دون عقوبات من الدولة.

على عكس الموسيقى الكردية التقليدية التي استندت على الغناء والألحان البسيطة والفردية غالبًا، تميزت موسيقى بغداد بفرق أوركسترا كبيرة. تضمنت هذه الفرق الأوركسترا آلات مثل العود (لافتا) والعود الكلاسيكي (الطمبور) والكافال (بيلور) والطبول (أربن). كما صار هذا الشكل الجديد من الموسيقى الكردية شائعًا.

حفزت الموسيقى الكردية من بغداد على تشكيل وعي قومي كردي في العراق وتركيا وإيران وسوريا. تآكلت الحدود السياسية للدول القومية المختلفة من خلال الثقافة الجماهيرية والموسيقى، ودفع البرنامج الكردي على راديو القاهرة، الذي كان يهدف إلى الدعاية ضد الحكومة العراقية في عام ١٩٥٧، الدولة العراقية إلى توسيع بثها بالكردستاني (الكردي المركزي). 

كما بدأت إيران في بث برامج في الغالب بالكردستاني في عدة مواقع على ما يبدو لتحويل انتباه أكرادها عن البث الكردي العراقي. اكتسبت الموسيقى الكردية التي أنتجت في هذه الفترة خصائص عربية أكثر.

على سبيل المثال، تضمنت أغاني محمود عزيز شاكر لإذاعة بغداد في القسم الكردي عام ١٩٦٩ عازفين عربًا في الغالب، وحتى الجوقة. عملت إذاعات بغداد وأورينت وإريفان باللغة الكردية على تنشيط الثقافة والموسيقى الكردية.

أمام أبواب قامشلو | محمود بيرازي

من الماضي إلى شيء معاصر مع أغنية، حيث يبدو أن كل الثيمات السابقة تعود للتكرار بصيغة ملائمة للقرن الواحد والعشرين، في ظل انتشار وشعبية أغاني كردية متأثرة بشدة بموسيقى البوب الغربية. 

الأغنية عن سكان قامشلو الذين يجدون أسبابًا بسيطة للبقاء في مدينتهم حتى مع هروب الكثيرين بسبب الحرب في سوريا، وعن التنوع الطائفي الذي يسكن المدينة من كرد وعرب وآشوريين وكلدان، وهي تذكير مؤثر بعلاقة الكردي بأرضه ومحيطه المتنوع في ذات الوقت.

خاتمة

المميز في الموسيقى الكردية، وهو أمرٌ غائب في النصوص الموسيقية الإثنية التقليدية التي تتسم بتصنيف الأنماط الإيقاعية بطريقة منفصلة، أنها تعمل كأرشيف وجودي وليس كترفيه. تحمل كل أغنية في حمضها النووي اللحني الذاكرة الجماعية لشعب. 

لا يعني كونك كرديًا من خلال الأغاني ادعاء بعض النقاء العرقي الجوهري، بل إصرار على الحق في سرد ​​قصة المرء على الرغم من المحاولات المنهجية لإسكات هذا السرد. لا تصبح الموسيقى مجرد تعبير ثقافي بل مقاومة معرفية – تتحدى من يحصل على معرفة ماذا، وكيف يتم بناء التاريخ، ومن يستحق أن نتذكر معاناته. 

يعني أن تكون كرديًا في هذه الأغاني الانخراط فيما قد يسميه الفيلسوف تشارلز تايلور الانعكاس الجذري، التساؤل المستمر والتأكيد على الهوية ضد المحو المفروض خارجيًا. كل منعطف لحني، كل زخرفة صوتية، كل تلميح غنائي إعلان وجودي: نحن هنا. لقد كنا هنا دائمًا. وسنستمر في الوجود.

ما تكشفه هذه الأغاني الأربعة عشر في النهاية ليس تعريفًا ثابتًا للكردية، بل ديناميكيتها الأساسية، قدرتها على الاستمرار من خلال التكيف، والحفاظ على التماسك على الرغم من التشتت، وتحويل القيود إلى إمكانية إبداعية. إنها تشير إلى أن السمة الكردية الأبرز ربما هي هذه المرونة ذاتها، هذا الرفض للاختفاء على الرغم من كل شيء يصطف ضد بقاء الثقافة الكردية.

أن تكون كرديًا في هذه الأغاني الأربعة عشر يعني أن تعيش في مفارقة – أن تكون قديمًا وحديثًا، محليًا وعالميًا، تقليديًا وطليعيًا في نفس الوقت. إنه الاعتراف بالهوية الثقافية لا كميراث ثابت وإنما باعتبارها ارتجالًا مستمرًا، واستجابة إبداعية للظروف التاريخية التي تظل مفتوحة لإمكانيات المستقبل. لا تحل الموسيقى هذه التوترات لكنها تحافظ عليها بشكل منتج، ما يخلق مساحة صوتية حيث يمكن إعادة تصور الكردية بشكل مستمر بدلًا من مجرد الحفاظ عليها.

المفارقة الأخرى بالطبع هي أن هذه المقالة نفسها تمثل طبقة أخرى من الوساطة في بناء الهوية الموسيقية الكردية. من خلال تصفية هذه الأغاني من خلال الأطر النقدية الأجنبية (مهما كان ذلك بوعي ذاتي)، أشاركُ في نفس عمليات الترجمة الثقافية والتحول التي تميز الإنتاج الموسيقي الكردي نفسه. 

لا يوجد موقف محايد يمكننا من خلاله مراقبة هذه الديناميكيات، فنحن جميعًا متورطون في البناء المستمر للمعنى الثقافي، سواء كمبدعين أو نقاد أو جمهور. ربما يكون هذا هو الدرس النهائي الذي يجب أن تعلمنا إياه هذه الأغاني الأربعة عشر: الهوية الثقافية ليست شيئًا تمتلكه بل هي شيء تفعله، وهي أداء مستمر وليس جوهرًا مستقرًا. 

يعني أن تكون كرديًا في هذه الأغاني المشاركة في هذا الأداء، وإضافة صوتك إلى جوقة تمتد إلى الوراء عبر التاريخ المؤلم وإلى الأمام نحو مستقبل غير مؤكد. تتجاوز الموسيقى التعبير عن هذا الواقع فحسب إلى خلقه أيضًا، أغنية بعد أغنية، ونغمًا بعد نغمة، وجيلًا بعد جيل، وطنًا صوتيًا يستمر عندما تظل الأراضي المادية متنازعًا عليها أو من الصعب الوصول إليها.

المزيـــد علــى معـــازف