سرّي في بالي تخبّى | مواويل وخيبات لطفي جرمانة

يقول لطفي جرمانة في آخر أغانيه دمع الرجال:

عيب، دمع الرّجال صعيب / والدنيا يوم بيوم

غريب أمر الزّمان عجيب / لازم للظالم يوم

على نقيض أغلب مغني المزود الذين اتخذوا من معاني الفحولة معجمًا خاصًّا بهم، لم يخجل جرمانة مما بداخله من انكسارات. على امتداد الأغنية، استعمل جرمانة نون الجماعة عِوض أناه الغارقة في الذاتية التي تعوّدنا عليها، ورصد بها مختلف التحولات القيميّة للمجتمع الذي طغت عليه الانتهازية والحُقرة وكرّس عزلته وضاعف من وحشتها. علاوةً على ذلك، بدا أن المرض، وكونه سرًا، هدَّ جرمانة.

بين باب سويقة ونهج الحديد الذي يجمع نهج باب سعدون بِالحلفاوين، ولد لطفي جرمانة ومات. لم يكن هناك الكثير من الخيارات أمام شبان الحي، فإمّا الانصهار مع أجواء محلات الدرابك والبنادر في باب الأقواس، وخوض غمار الليالي الطويلة لمزاودية الربط والضواحي الكبرى، أو الالتحاق بعالم مشايخ الدين في منطقة محاطة بمجموعة من أهمّ جوامع تونس التاريخية، من جامع صاحب الطابع وجامع سبحان الله، إلى جامع الزيتونة وجامع القصبة؛ وجميعها مدارس كبرى لعلوم الدين وأصول الشريعة. وجد لطفي جرمانة نفسه في جامع صاحب الطابع محاطًا بكبار المشايخ، من بينهم الشيخ الخطوي الذي اهتمّ به وجعل منه حافظًا للقرآن ومرتّلًا له. اكتشف الشيخ الخطوي صوت جرمانة الاستثنائي، ودفعه نحو أداء الأذان في سنّ الثانية عشرة في واحد من أعرق جوامع تونس وأكثرها هيبة من ناحية المعمار والقيمة التاريخية الرمزيّة.

كان ما عاشه جرمانة في بداية مراهقته مصدر فخر كبير لعائلته، لكنّها لم تكن الطريق الوحيدة التي سلكها هذا الفتى المولع بإيقاعات المزود، والذي حفظ الموازين وأتقن أداءها، ليجد نفسه في سنّ السادسة عشرة وزّانًا (الذي ينقر على الطبل والدربوكة) مع إسماعيل الحطاب، واحد من أهم الأسماء التاريخية في الموسيقى البدوية. مثّلت تلك الانطلاقة فرصة واعدة لِجرمانة، فوجوده بجانب قامةٍ مثل إسماعيل الحطاب تعني أنه محظي في أوساط الموسيقى الشعبية. في نفس الوقت، لا يبدو اختيار الحطّاب له مجاملة، وهو ما يؤكد على موهبته.

بعد بضعة سنوات مع الحطّاب، بدأ يلمع نجم جرمانة أواخر الثمانينيات في فترةٍ شهد فيها المزود ذروته، مع ازدهار سوق الكاسيتات واكتساح أغانيه الأحياء الشعبية في المدن خاصة. سجّل أول كاسيتاته في ١٩٨٤، لكن شهرته الفعلية انطلقت أوائل التسعينيات.

كتب جرمانة ولحّن أغلب أغانيه التي أصدرها في ١٦٨ شريط كاسيت. تردد على استوديو التسجيل بشكلٍ دوري وأنتج دون انقطاع تقريبًا. غمرت الكتابة والتلحين واقعه اليوميّ، لكنّها لم تمحُ الآلام التي أصابته على مستوى القلب وأدت به إلى نوبات أشبه بنوبات الصرع. لم يستطع الأطباء تشخيص علته ولم تعطِ نتائج الفحوص الطبية إجابةً.

بقلبه المعتل، حمل جرمانة صوته إلى استديوهات التسجيل وحفلات الحنّة [إحدى ليالي حفلات الزفاف، تصاحب على الأغلب بحفلة مزود ويتم فيها الرشق، أي رمي النقود على العريس من أصحابه.] والطهور التي استقطبت الجميع، وتحولت سهراته إلى حديث الجميع من أبناء الحيّ والأحياء المجاورة على مدى أشهر.

أدمن جرمانة الشرب لتسترخي أعصابه وتستقيم وقفته خلال الحفلات التي يحييها ويصمد خلال تلك السويعات لينطلق صوته في أرجاء الأحياء. تتساقط من حوله أجساد الراقصين واحدًا تلو الآخر، وتنهار من حوله ادّعاءات القوّة والفتوّة.

لطالما حاول جرمانة إخفاء مرضه، ولم يتحدّث عنه سوى قبل ثلاث سنوات في برنامج تلفزيّ، حين عاد للغناء بعد غياب طويل. لم يفهم أحد علّته. بدوره، لم يكن مستعدًا لكشف ما أصابه، وضمّن تلك المفارقة في أغلب أغانيه، لكنه أعلنها بشكل مباشر في أغنية قالوا علي فنّان:

قالوا عليْ فنان / قالوا عليْ متهنّي

بالدمع عزفت الحان / بكيت قالوا يغنّي

كلّما اشتدّت الآلام بِجرمانة، كثرت إصداراته. انعكس ذلك في وفرة مؤلّفاته وتضمّنها الكثيف للأبيات التي تحيلنا مباشرة إلى حالته الصحيّة. يبدو نكران جرمانة لِعلّته مستوحًى من شيم الباندي؛ إحدى مظاهر الفتوّة المدينية التي انتشرت في الأحياء الشعبية. كأحد أبناء الحلفاوين، عاش جرمانة على إرث علي شورب والباندية الأوائل الذين ألهموا شباب الحي ببطولاتهم وأورثوهم خصالهم الشوارعية. 

جسّد لطفي جرمانة شخصيّة المزاودي / الباندي (كما ذكر في إحدى الحوارات التلفزية) الذي لا يقبل الظّلم ولا يترك حقّه و”يقول كلمتو”، ووسّع من الثيمات التي طرحها في أغانيه كمواضيع الهجرة والغربة في قالوا والفيزا ويالبسطاجي، ومشاعر الخذلان بسبب غدر الحبيبة وخيانتها في الحمامة البيضا ويزيني قلبي ملّ وآش ادّاك ووالله الندم مايفيدك، فيما سجّلت الأم حضورها البارز كملجأ آمن ضد تقلبات المجتمع وغدر الزمان. مثل الباندية، يحمّل المزاودية صورة الأم شحنة رمزية تتماثل مع صورة الخلاص عند وقت الشدّة: “أنا ناحل جسمي مريض فاني / توحشتك والشوق فناني / الله هو اللي عطاني / يرعاني بعدك يمّه ويصون.”

حمّل جرمانة نصوصه الكثير من الإيحاءات بأن هناك سرٌّ يخفيه. في تأرجحه بين البوح والإخفاء، استعمل جرمانة مجاز الظلمة بكثافةٍ في مختلف أغانيه. جعل جرمانة الليل بديلًا لكل شيء؛ للأصدقاء الذين خانوا عهده في أغنية الموج يعرف سرّي: “لو كان حد سترني ما كنت هكة نعيش / كان الظلام رحمني راح الشباب غدالي”، للندماء في الليل والنجمات: “الليل والنجمات ليا ارتاحوا / وحكيت ليهم بقليبي وأجراحه”، وللحبيبات اللواتي رحلن في يا عاشقة النجمات: “عرّفتني بالليل صرت رفيقه.”

حتى في آخر أيامه وفي أصعب لحظات وهنه، مثّل صمود جرمانة أمام سامعيه المفارقة الأكبر. ينظم الفنّان ملحمة حزنه وفنّه في أغنية قالوا علي فنان التي تعمّق خلالها في التعبير عمّا يشعره ويفكّر به عندما يحيي أفراح النّاس المنتشين بحضورهم دون دراية بما يحدث داخله:

بكيت بلي نحسّا / وغنّيت اللي حسّيت

ما قدرت دايا ندسا / دموع الصَّبا غنّيت

لا عرف حد القصة / ملي عاشقهم فنّي

نا دمعتي بالغصّة / في أفراحهم مستنّي.

تختزل مواويل جرمانة آلامه بتضمّنها لتوظيف مكثف للآهات والمناجاة، مثل “تعذّبت ياسر يا ربّي” في قالوا علي فنّان أو “الله هو اللي عطاني” في وينك يمّة، التي استرجع فيها نبرةً صوفية لنصوص المزود، وأسبغها بواقعه الدنيوي المثخن بجراح المرض وخيانات الحب. غالبًا ما يكون الموّال مدخلًا للأغنية، لكنّ جرمانة يتلاعب بهذا العنصر ويوظفه كما يشاء في وسط الأغنية كما فعل في والله الندم ما يفيدك ويمة وجعتوها، أو في آخرها كما في هام يقولوا حبيبي راح التي تنطلق وتنتهي بموالين مختلفين. يستحضر جرمانة بعض خصائص الأغاني الحضرية القديمة، التي نراها في فوندو [مصطلح دارج في الغناء التونسي يُشار به إلى الأغاني العتيقة التي تجمع بين الرصيد الكلاسيكي والشعبي.] فراق غزالي لِـ صليحة مثلًا. تبدأ المغنية بموال طويل نسبيًا ثم تعود في منتصف الأغنية لترفق بمقاطع أخرى من الموال، ترخي بها إيقاع الأغنية ومن ثم تستمر من جديد في الغناء. من الشائع أن نرى خصائصًا مماثلة في المزود، لكن جرمانة يحذق صنعته في إدراج الموال في قلب الأغنية دون تمهيد إيقاعي أو لحني، وكأنه يعيد شحن حمولة الحزن ليلقيها بكل ثقلها مع وقفته المتأخرة في الموال ليعطيها انطلاقةً جديدة. تبرز المواويل طاقة جرمانة الصّوتية أكثر من مقاطع الغناء، وتجسّد بشكل كبير إرث المؤذّن الذي نشأ عليه.

عوّضت مواويل جرمانة عثراته في الغناء، إذ وصفه شكري حوالة الذي سجّل له معظم أشرطته بـ “لطفي كركار”. في معجم المزاودية، يُشار بالكركار إلى المغني أو العازف الذي يرتكب أخطاءً في النوتات أو الميزان ولا يلتزم بالقواعد الموسيقية. يعترف لطفي بتكركيره، ويتعمّده لصناعة ثيمة أسلوبية تميّزه. في هام يقولوا حبيبي راح، ينطلق جرمانة في أداءٍ على السليقة، لكنه يتعثّر في مجاراة الإيقاع ويستدرك بعدها ليعود إلى النغمة الأصلية. صنع جرمانة من مفارقاته صوته الخام، وفرض الاحترام على الجميع بما فيهم حبوبة، أبو الموازين وأحد أقطابه التاريخيين، والذي قال جرمانة عنه “أقوى مزاودي في تونس.”

شقّت تناقضات عديدة حياة جرمانة وجعلت منه استثناءً. تعرّض إلى الكثير من الخيبات في مسيرته، ورغم إنتاجه الكثيف، ابتعد عن الأنظار مرات كثيرة خلال تجربته التي تجاوزت الثلاثين سنة بسبب مرضه، وعاد في كلّ مرّة إلى المشهد من جديد، ليكتشف الكثير من المحاولات لتحطيمه وعرقلة مساره.

في واحدة من أشهر أغاني جرمانة وأكثرها حفظًا لدى الشباب، سرّي في بالي تخبى، وعلى غموض قصّتها، يعبّر جرمانة بشكل مثاليّ عن شعور الخيبة والإحباط حين يفشي أحدهم سرّا. يشير جرمانة إلى شعوره بالغدر نتيجة إفشاء سرّ مرضه في الوسط الفنيّ:

سرّي في بالي تخبّى / خبّوه ناس أجواد

شاع الخبر وتربّى / ضنّيت جابا واد

مات جرمانة أكثر من مرة، وبكى إشاعة موته محاكيًا الشاب حسني في قالوا حسني مات:

قالوا عليا وفيت قبل وفايا /  كتبوا عليا حكايتي في غناية

جاني الخبر، الناس فيا تعزي / يا صانعين القول عفّوا خطايا.

شكى جرمانة كثيرًا مرارة ما يشعر به. اضطرّ الفريق الطبيّ المشرف على وضعه الصحيّ إلى إخضاعه لعمليّة قلب وهميّة قبل بضعة سنوات. حدّثني شكري حوالة، صديقه المقرّب وصاحب استوديو التسجيل الذي كان يرتاده، أنّه الوحيد الذي لم يعلم بحقيقة الأمر. لعبت العملية الجراحية الوهمية دورًا كبيرًا في توازن جرمانة النّفسيّ، وأمضى فعلًا فترة دون أن يشعر بأيّ ألم. انهار جسده مرّة أخرى، وبشكل قاسٍ هذه المرة.

مات لطفي جرمانة بعد أن صنع مجده من صميم تناقضاته: “شمعة روحي ضوات عالناس عمري ذويتو / محروم يمّة غاشّ جرحي موّال غنّيتو”. اعتقد أفراد عائلته أنّه مسحور، وفي الحقيقة، لم يكن ما يحدث معه قابلًا للتصديق. بدأت رحلة جرمانة مع الآلام القاتلة في العشرينات من عمره، أي عندما بدأ مسيرته الفنيّة ككاتب وملحّن ومغنّ. كسب الرجل رهاناته العديدة، ومنح المزود صوته الخام والموغل في الذاتية.