.
من العار أن يعزف الرجل على آلة الآردين، أو أن تعزف المرأة على آلة التيدنيت، الآلتان اللتان تلمان بكل الأوزان والمقامات في الموسيقى الحسانية. تنسب الموسيقى الحسانية إلى بني حسان، رغم أنها ولدت في عهد الدولة المرابطية الثاني، بسبب تمكنهم من المرجعية السياسية والثقافية بعد أن استقروا في المنطقة خلال القرن الخامس عشر ميلادي على حساب المرابطين الدولة المرابطة قامت على تحالف واسع مع قبائل الصنهاجيين. هي أول شكل لدولة مكتملة المعالم في منطقة المغرب.
تتكون التيدنيت من خشب بيضوي الشكل يستخرج من شجر الأدرس المحلي، عليه جلد غنم أو بقر أو إبل ولها أربعة أوتار تصنع من شعر الخيل أو أمعاء الشاة، أو النيلون حديثًا. يرجع أصل التسمية إلى اللهجة الصنهاجية، وتعني حرفيًا آلة العزف. يحتكر الموسيقيون الرجال الذين يسمون بـ الإيكاون في اللهجة الحسانية العزف على هذه الآلة، بينما هي آلة للنساء في باقي المناطق الإفريقية.
تحتكر النساء العزف على الآردين التي تُصنع من قدح كوز كبير يلفه جلد الغنم على هيئة الطبل التقليدي. تشد الأوتار إلى عود طويل مثبت إلى ذلك القدح، وتُصنع الأوتار الثلاثة عشر من زغب أذناب الخيل ويعزف عليها بالظفر. تختص النساء في موريتانيا بعزف الآردين على عكس ما يجري في الدول الإفريقية المجاورة.
يوحي شكل الآردين المنتفخ بالامتلاء، وهي سمة جمالية مهمة للنساء في موريتانيا، حيث تُجبر الفتيات على الأكل المفرط في تقليد يدعى التبلاح، وهو تسمين قسري بهدف تحضير الفتيات للزواج، فتُعزَلن عن المجتمع وتُنفَين إلى معسكرات بهدف زيادة الوزن والامتلاء. يُزوّق الآردين أيضًا بالحناء وأصباغ أخرى تزيد من شبهه بامرأة موريتانية بدوية.
يُظهر اختلاف جنس العازف على هاتين الآلتين بين موريتانيا وبقية شعوب المنطقة تفرد الثقافة الموريتانية، التي اغتنت بسبب التقاء الصنهاجيين نسبة إلى بنو صنهاجة، وهي قبائل أمازيغية استقرت بشمالي الصحراء الإفريقية الكبرى. أدى تحالفهم مع المرابطين خلال القرن العاشر ميلادي إلى تأسيس الدولة المرابطية التي امتدت على موريتانيا البربر بالعرب القادمين من الحجاز وقبائل بني حسان، وقربها من الأندلس، إلى جانب تفاعلها الدائم مع حاضنتها الأكبر، إفريقيا. يظهر التنوع أيضًا في تعدد التسميات واختلاف أصولها في الإشارة إلى اختلاف الروافد الثقافية لهذه الموسيقى، حيث تتداخل المفردات الصنهاجية والحسانية، فهنالك من يسميها موسيقى البيظان نسبة إلى إقليم البيظان الذي يمتد من وادي درعة في جنوب المغرب إلى نهر السنغال. يشار بالبيظار أيضًا إلى سكان المنطقة التي كانت التقاءً للعديد من الأعراق كالصنهاجيين والعرب وقبائل هاجرت من الأندلس إثر سقوطها، بالإضافة إلى المكوّن الإفريقي الذي رسّخ وجوده داخل الثقافة الحسانية هناك. تسمى أيضًا بموسيقى التيدنيت نسبة إلى الآلة التي تحمل نفس الاسم وتعزف عليها جميع مقامات هذه الموسيقى. يطلق عليها آخرون تسمية أزوان وهو لفظ صنهاجي مركب يعني كلام الشعر حرفيًا.
تبقى التسمية الأكثر انتشارًا هي الموسيقى الحسانية. يتجه بعض الباحثين مثل محمد ولد أحظانا مقالة الموسيقى الحسانية -موسيقى التينديت-:ملامح البنية والدلالة والوظيفة. العدد ٢١. مجلة الثقافة الشعبية إلى الحفاظ على تسمية التيدنيت لارتباطها بالآلة الوترية الأولى وقدرتها على عزف كل النغمات التي تصورها أو تخيلها السكان، أو استجلبوها معهم في هجراتهم أو تعاطيهم مع الشعوب المجاورة. يشير ولد أحظانا في نفس المقال إلى أن التيدنيت هي “… الآلة الأكثر كفاءة من حيث النغمات، والأكثر إحاطة من ناحية القدرة على عزف كل المقامات والطوابع التي تتألف من ٢٤ وحدة كبرى تضمن مئات الوحدات الصغرى.”
إلى جانب هاتين الآلتين، هناك آلات أخرى وسيطة تتحرك في المساحة الإيقاعية بين الآردين والتيدنيت، مثل الطبل ذو الأصول الزنجية والذي يعد الأكثر استعمالًا في إفريقيا. يصنع الطبل من الجلد وخشب بعض الأشجار المحلية وخاصة الطلح المنتشر بكثرة في الصحراء، ولا تقتصر وظيفته على الموسيقى، بل يتعدى ذلك ليكتسب ثقلًا اجتماعيًا يظهر من خلال استعمالاته العدة، سواء عند إعلان الحرب أو ضياع الإبل أو التحذير من خطر ما. خلافًا للآردين والتيدنيت، فإن الطبل يجمع حوله الجنسين، ويعتبره البعض الآلة الأهم في الموسيقى الموريتانية لما له من دور اجتماعي. في كتابه صحراء العرب الكبرى، يورد الباحث محمد سعيد القشاط بأن الطبل يمثل “مجد القبيلة، ورمز قوتها، وخيمة شيخ القبيلة هي خيمة الطبل، والطبل يمثل راية الحرب، والقبيلة التي يؤخذ طبلها في الحرب تحسب مهزومة، ويلحقها العار والإهانة. هناك طرقات معينة للطبل في الحرب، والسلم، والاجتماع وضياع قافلة ووصول قافلة. للطبل شخص يقرعه ولا يقرعه سواه ويكون تحت نظارة الشيخ وقريبًا منه. أما في الطرب فتقرعه زوجة المطرب، التي تسمى بـ تيكّيوْت، على أنغام الموسيقى والغناء. يُصنع الطبل من جلد البعير ويربط على قصعة من العود، ويشد بحبل. توجد في أعلاه ثقوب لخروج الهواء عند القرع حتى لا ينفج.”
https://youtu.be/3r8em0wpHYc
بالرغم من أهمية الطبل الاجتماعية والموسيقية إلا أنه لا يحتكر المشهد الإيقاعي لوحده، إذ نجد الكدرة التي تأخذ هي الأخرى وظائف إجتماعية تتمثل بالأساس في الرقص. تتشكل الكدرة من إناء مدور من الطين يغطيه جلد على فوهته بغرض تكثيف الهواء داخلها، ويثبت بإحكام إلى الثقوب التي تعلو جانبها. يُنقر على هذه الآلة بواسطة أغصان الشجر. يعود لفظ الكدرة عربيًا إلى مصطلح القدر التي تستعمل عند الطبخ، وتأتي أهميتها في الموسيقى الحسانية من اقترانها برقصة الكدرة التي ترقصها النساء. تبقى هذه الرقصة حاضرة بقوة في العالم الطقوسي للصحراء، إذ تلبي حاجة القبيلة إلى السمر وتستوعب تعابير غنائية وشعرية، كما تقدم شكلًا إبداعيًا شعبيًا يقوم على الاستجابة الجماعية للغناء والرقص.
هناك آلات أخرى كالنيفارة أو لكصيبة، أي الناي وهي من الآلات النفخية التي تضيف بعداً آخر إلى الموسيقى الحسانية نظراً لارتباطها بحياة الرعي وقوافل الصحراء. يستخدم الرعاة آلة أخرى تحاكي أصوات الطبيعة والحيوانات تسمى الزوزاية التي يتم تطويعها لإستخراج أصوات كوقع الإبل والخيل.
تمارَس الموسيقى الحسانية عادة كتقليد عائلي يستمر ويُعلّم داخل إطار العائلة وروابط الدم. تتخذ الموسيقى شكل الميراث، وتتنوع أشكالها ووظائفها حسب اختلاف النسب والجذور، فنجد عائلات تخصصت في المدح النبوي، وأخرى اشتهرت بكونها من الرواد في العزف على التيدنيت والآردين، فيما تمكنت أسر أخرى من الشعر الغنائي وتفننت في ضروبه مثل المدح أو الغزل أو الحماسة. بهذا ترسم الموسيقى الحسانية خارطة جينية يمكن من خلالها استقراء الجذور والنسب وفهم التنوع الموسيقي حسب تقاليد كل عائلة، كأن نتتبع المديح مع عائلة الميداح، ونرى عائلة إنكذي تتفرد على البقية بخاماتها الصوتية فيما تتميز عائلة البيبان بجودة العزف. تلتقي أصول أهل همدفال وآبه إذ ينحدران من نفس الجد الأعلى: سيدوم ولد إنجرتو الذي يُعد رائد الشعر الحساني. نشأ وترعرع في الحوض الشرقي لموريتانيا وعاش لأكثر من مئة سنة ما بين القرن الثامن والتاسع عشر. لم يكتف بالشعر فقط، بل عرف كعازف رائد على آلة التدينيت وأضاف لها وحدات نغمية جديدة.
يعتبر سيدوم ولد إنجرتو جد طبقة الإيكاون، ذلك أن عائلته ظلت تتوارث فن الغناء والشعر من بعده. يبقى الأمر مجرد أسطورة، إذ أن أشجار النسب والباحثين في الأصول يشيرون إلى إختلاف العائلات الفنية في موريتانيا على اختلاف أجدادها الأوائل.
تعتبر أسرة أهل آبه التي ينتهي نسبها إلى سيدوم ولد إنجرتو من الأسر الفنية البارزة في موريتانيا. من أبرز فناني هذه العائلة ديمي منت آبه، والدها سيداتي ولد آبه الذي وضع لحن النشيد الرسمي الموريتاني، وأمها هي منينة منت أيدة المنحدرة من أسرة فنية أخرى، والتي علمتها العزف على الطبلة والآردين. تتلمذت ديمي فيما بعد على يد عيشة منت الببان وفاطمة منت عو فنانتان علمتا ديمي في بداياتها. ليس هنالك مراجع حولهما.
بدأت ديمي حياتها الفنية مع زوجها المطرب سيمالي ولد همدفال الذي وضع لها لحن ريشة الفن التي حصلت بها على الحزام الذهبي في مهرجان أم كلثوم الفني بتونس سنة ١٩٧٧.
لم تقتصر الموسيقى على الزوجين، فأبناؤهما ولد أمني ولد سيمالي والموسيقية فيروز منت سيمالي عرفا كعازفين. خارج إطارها العائلي، شكلت ديمي بنت آبه ثنائيًا بارزًا مع سدوم ولد أيدة (من عائلة سدوم المختار الفنية)، وغنيا الشعر الحساني والعربي الفصيح.
تزوجت ديمي فيما بعد من ابن خالتها الموسيقي الخليفة ولد آيدة، وشهدت مسيرتها الموسيقية انطلاقة أخرى من لندن حيث سجلت هناك بتوصية من المالي علي فاركا توري.
تعاملت ديمي مع الملحن السوري فريد حسن إثر تواجده في موريتانيا كأستاذ لعلم النفس. في شهادته عنها يقول الملحن الحلبي: “كانت ديمي على قدر فائق من الذكاء، وكانت منفتحة على الموسيقى العربية فتختزن ذاكرتها كثيرًا من أغاني أم كلثوم وغيرها من المطربات العربيات، أدتها ببراعة فائقة وبمسحة خاصة.” مقالة لعبد الله والد لبو في الهافينجتون بوست
لم تكن تلك الشهادة من عدم، فالثنائي عرفا تعاونًا مثمرًا شهد ذروته مع أغنية كرسيك يا أغلانا، التي أدرجت فيها مفردات سورية وتقبلها الجمهور الموريتاني بحماس كبير. يظهر في الأغنية تمكن ديمي من المقامات العربية والانتقال في الطبقات الصوتية.
تنحدر عائلة الميداح من أسرة أهل مانو في جنوب موريتانيا وسميت بالميداح لاشتهارها بالمدح النبوي. للمدرسة الميداحية إسهامات الكبيرة في الموسيقى الحسانية، واشتهر منها المختار ولد الميداح، المحجوبة، المعلومة، وأحمد ولد الميداح و آخرون.
ينحدر الشاعر المطرب المختار ولد الميداح من عائلتين فنيتين بامتياز. فأبوه هو محمد ولد علي ولد أعمر ولد مانو الملقب بالميداح وأمه العازفة منينة منت الببان. اشتهر المختار في المديح، وجمع بين مهارة أهل الببان في العزف وإلمامه بأصول الموسيقى داخل المدرسة الميداحية. تعود مهارته في التمكن من آلة التيدنيت إلى أخواله من عائلة الببان كأحمد ولد الببان ومحمد يحيى وأحمد سالم ولد الببان.
بما أن الموسيقى الحسانية تقوم على التوريث، نجح المختار بتوريث فنه لابنته المتمردة المعلومة، التي وجدت نفسها هي الأخرى في حاضنة موسيقية جمعت بين عائلتين عريقتين: الميداح والببان (أمها عائشة منت الببان). انقطعت المعلومة عن التعليم مبكرُا لتلقن الموسيقى كما هو الحال في بحسب تقاليد البلد، فأحاطت بالمقامات وأظهرت تمكنًا ومهارة في العزف على الآردين.
ظهرت المعلومة في بداياتها مع أختيها منينة وعرفات، وحاولت عصرنة الموسيقى الحسانية التقليدية عبر المغامرة باللحن والكلمات مثل أغنية حبيبي حبيته سنة ١٩٨٨. كما أنها لقبت بمطربة الفقراء، وخاضت غمار السياسة وانتخبت في البرلمان الموريتاني.
إلى جانب المعلومة، نجد عمتها المحجوبة ابنة أحمد ولد الميداح. غنت محجوبة الفصيح والشعبي، وبرعت في المديح والنسيب. كانت المحجوبة منفتحة على التراث الشامي، فتعاملت مع الملحن الحلبي فريد حسن الذي أثرى الموسيقى الحسانية منذ بداية تعامله مع ديمي. كما غنت بين الدوالي لـ سميرة توفيق.
تنحدر هذه الأسرة من منطقة القبلة وعرفت بأصوات كثيرة كالفنان محمد عبد الرحمان ولد إنكذي وزوجته عيشة منت محمد علي. تتميز هذه العائلة بخاصيات صوتية لافتة تختلف عن بقية طرق الإنشاد، حيث تظهر تقطعات صوتية تقترب كثيراً من البلوز.
يعود هذا التشابه مع البلوز إلى أفريقانية هذا الصوت لا إلى محاولة تقليد. لا يمكن القول إن عائلة إنكذي قد “بَلْوَزَت” الموسيقى الحسانية، بل ظهرت هذه الموسيقى داخل إطارها الطبيعي، أفريقيا، أو السرة (كما يقول فنان البلوز المالي علي فاركا توري). هذا الصوت هو مادة خام لتلك الأرض. في هذا الإطار، تكلم علي فاركا توري حول علاقته كموسيقي إفريقي بالبلوز: “يسألني الصحفيون دائمًا نفس الأسئلة، يريدون دائمًا أن يعرفوا عن البلوز. أقول أن كلمة البلوز لا تعني شيئًا بالنسبة لي. أنا لا أعرف البلوز، أنا أعرف التقاليد الأفريقيّة.”
ينحدر أهل النانة من عائلة آكمتر التي تستقر في الحوض الشرقي لموريتانيا. يقترن الحديث عن عائلة النانة بأغنية إقبيل الدحميس بنتي التي عرضت لأول مرة في التلفزيون الليبي من خلال حفلة أقامتها الفرقة في السبعينيات بليبيا. تتشكل الفرقة من الفنانة الراحلة الدبية منت أسويده بوه مع بناتها؛ المغنية الرئيسية حورية منت النانة وأخواتها. في الفيديو، يظهر الأخ الأصغر يافعًا ومتمكنًا من الجيتار الذي كان قد بدأ يُعتمد في الموسيقى الحسانية. الأغنية من ألحان الديبة، التي تعزف خلف بنتها على الرباب.
كان عزف حورية الجيتار الكهربائي أمرًا صادمًا آنذاك، فهو تحد واضح أن تحمل امرأة حسانية جيتارًا كهربائيًا وليس الآردين أو الطبلة. كانت هذه إحدى تحديات عائلة النانة، التي تمرست بالتجريب والتحديث وغامرت بعصرنة موسيقاها في تحدي للمشايخ الذين يمثلون الرقابة الحقيقية داخل المجتمع الحساني. ذلك التمرد سجّل حضوره خاصة منذ تواجد العائلة بنواكشوط خلال الستينيات في أوج ثورة البلاد سياسيًا وثقافيًا. لم تسلم العائلة من الهجوم والنقد، ووصل الأمر بالبعض إلى تقسيمهم إلى أهل النانة المسلمين (في الإشارة إلى الذين حافظوا على انتمائهم القبلي)، وأهل النانة الكاثوليك مثلما أشار إلى ذلك محمد فال ولد عمير.
ظهرت عائلات أخرى مثل أهل دندن وأسيساح وأهل الببان الذين اشتهروا بجودة اللحن والصوت ومهارة العزف على التدنيت والآردين. نذكر منهم عيشة منت الببان التي تربت على يدها ديمي، منينة والدة المختار ولد الميداح، فاطمة السلام بنت الببان، و نيلة منت أحمد سالم ولد الببان التي كانت أول امرأة موريتانية تسجل للإذاعة الوطنية خلال الستينيات، والتي يقول عنها المختار ولد الميداح بأنها أمهر عازفات الآردين على الإطلاق.
يترتب مجتمع الموسيقيين في موريتانيا طبقيًا، بحيث تختص كل طبقة بمهام موسيقية معينة أو لون غنائي. فالآلات الموسيقية تصنعها طبقة الحرفيين الصناع التي تأتي خلف طبقة الفنانين (إيكاون) في سلم الترتيب الطبقي عند المجتمع البيظاني، فيما توكل مهمة الرقص وتمثيليات التشخيص داخل عالم الخيمة الصحراوية إلى طبقة المعلمين (أو الحدادين والمشاقيل كما يسمون في موريتانيا).
تظهر الطبقية في ألوان أخرى من الموسيقى الحسانية، كالمديح النبوي الذي بقي حكرًا على طبقة الحراطين، الذين يختلفون عن الإيكاون بحكم الصدام التاريخي الذي طالما حكم العلاقة بين رجال الدين وطبقة الفنانين الذين مارسوا الموسيقى بشكل مختلف عن المديح.
في المديح يلتقي رافدان أساسيان: الثقافة العربية الإسلامية، والمكون الزنجي في الفلكلور الموريتاني. فعلاوة على ذكر مناقب نبي الإسلام محمد وسرد الملاحم الدينية، يرافق المديح تفاعل حركي يترجم الرغبة في الانعتاق والتحرر في استرداد لما دأب العبيد على فعله بعد الانتهاء من أعمالهم الشاقة. من خلال هذا التقاطع بين رافدي المديح، يمكن أن نسترجع صورة بلال الحبشي مؤذن الإسلام الذي كان عبدًا أسودًا – كما يتفق المؤرخون – وعرف بين الأوساط المجتمعية آنذاك بتعلقه بالغناء، إذ كان يعزف على الطنبور ولذلك سمي بأبي الطنابير، وهو ما أشار إليه الكاتب اليمني نزار محمد عبده غانم في مجلة الثقافة الشعبية في تأكيده على الآصرة بين الزنج والطرب على حد تعبيره.
من العسير تحديد بداية ظهور المديح الشعبي في موريتانيا، فالباحث محمد الأمين ولد إبراهيم يشير إلى ارتباطه “بشعوب غير عربية استوطنت الفضاء الجغرافي الذي يشمل اليوم موريتانيا ومالي، وذلك بالنظر الى وجود كلمات في بعض النصوص المديحية مثل كلمة أسكى التي تعود الى فترة حكم الأساكية، أمراء إمبراطورية السونجاي التي حكمت في جاوة ما بين القرن الحادي عشر و والسادس عشر للميلاد”. ويضيف أن “المديح الشعبي يؤدى من طرف العبيد السابقين، حيث تلقوا ذلك شفهيًا من طرف الطبقة العالمة التي كانت تحتكر الدين، وكانت وسيلة فعالة لتعريف العبيد بالسيرة النبوية ومبادئ العقيدة الاسلامية.”
يعود التنافر الذي حكم العلاقة بين طبقة الحراطين والإيكاون إلى تمرسهم في هذا اللون الغنائي في زوايا رجال الدين الذين حرموا الموسيقى، وكانوا في عداء مستمر وتاريخي مع طبقة الإيكاون. خلال قيام دولة المرابطين في الصحراء الموريتانية التي أسسوها على تحالف واسع ضم القبائل الصنهاجية منذ بدايات القرن الحادي عشر ميلادي حُطمت الآلات الموسيقية ومُنع الطرب والغناء. يذكر الباحث الليبي محمد سعيد القشاط في كتابه صحراء العرب الكبرى صفحة ٢٤٢ أن الفنانين الصحراويين قاموا بصنع آلة تساعدهم على الذكر والمدح متحايلين على السلطة المرابطية فاخترعوا آلة الدين وسموا الغناء بالهول (أي الذكر الذي فيه إشارة إلى أهوال الآخرة). ليست تلك الحيلة إلا دليلًا على تعلق الصحراويين بالغناء ومجالس الطرب، وارتباطهم بطقوس الخيمة الصحراوية التي يقيمون حولها النحائر والولائم ويدمنون السمر والسهر، وما يلازمه من ألوان فنية كالشعر – في غرض الحماسة والمديح والملاحم – والرقص والحكي والغناء.
تنفرد موريتانيا بتسميات لونية للمقامات الموسيقية، وفي ذلك إشارة إلى الروافد الثقافية التي مرت على المنطقة. يشير الكاتب السالك ولد محمد مصطفى في مقالة الموسيقى الموريتانية الصادرة بموقع وزارة الثقافة والصناعة التقليدية تم حجب الموقع إلى أن “تلوين جوانب الموسيقى الموريتانية بالألوان الطبيعية المحلية ليس صدفة، بل ناتج عن شفافية ثقافية مبنية على الصدق والانسجام مع النفس والناس والبيئة”؛ وفي هذا الإطار، يستعين الكاتب بما قاله المؤرخ الاجتماعي المختار ولد حامد في نفس السياق: “وتحت كل ظهر نغمات وألحان مختلفة، وفي كل ظهر ثلاثة ألوان (طرق): لون أبيض يغلب فيه أسلوب العرب، ولون أسود يغلب فيه أسلوب السودان، ولون مركب منهما، وأقوى منهما معًا.”
تتجلى الخصائص اللونية في مقامات الموسيقى الحسانية التي يطلق عليها أظهورت الهول، وتعزف في ثلاثة طرق:
الطريقة البيظة: تشير تسميته إلى العرب البيض وأسلوبهم.
الطريقة الكحلة: تشير إلى السود وأسلوبهم.
الطريقة لكنيدي: تصغير الكندية، وهو الخليط من السواد والبياض في اللهجة الحسانية.
في كل جانبة / طريقة، توجد خمسة من أظهورت الهول مقامات تعكس البحور الخمسة الأصلية للشعر الشعبي: (كرن، فاغ، لكحال، لبياظ، لبتيت، تختلف تسمياتها كلها حسب الجوانب والأوزان الثلاثة). في مقام كر، يبدأ الإيكاون جلسة الموسيقى على ظهر / مقام الفرح. كما نجد كر لكحل وكر لبيض، وكل منهما يغنى فيه اثنين من بحور الشعر الحساني والفصيح من الكامل والوافر. أما في مقام فاغو، فيختص بالحماسة والشدة وينشد عند الحروب أو دخول العروسين إلى البيت بعد الزفاف، ويغنى فيه بحر واحد حساني. بينما يعتبر لكحال من مقامات الشوق، ينشد فيه بحر لهجي واحد فيما يستوعب جميع بحور الشعر الفصيح، ليتشارك بذلك نفس الخاصية مع مقام لبياظ الذي يتميز بقوته في السلم الموسيقي الحساني وينشد فيه الغزل. يتلازم آخر المقامات، لبتيت، مع الحزن والشوق ويظهر عليه مسحة وجدانية، ويغنى فيه بحرين من الشعر الحساني وجميع بحور الشعر الفصيح.
يظهر من خلال هذا التلازم بين البحر الشعري والمقام الموسيقي أن الموسيقى الحسانية ترتبط عضويًا بالشعر الحساني. كما أن هنالك وجه آخر من الارتباط يظهر على مستوى اللغة، فالشعر في الحسانية يسمى لغن، ولذا يطلق على الشاعر لمغني. تتشارك كل هذه الخصائص في منح الموسيقى الحسانية بنية لغوية لتشترك بذلك في نفس الخاصية التي تميز الموسيقى العربية الآتية من البيئة العربية القديمة، التي عرفت بانتشار الخطابة والفصاحة وموروثها الشعري الغني، فارتبطت الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بالتفعيلات والبنية الشعرية. لا تعد هذه الخاصية حكرًا على الموسيقى العربية، لكنها سمة مميزة لها تجعلها تختلف عن موسيقات أخرى لا تعتمد على اللغة كالموسيقى الكلاسيكية التي تعتمد على بنية هندسية ورياضية من خلال البناء النغمي.
من العوامل الأخرى التي تقرب الموسيقى الحسانية من العربية الطبيعة الصحراوية التي تغطي حوالي ٩٠ بالمئة من أراضي موريتانيا. يشير الباحث الدد محمد محمدنا إلى الطبيعة الصحراوية أنتجت إيقاعات صحراوية، “ومن ذلك إيقاع الجمل وهو أشبه بالحداء، وإيقاع الخيل وهو مستوحى من سير الخيل، وإيقاع ضرب الوتد اثناء نصب الخيام”. يذكرنا هذا الترابط بتماثل مشابه في اللغة العربية وعلم العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد. ففي بحر الخبب الذي أضافه الأخفش الأوسط، يكون الإيقاع مستوحى من صوت حوافر الخيل أثناء عدوها.
على المستوى التاريخي، يمكن أن نضع هذا التلازم في خانة تقاطع بين نشأة الشعر الحساني والشعر الجاهلي عند العرب. فقدوم الحسانيين من شبه الجزيرة العربية إلى موريتانيا ووصولهم إلى ضفاف نهر السنغال، حمل معهم البداوة العربية المشبعة بثقافة الإبل والصحراء والشعر والحرب. كما تتفق الدلائل حول مرجع كبير غابت قبله المصادر إلا القليل والنادر منها، ألا وهو سدوم ولد إنجرتو الذي يرفعه البعض إلى مقام جد الشعراء وطبقة المغنين. يعتبر سدوم مبدعًا لبحور كثيرة في الشعر الشعبي الحساني، كما أثرى موسيقاها من خلال جوانب لبياض ولكحال وتطويره لآلة التيدنيت؛ وهو أول من فرض التلازم بين بحور الشعر ومقامات الأوزان التي تعزف على التيدنيت. تجعلنا استمرارية هذه الموسيقى عبر أجيال عديدة وتداخل روافدها نتخيل عند الاستماع إليها مشهدًا قديمًا في الصحراء العربية، تشقه أصوات المهلهل وامرؤ القيس على إيقاعات السناجك، لتعيدنا إلى حقب بعيدة في مدى صحراوي ممتد وقاحل.