.
لم تعد إشكالية الحزن التي تضعنا فيها لطميات اليوم خاصةً بالشيعة وحدهم واستذكارهم لمصائبهم، بل امتدت كبحرٍ لا يختار شواطئه. في السنوات الأخيرة ظهرت العديد من أشكال التمرّد الموسيقي على قالب اللطمية التقليدي، حتى تخطّت بتجددها البُعد الديني الذي وُجدت من أجله، وأخذت تكتسب بُعدًا غنائيًا أعم لا يخفى على أيّ مستمع. من هنا توسّعت رقعة انتشار اللطمية، هذا الفن الذي يملك فلوهات غريبة وتنوّعًا صوتيًا رهيبًا، بمقاطعه التي تعلق برأسك كناقوس يدق على لاوعيك.
كان ظهور اللطمية الأول تاريخيًا بشكل متفرق وغير منتظم إبّان موت الحسين بن علي، وفي محرم ٩٦٣ م خرجن النسوة النادبات بوجوهٍ مسودة وثياب ممزقة وهن يلطمن الوجوه ويرددن مراثٍ حزينة حتى امتلأت شوارع بغداد في مسيرهم إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين، حيث كان الرجال يخرجون في النهار حفاةً وكانت النسوة تخرج في الليل. في القرن الحادي عشر الميلادي في العراق جرى اللطم بيوم عاشوراء لأول مرة.
ترسّخ ذِكر الحسين والشكل الشائع لعاشوراء الذي نعرفه اليوم في القرن السادس عشر ميلادي في إيران؛ عندما اتخذت التشيّع عقيدة رسمية للدولة. كما جرت في بلدان أخرى بعد ذلك العديد من أشكال الاحتفال بعاشوراء واللطم على آل البيت.
يعود أقدم إرث لطميات صوتي إلى الرادود النجفي كاظم القابجي الذي يعتبر أبرز رواد اللطمية الشيعية في القرن العشرين، حين تبلورت اللطمية وصار لها وجودٌ دائم، وأماكن لإقامتها سُميت بالحسينيات. كانت لطميات القابجي ثابتة من حيث التلوّن الصوتي؛ ذات إيقاع واحد تقريبًا، كأنك تستمع لمواّل عراقي دون طلوع أو نزول، تتغزل وتنعي في الوقت نفسه سيد الشهداء الحسين، كما أنه ابتكر طورًا خاصًا به يُقرأ فقط في صباحيات العاشر من محرّم، وهو طور شديد الحزن عُرف باسمه.
في الستينيات وقبل موته ألقى القصيدة السياسية نهضتك خالد اسمها، متحديًا بذلك كل التضييق الذي حصل على منبر الحسين من قبل البعثيين والتيارات الفكرية الأخرى. لمع اسم القابجي في الأربعينيات حتى الستينيات، درس المقامات الموسيقية وكان على دراية بالأوزان الشعرية، وكتب له أكبر شعراء تلك الفترة، مثل إبراهيم أبو شبع وابن أخيه عبد الحسين أبو شبع، حيث شكّل مع الأخير ثنائية متميزة آنذاك. اشتهرت للقابجي لطميات عديدة تعتبر أيقونات في تاريخ اللطم الحسيني الأول.
في النصف الثاني من القرن العشرين برز نجم الرادود حمزة الصغير أو الزغير، الذي اعتلى المنابر الحسينية شابًا صغيرًا، ولم ينزل منها إلا على قبره. عُرف الصغير بصوته الخافت وقدرته على تلوين صوت لطميته، حتى لتجزم بأنه يخبّئ ملحنًا صغيرًا في حنجرته، يشاركه خشوعه وإبداعه في دقّة اختيار مستوى الصوت وحدّته، وقفاته، وتفانيه في قراءة قصائد الرثاء الطويلة.
عندما كانت اللطميات يكتسيها الجمود الموسيقي والصوتي والتلحينات الثابتة، كان شكل لطميات الصغير حديث نسبيًا ومتنوع؛ يغيّر النبرات ويصنع لوازم ومداخل للطميته، تجعلك تعيد سماعها دون إدراك، من الأمثلة على ذكائه الموسيقي حتى في أشد مراحل حياته وجعًا لطمية إحنا غير حسين ما عدنا وسيلة. كانت آخر قصيدة أدّاها قبل موته الذي جاء بعد معاناة مع سرطان الأنف، ومات بعد أداء اللطمية بأيام. من يستمع لهذه اللطمية بالتحديد سيدرك أن الصغير خلط بأداءه حُزنين، وجعه وتأثره بمرضه الخبيث، وحزن الحسين الذي تشبّث به الصغير حتى النهاية. كان قد شكّل الصغير ثنائيًا متميزًا مع الشاعر كاظم منظور الكربلائي، وخلّف وراءه إرثًا حسينيًا كبيرًا، فأصبح مدرسة خاصة لمن أتوا بعده وتأثروا به في بداياتهم، مثل الرادود الكبير باسم الكربلائي، أحد أهم الرواديد في تاريخ اللطمية الشيعية.
منذ أكثر من عشرين سنة وباسم الكربلائي يصرخ بأوجاع الحسين على منابر الحسينيات، الرادود الأكثر جرأة وتغييرًا بينهم، والذي تعاظمت نجوميته مع بدء اللطميات بالظهور على الإنترنت في ٢٠٠٤. خرج الكربلائي عن النصّ عندما أخذ على عاتقه، حتى لو بطريقة غير مباشرة أو غير مقصودة ربما، فكرة أن يصل صوته لكل المكسورين في العالم، شيعة أو غيرهم. لو سألت أي سمّيع لطميات عن أول لطمية سمعها، ستكون الإجابة بنسبة كبيرة لطمية أدّاها الكربلائي؛ إذ طوّر في السنوات الأخيرة بقدر ما استطاع من شكل اللطمية التقليدي: قصيدة، مقتل الحسين، حزن، لطم.
أضاف الكربلائي الموسيقى للطمياته، بمعنى إدخال آلالات موسيقية – بحرفية مُغنّي زاهد – كالدرمز بأنواعه وإيقاعات أخرى على لطمياته التي ينشرها على قناته في اليوتيوب، مثل براءة العشق التي نشرها عام ٢٠١٣. صار هناك موزع ومُنتج موسيقي، مهندس صوت ومخرج إبداعي لكل عمل جديد ينشره. صيّر الكربلائي للقصيدة وجُملها روحًا وهو يطلقها على الملأ، غيّر النبرات الدينية ونزل بصوته الأخّاذ إلى طبقات صوتية مرهفة ثم طَلَع إلى تلك الغاضبة المنددة بالجحيم لكل من آذى الأمام وأهل البيت، ليفتح بابًا دخل الكثيرون بعده منه، يقوم على تواصل الرادود بنصه وأدائه مع كل شخص يتكوّر على نفسه مثل نبيٍّ خذلته أمّته.
لعلّ ما فعله الكربلائي خلال تاريخه الطويل ساعد في خروج اللطمية من جدران الحسينية الأربعة لسماء الله الواسعة، وخرج لنا بالكثير من اللطميات التي نستمع لها يوميًا دون أن يشغل بالنا إلا دواخلنا التي لا يستطيع الوصول إليها إلا صوت الكربلائي المكسور. لطمية ليلة وحدة لو تضل التي تجاوز عمرها التسع سنوات تستطيع أن تصدح في رأسك للأبد، بجملها التي تُغذّي حزننا وتنهدات الكربلائي وتماهيه بين أرواحنا حين يقول: “أشتعل جمرة على جمرة / أذّن بجرحي بلال”. ربما تكون هذه أثقل جملة تخصّ كل المجروحين، وتجرحهم أكثر. لطميات مثل مرت سنة ونص ويمه ليش اللي نحبهم ما يضلون أنشدها الكربلائي ولم يعلم أنها صارت تخصّ أي حزينٍ في العالم، سواء مات حُسينه أم لم يمت.
من هذه المدرسة تخرّج فاقد الموسوي، الرادود الأكثر خشوعًا و زخمًا بينهم في الإنتاج. يحاول الموسوي أن يصل لصُلب ألمك، بنغمات هادئة مدروسة الوَقع، كأنه يخبرك بصوته الجريح: داخل كلّ واحدٍ منّا حُسينٌ يستحق البكاء واللطم. ما يُميّز الموسوي ويجعله متواجدًا في عملية تصدير اللطمية خارج أماكنها المعتادة، وبعيدًا عن صوته، هو ارتجاله لأطوار مثيرة للجدل على منابر الحسينيات. إحدى الأطوار التي ابتدعها سيد فاقد طور طربي سريع التدفّق، تفصل بين كل لطمةٍ وأخرى على الصدور أجزاء من الثانية لكثرة اللطم فيه؛ تماشيًا مع الأداء المتسارع لسيد فاقد. من اللطميات التي قُرأت بهذا الطور الخيام حركوها. لا يتوقف السيد عن زخّ البكائيات، مُكرسًا حياته للحسينيات، تاركًا صوته المستحيل يصدح على المنابر. حتى في لطميته يا دنيا المن عايشة المن صابرة، يستدعي الموسوي كلّ أسباب البكاء ويضعها بين أيدينا، طالبًا منّا على الفور خشوعًا واستذكارًا طارئًا لانكساراتنا اليومية. تحسّ أن الموسوي اختار هذه القصيدة لنفسه أولًا قبل الجماعة، لجملها الثقيلة التي تؤجج موتنا البطيء، الناس الذي تركناهم وتركونا في منتصف الطرق وعلى نهايات الشوارع، دون أن نعرف بعد ذلك أننا ارتكبنا خطيئة لا تُغتفر: “يروحون وصورهم تضل علّة على رمشي.”
من هذه اللطمية استلهم الرابر السوري الفلسطيني سلّام ناصر، الشهير بـ أوطف، بناء تراك بلقيس. كان الإنترو عبارة عن ثلاثة أشطر من القصيدة نفسها التي أنشدها الموسوي على إيقاع تراب، وفلوهات مختلفة تصبّ جميعها في نهر الانتكاسات التي تشاركنا حيواتنا.
من الموسوي إلى عرّاب اللطمية الشيعية الحديثة حيدر البياتي، الذي لا يقلّ تألقًا عن رواديد الصف الأول. منذ صدور لطميته ألم ترى قبل ثلاث سنوات تقريبًا ظهرت ملامح الاختلاف عند البياتي، بفلوهات مجنونة حوّلت حالة الحزن المعتادة التي تنقلها القصيدة لجوٍ من التفاؤل والطرب غير المفهوم، ينتقل بين الرتم السريع والبطيء على مزاجه، كأنه ينتشي بموسيقاه، كأنه يقرأ قصيدته الأخيرة كل مرة يطلع فيها على المنبر، محاولًا أن يصل صخبه لكل الدنيا.
قطف البياتي أهم زهرة من كل البساتين التي زُرعت قبله، شهدت اللطمية على يده توهّجًا غير مسبوق، ليس بعدد المشاهدات والاستماعات فقط، بل بإتقانه لكلّ قطعة من قطع اللطمية إن شرّحتها، كالذي أزاح الستار عن العرض الأول بعد الكثير من البروفات فخرج لنا بعمل فني خالص.
تتشكّل لطمية البياتي من كل عناصر الأغنية الناجحة، من تقسيمة العمل أو البنية، مرورًا باللحن الذي تحفظ نغمته من أول مرة تسمعه، حتى اختياره الذكي للقصيدة التي لاتقيّده – بأشطرها – بطريقة أداء معيّنة، إلى أن نصل للغة جسده على المنبر، حيث يتهاوى في أعلاه، يرقص ويحزن ويتجلّى بوضوح وهو يقرأ أو يرتفع بالكلمات واللازمات التي كلّما أعادها صعد أعلى فأعلى.
قبل سنة أطلق البياتي عمله الأهم: سفرة إلى الله، التي تخطّت حتى يومنا هذا حاجز المائة مليون مشاهدة على اليوتيوب، كانت مثل فأس كسّر كل أشكال اللطمية التقليدية وعبث كما يجب بضوابطها الموسيقية، من التحول بين كل فلو وآخر، وسلاسة الأداء التي رافقتها بساطة وجنون البياتي في الإلقاء. بهذه اللطمية قدّم البياتي أفضل نسخة من اللطمية الشيعية، وأخرج هذا الفن للمشهد الموسيقي العربي بجرأة غير مسبوقة، حتى أنه إذا كان هناك معلقات للطميات ستكون سفرة إلى الله الأولى.
استلهم الرواديد من أصالة الحزن العراقي أحقيتهم الأولى في تبنّيه وتصديره لنا، بينما غيّر الشعراء من قوافيهم وخفّفوا من حدّة اتجاه بوصلاتهم نحو المنحى الديني. تسابق الرواديد على إنتاج لطميات تصل لأيّ مستمع ينتظر بلهفة فلوهات مجنونة وطربية. بعد أن كانت القصيدة محدودة المجازات والصور الشعرية، مكتفية بالرواية الدينية، أصبحت بعد ذلك أرشيفًا لمشاهد أحزاننا، من الضجر اليومي الذي يبتلعنا وحتى فقدان الأحبّة. أخذت تستعير منّا كل هذا الألم بلغةٍ أخف من تلك التي لوّنتها في بداياتها. مع وجود هذا الخليط الجاهز للصب في كلّ القوالب الجديدة وسحق التقليد، ستصل اللطمية لأماكن لن يتوقعها أحد.