عربي قديم

لا ذاكرة للمتوسّط إلا الطيور – موستاكي ووردة

أحمد الواصل ۲٦/۰۵/۲۰۱۳

رحل قبل أيّام المغنّي والملحّن الفرنسي ذو الأصول المتوسّطيّة المختلطة جورج موستاكي. في ذروة القمع والفاشيّة، بقي موستاكي محافظاً على إلتزامه السياسيّ التروتسكيّ الراديكاليّ، طابعاً أغانيه بهذا الالتزام. وقبل أيّام أيضاً، حلّت الذكرى الأولى لرحيل وردة التي نسترجع تاريخ هجراتها وتنقلّها في المتوسّط. والتي صادفت، في إحداها، موستاكي.

شهد المتوسط أسماءً شكّلت تاريخه الثقافيّ، لتتحوّل، مع التاريخ، إلى أساطير شعوب تسكن شمال البحر الأبيض أو جنوبه. أسماءٌ هاجرت ما بين تلك المدن.

أسماء عدة لعوائل تلمّست تراب وشواطئ اليونان ولبنان وتونس وإسبانيا ومصر؛ ففي القرون الماضية: ثمّة كليوبترا ما بين روما ومصر، والقديس أغسطين ما بين الجزائر وإيطاليا، وابن خلدون ما بين تونس والأندلس ومصر، وموسى بن ميمون ما بين الأندلس ومصر

وفي القرن العشرين هناك طيور النغم: ديميس روسوس وجورج موستاكي (ولدا في الاسكندرية)، وداليدا (ولدت في القاهرة) لآباء وأمّهات من اليونان وإيطاليا ومصر والجزائر، الذين رحلوا إلى فرنسا، حيث اشتعل الصوت والضوء.

ولدت وردة في باريس لأم لبنانيّة وأب جزائري، لتعود طائراً محلّقاً ما بين بيروت والقاهرة والجزائر. حلمت الكثير من الأصوات اللبنانيّة بالمتاجرة بصوتها في المهاجر الأميركيّة الجنوبيّة منذ محمّد البكار ونهاوند وعبلة سرحان، مروراً بنهاوند ووديع الصافي، وصولاً إلى جوزيف صقر.

اختارت وردة الغناء العربيّ. عندما سألها شارل أزنافور مطرب فرنسا ذو الأصول الأرمينيّة بأي لغة يتجلّى إحساسها أجابت: لغة أسمهان وليلى مراد. كانت وقتها تغنّي وتستعيد أغنيات أسمهانفرق ما بينا ليه الزمان، ونور الهدىيا أوتومبيل، وليلى مراد. وسجّلت صغيرة بعمر الحادية عشر أغنيةيا ظالمنيلحن رياض السنباطي عام 1955.

في أكثر من مرحلة، مرّت وردة من باريس (1952-1956)، إلى بيروت (1957-1959)، وإلى القاهرة (1959-1963)، ثم عودتها الأخيرة (1972-2012).

وفي عام 1979 حضرت إلى باريس كمغنية عربيّة. كانت وردة قد شاهدت أم كلثوم عام 1967، وشدت في الأولمبيا مقاطع مختصرة منالأطلال، وإنت عمري، وبعيد عنك“: التي أصرّ ملحّنها وزوج وردة، بليغ حمدي، على أن تغنيها رسالة غزل إلى وردته في الجزائر.

وفي فيلمآه يا ليل يا زمن” (1978) المأخوذ من قصةضحايا الثورةلإحسان عبد القدوس، ويتحدّث عن فتاة ارستقراطيّة اضطرّت الهرب بعد تحريز أملاك والدها الباشا، وتغرّبت ما بين باريس والمغرب. وقد ركّبت وردة صوتها على أغنيةغنّيلمطربها المفضل دائماً ميشال فوغان بنفس الاسم التي سجلها هو عام 1972. أطلقت وردة صوتها عالياً، العقيرة التي تصرخ بوجه الحياة بأن ديني الغناء.

أغاني فيلم آه يا ليل يا زمن١٩٧٧

شدَت وردة بعدها في مسرح الأولمبيا (1979) لمدة أسبوع. آنذاك، كان أنور السادات قد منعها من الغناء، ضمن مسلسل السياسة التافهة، حين غنّت في ليبيا وكانت العلاقات السياسيّة متوتّرة بين البلدين.

غنّت وردة عدة أغانٍ بارزة لحّن لها منها بليغ حمدي: “ومالو، ودندنة، واسمعوني، وخلّيك هنا، وليل يا  ليالي“. وأغنيةفراق غزاليالتي استرجعها من التراث الجزائريّ، وغنّتها سابقاً المغنيّة التونسيّة سليحة، وصاغ كلماتها الجديدة عبد الرحيم منصور. وشدت لمحمّد عبد الوهابفي يوم وليلة، ولولا الملامة، ولسيّد مكّاويأوقاتي بتحلو، ولو إنّك بعيد“.

حققت هذه الحفلات نجاحاً عارماً، حتّى أن شارل أزنافور تمنّى عليها أن تغنّي بالفرنسيّة قائلاً: “غنّي، يا وردة، ستنظر إليك النجوم كلها“. متمنيّاً لو كان يعرف العربيّة ليستوعب غناءها وغناء فيروز.

وعادت وردة لتغني في قصر المؤتمرات بباريس (1995)، حيث شدت بأعمال من مرحلتها الثالثة من ألحان صلاح الشرنوبيحرّمت أحبك، وبتونّس بيك، ويا ليل“. ومن أعمال ملحنين آخرين مثل صالح أبو الدهبوجالك يومالتي كانت تستفزّ حسني مبارك.

وفي ذات الحفلة، وبمصاحبة أخيها مسعود المفتون بالإيقاعات اللاتينيّة والأفريقيّة، شدت بأغنيةمثل الطيورلمطربها ميشال فوغان. كان الغناء رقصاً، وضعت فيه كل دماء الروح.

وكانت، قبل عامين، قد استضيفت في برنامج تلفزيوني في باريس لتغنّيحرّمت أحبك، وسجّلت، تحت طلب المعدين آنذاك، أغنيةأوراق الخريفللشاعر جاك بريفير والملحن جوزيف كوزما، والتي سجّلها أولاً إيف مونتان (المطرب الإيطاليّ الجذور) بمصاحبة غيتار جورج موستاكي (الذي صادفت وفاته يوم ذكراها الأولى). 

أتقنت وردة مزيج الأصوات في أدائها هنا، نحن نستمع إلى أصوات أندلسيّة ومنشدين من التروبادور. كان موستاكي يوقف العزف كلّما لامس الصوت الروح. لتختتم الأغنية بتلك اللالات الأندلسيّة الروح. التروبادور كانوا ينشدون في صوتها، مطلقةً ذكريات الدماء بين اليونان والجزائر. مطلقةً الروح من قيودها

الطيور تهاجر وتغترب. تنقل بأجنحتها النغم والوتر. جورج موستاكي يهاجر الحياة. وردة سبقته، لكنهما يسكنان أوطان الروح في أمواج المتوسط. لا ذاكرة للمتوسّط إلا الطيور.

المزيـــد علــى معـــازف