دراسات

للموسيقى القبطية ربٌ يحميها | عن حركة الإحياء وجدواها

شادي لويس ۰۹/۰۵/۲۰۱۷

“وفي عام ١٩٣٢م وجَّهت الحكومة المصرية الدعوة لكبار الموسيقيين من ألمانيا والنمسا وفرنسا وإنجلترا والمجر وغيرها من البلدان، إلى مؤتمر الموسيقى العربية الأول للنهوض بها علميًّا، وقد بلغ عددهم ٢٩ موسيقيًا، كما وجهت الدعوة للأستاذ راغب مفتاح ممثلاً للموسيقى القبطية، وكان من بين هؤلاء المؤلف الموسيقى المجري ورائد جمعية الموسيقى الشعبية المجرية بيلا بارتوك، وإيجون فلز الذي فك رموز الموسيقى البيزنطية القديمة، ومدام هيرشر كليمنص رئيسة الجمعية الموسيقية فى باريس. وقد طالب هؤلاء العلماء الموسيقيون بزيارة إحدى الكنائس الأثرية، فوقع الاختيار على كنيسة السيدة العذراء الشهيرة بالمعلَّقة بمنطقة مارجرجس بمصر القديمة، حيث أدى القمص مرقس شنودة صلوات القداس واشترك معه في ترديد المرددات والألحان المرتل ميخائيل جرجس (البتانوني)، فتأثر الجميع تأثرًا بالغًا حتى إن الأستاذ فلز قال إنه لم يتأثر في حياته بعذوبة ترديد الصلوات والألحان مثلما تأثر بها في هذا القداس، وقال آخر: إذا كان هناك موسيقى دينية تستحق الإبقاء عليها فإنها تكون الموسيقى القبطية” (د.ماجد عزت إسرائيل، إحياء الموسيقى القبطية، مجلة الثقافة الجديدة، يناير ٢٠١٤)

لا يبدو واضحًا كيف تصور منظمو المؤتمر العلاقة بين الموسيقى العربية والقبطية، فلماذا يستدعي مؤتمرٌ للموسيقى العربية ممثلًا عن الموسيقى القبطية؟ هل هي إحدى فروعها؟ إحدى أصولها الأقدم؟ أم أنَّ كلاهما يتشاركانِ أصلًا واحدًا؟

لفهم علاقة الموسيقى القبطية بالعربية، وعلاقة القبطية بالعروبة عمومًا، يفيد الاطلاع على الخلاف المبدئي بين ممثلي الموسيقى القطبية في المؤتمر، راغب مفتاح رائد تدوين الموسيقى القبطية، وميخائيل البتانوني كبير مرتلي الكاتدرائية المعلم الذي اصطحبه مفتاح إلى فاعليات المؤتمر لتسجيل بعض الألحان القبطية بصوته.

ولِد البتانوني في ١٨٧٣ ليصبح أحد أشهر المرتلين الأقباط في مطلع القرن العشرين. أنشأ مدرسة للعرفاء [Mtooltip description=” المرتلين” /] المكفوفين، قام بتدريس الألحان القبطية في المدرسة الأكليريكية، وأعد أول كتاب على طريقة بريل للألحان القبطية. تُوِّج مجهود البتانوني في إحياء الموسيقى القبطية بحصوله على لقب الباكوية تكريمًا له على مجهوداته في نقل القداس القبطي إلى اللغة العربية. في المقابل، بدأ اهتمام مفتاح (١٨٩٨- ٢٠٠١) بالموسيقى القبطية عام ١٩٢٨ بعد عودته من ألمانيا التي كان يدرس فيها الهندسة الزراعية. كان واحدًا من دوافع مفتاح المعلنة إنقاذ موسيقى الأقباط من مصير لغتهم التي اندثرت بعد أن حلت العربية محلها على ألسنة المصريين المسيحيين، بل وحتى تراجع نصيبها من صلواتهم. لكن الالتباس حول علاقة العروبة بالموسيقى الكنسية المصرية وقبطيتها، والذي يمكن تفهمه في ظل الصراعات الدائرة حول تعريف الهوية الوطنية المصرية حينها في ظل غموض وعدم اكتمال مفهوم العروبة ذاته، لم يكن الخلاف الوحيد.

إذ هيمن خلافٌ آخر على المؤتمر كان وثيق الصلة بمستقبل الموسيقى القبطية وعملية إحيائها. ففيما كانت معظم الوفود العربية أكثر حماسًا لتبني تقنيات وأداوات الموسيقى الغربية بغية تطوير الموسيقى العربية، كان غالبية الباحثين والموسيقيين الأجانب ضد إفساد الموسيقى الشرقية بدفعها نحو التخلي عن تقاليدها، ودعوا إلى التركيز على جمع تراثها وحفظها وتدوينها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة كما هي (١). لم يكن تعليق أحد المشاركين في المؤتمر من الأجانب، والذي استشهد الدكتور إسرائيل به في الاقتباس أعلاه بأن الموسيقى القبطية هي الأكثر استحقاقًا للبقاء، لم يكن هذا التعليق استثناءًا فيما يخص العمليات المتعلقة بالموسيقات الشرقية في خانة الحفظ. فعلى سبيل المثال كان أحد الحضور، وهو المستشرق الألماني روبرت لاخمان الذي قام بدورٍ رئيسي في تسجيل الأسطوانات الموسيقية للمؤتمر ومن ضمنها التسجيلات القبطية بصوت البتانوني، كان معارضًا شرسًا لتبني الأساليب الغربية في الموسيقى الشرقية، بل وحتى ضد استخدام النوطة الموسيقية لتدوينها (راجع مقال غنائم سمعية | الصراع على صوت القدس في مذكرات واصف جوهرية). كذلك فإنه من الجدير بالذكر أن مفتاح تعرَّف على بيلا بارتوك في المؤتمر، وامتدت صداقتهما حتى وفاة الأخير الذي يحتفظ متحفٌ باسمه في المجر بالعديد من المراسلات بينه وبين مفتاح. لكن، ومع أن مفتاح لم يتعاون مع بارتوك مباشرة، فإن تلميذة الأخير الدكتورة مارجيت توت، والتي تأثرت بأفكار أستاذها عن الفلكلور وحفظه، تعاونت مع مفتاح لتدوين ألحان القداس الباسيلي، وهو العمل الذي تم الانتهاء منه في السبعينات، أي بعد أكثر من أربعين عامًا من المؤتمر.

تبدو عملية إحياء الموسيقى القبطية، ومفتاح نفسه، منتجًا لمشروع النهضة القبطية الذي بدأ مع البابا كيرلس الرابع (١٨٥٤- ١٨٦١)، والمعروف بـ أبو الإصلاح، الذي بالإضافة لافتتاحه مؤسساتٍ للتعليم اللاهوتي ومدارس أهلية للبنين والبنات ومطبعة للطائفة، واهتمامه بإحياء اللغة القبطية وتدريسها (٢)، فقد قاد مشروعًا استمر بعده لتجميع الألحان القبطية من حفظتها في كافة ربوع القطر المصري، جنبًا إلى جنب مع مأسسة طريقة حفظها وتعليمها. لكن راغب، الذي كان ابن المؤسسات التي أنشأها أبو الإصلاح، وابن إيدولوجيتها التي كانت خليطًا من ميول محافظة أصولية وتقدمية علمانية ذات دوافع برجماتية، وكان أيضًا مجايلًا لمخاض بزوغ الهوية الوطنية المصرية وموضع الأقباط منها، كان مشروعه الموسيقى يدين إلى تأثير روافد أخرى كثيرة أبعد من السياق الكنسي وثورة ١٩١٩.

كان مفتاح قد أتم تعليمه الجامعي في ألمانيا، مثله مثل الموسيقي محمد أحمد الحفني، العقل المدبر للمؤتمر (٣)، والذي عقد بالصدفة قبل عام واحد من وصول هتلر للحكم. لم تكن الأفكار القومية حكرًا على ألمانيا بالطبع، لكن كلَّاً من مفتاح والحفني كانا قد شهدا صعود أشد نسخها تطرفًا أثناء دراستهما الجامعية في أوروبا. في عام ١٩٢٧، سافر مفتاح إلى لندن بحثًا عمن يساعده في تنفيذ طموحه لتدوين الموسيقى القبطية، وهناك تعرف على الأستاذ في الأكاديمية الملكية آرنست نيولاند سميث، والذي عمل مع مفتاح بين عامي ١٩٢٨- ١٩٣٦ على تدوين الألحان الدينية القبطية موسيقيًا. قام مفتاح عام ١٩٤٠ بإنشاء كورس للموسيقى القبطية، وبعد خمسة أعوام أسس مركزين في القاهرة لتسليم الألحان القبطية للشماسة وتثبيتها، وفي عام ١٩٥٤ ساهم بتأسيس معهد الدراسات القبطية ورأس قسم الألحان والموسيقى فيه، بالأضافة إلى تدريسه الموسيقى القبطية في الكلية الأكليريكية، وعمله الدؤوب على تجميع الألحان القبطية وتسجيلها.

في عام ١٩٦٧ انتهى الباحث الأمريكي جون غيلسباي من مشروعه المشترك مع مفتاح لتدوين القداس الباسيلي موسيقيًا وتسجيله بعد أربع سنوات من العمل. نشر غيلسباي في العام نفسه ورقة لتقديم الموسيقى القبطية التي يكشف محتواها عن تيمات مكررة تتشارك في كثير من طروحتها مع خطابات عرقية وطائفية بعينها حول الأقباط وتاريخهم وموقعهم من الهوية المصرية المعاصرة (٤). تبدأ الورقة بالتأكيد على أن الأقباط هم أحفاد الفراعنة والسكان الأصليين للبلاد التي احتلها العرب لاحقًا، ثم يفتتح الجزء الثاني بتقديمه للغة الأقباط مؤكدًا على أنها المرحلة الأخيرة من تطور لغة المصريين القدماء، وإن كان الكاتب قد أقر بأن اللغة القبطية احتوت نسبة معتبرة من المفردات المقترضة من اليونانية، فإنه يعيد ذلك الاقتراض لرغبة الأقباط بتطهير لغتهم من المفردات ذات المرجعيات الوثنية. هكذا فإن نقاء القبطية يبدو مزدوجًا، في انتسابها إلى الفرعونية من ناحية وتطهرها المسيحي من دنسها الوثني من ناحية أخرى.

تنتقل الورقة إلى الموسيقى الكنسية التي يرجع الكاتب بأصولها إلى موسيقى المعابد الفرعونية كذلك، في تأكيد على أصالتها التي تعود لأكثر من سبعة الآف عام، لكن في الوقت ذاته متأثرة بالموسيقات العبرية واليونانية والبيزنطية، في تأكيد على مسيحية الموسيقى القبطية وفرعونيتها في الوقت ذاته، وانتسابها للتراث الحضاري اليهودي-المسيحي. لكن عندما تتناول الورقة سؤالنا المبدئي عن علاقة الموسيقى القبطية بالعربية فإن الكاتب يجزم بأنه من غير المتصور أن يكون هناك أي تأثير متبادل، وأن أي تشابه بينهما هو إما محض صدفة، أو يرجع لانتسابهما لأصل مشترك. يعود غيلسباي للتأكيد على أن نقاء الموسيقى القبطية مقرون بـ النقاء العرقي للأقباط الذين تزاجوا داخل طائفتهم فقط على مدى أربعة عشر قرنًا. هكذا فإن نقاء الأقباط وتراثهم وموسيقاهم لا يبدو مطلقًا عند غيلسباي، بل يبدو مقصورًا على استبعاد العنصرين العربي والإسلامي حصرًا.

تبدو مقارنة نقاء العرق مشابهة تمامًا لما كان من الممكن أن يكون قد سمعه مفتاح في ألمانيا أثناء دراسته، وتقترب كثيرًا من أفكار مدرسة أصدقاء مفتاح المجريين التي رأت في الفلكلور الموسيقي أحد الاستعلانات المادية الأكثر قوة لروح الأمة وحافزًا لوعيها بنفسها. يذهب غيلسباي إلى أن فرادة الموسيقى القبطية في عدم احتوائها على أي نظام للتدوين الموسيقى مقارنةً بالكنائس الشرقية الأخرى هي إثبات آخر على نقائها المطلق، نظرًا لاعتمادها على النقل الشفهي من جيل لجيل. يشير الدكتور إسرائيل في مقالته التي تم الإشارة إليها في المقدمة إلى أن قدرة الأقباط على عملية النقل الشفهي لموسيقاهم هي “معجزة”، ويقارن تلك المعجزة ببقاء الآثار الفرعونية إلي اليوم. لا يكتفي إسرائيل بالتأكيد على استثنائية الموسيقى القبطية ودور اليد الإلهية في حفظها مع “الدموع والعرق والدم عبر القرون الطويلة”، بل يعيدنا مرة أخرى للتأكيد على فرعونيتها، أي أصالتها، بمقارنتها بصروح قدماء المصريين، وهي المقارنة التي يكررها آخرون، فعلى سبيل المثال يشبه الشماس والموسيقي والباحث في الموسيقى القبطية جورج كيرولس في حوار لهٍ الموسيقى القبطية بأبو الهول في ثباتها وعدم تغيرها. (٥)

لكن إذا كان النقل الشفهي هو ما حفظ للموسيقى القبطية نقاوتها عبر القرون، فلماذا أراد مفتاح ومن معه تدوينها ونزع سر أصالتها الإعجازية عنها؟ تكتب لورانس مفتاح في عام ٢٠٠٧ عن دوافع عمها للمثابرة على مشروعه لحفظ التراث الموسيقى القبطي، فبحسبها كرر مفتاح في عدة حوارات شخصية معها أن استغلال البريطانيين لحجة حماية الأقليات الدينية لتمديد احتلالهم لمصر في مطلع القرن العشرين كان أمرًا مهينًا له، خصوصًا مع سعي الإرساليات البروتستانتية لاجتذاب الأقباط التي وصفت طقوسهم وموسيقاها بالتحلل والتخلف (٦). كان مفتاح أيضًا قلقًا من تأثير الحداثة بشكلٍ عام على حفظ التراث القبطي وموسيقاه. تؤكد لورانس أن هدف عمها الأول هو رفع يد البعثات التبشيرية البروتستانتية عن موسيقى الكنيسة المصرية. ربما تبدو رواية لورانس تلك عن عمها امتدادًا لسردية النقاء القبطي وصموده في مواجهة البروتستانتية والاحتلال كما صمد في وجه الإسلام وموسيقاه العربية، وربما تحولًا إلى سردية وطنية تتخلص من فكرة العرقية القبطية وطائفيتها.

تكشف مقالات مفتاح نفسه التي تشير إليها لورانس عن تمسكه بسردية وطنية تشير إلى الكنيسة القبطية بوصفها مصرية، وعندما يشير إلى موسيقاها فيصفها بالمصرية أيضًا. يذهب مفتاح في تأكيده كغيره على أن الموسيقى الكنسية المصرية لها جذور فرعونية، لكن لا ينسب ذلك الامتداد إلى معجزة إلهية، بل إلى “التقاليد الوطنية لكل بلد (…) وذائقتها الجمالية” وتراكم معارف شعبها. لا يفترض مفتاح أي فرادة لموسيقى الكنيسة المصرية، فهي كما كان الأمر في كلٍّ من الشرق والغرب، أي أن موسيقى الكنيسة البيزنطية بيزنطية، وموسيقي الكنيسة الأثيوبية أثيوبية وهكذا. نجح مفتاح في مواجهة الحداثة بأدواتها، حيث اعتمد منذ الثلاثينات على التسجيل الصوتي أكثر من التدوين لحفظ التراث الموسيقي القبطي، كما كانت واحدة من دوافعه مناهضة الاحتلال البريطاني، فإنه لم يتهيب من أن تكون وجهته الأولى هي لندن بحثًا عن شركاء في مشروعه، ولا من أن يكون شريكه الأول إنكليزيًا. كانت تلك البرغماتية هي أوضح ما مميز عمل مفتاح، ومكنته من استخدامه خطاب العراقة القبطية دون الوقوع في حبائل نقاوتها العرقية الطائفي، وكذلك توفيقه مع خطابات وطنية أكثر حداثة ورحابة، وإن كانت لا تخلو من صبغتها الأصولية أيضًا.

توفي مفتاح عام ٢٠٠١ عن عمر يناهز ١٠٢، تاركًا خلفه تراثًا ضخمًا يتوزع بين الكلية الأكليركية ومكتبة الكونجرس التي تحتفظ بنسخة كاملة من تسجيلاته الموسيقية. تتشكك لورانس في جدوى التدوينات المكتوبة للموسيقى القبطية التي عمل مفتاح لعقود على إتمامها، فيما تشير بدافع من الحسرة، أو ربما بدافع من الطمائنينة، إلى الجهد الضائع. حيث أنه مع الانترنت وانتشار تسجيلات الموسيقى القبطية عليه، فلعمها أن يرقد بسلام دون القلق على مصير الموسيقى التي أفنى عمره في محاولة حفظها. مؤخرًا، تؤكد دراسات أكثر حداثة شكوك لورانس، فعيوب تدوين الموسيقى القبطية التي شارك فيها مفتاح ربما فاقت فوائدها، وتبدو مساهمته في حفظ التراث الموسيقى القبطي مقصورة على تسجيلاته الصوتية. (٧)

تظل سيرة مفتاح نموذجًا استثنائيًا للسياقات التاريخية التي تقاطعت فيها الموسيقى مع مشاريع التحديث الوطني والكنسي وصعود الإيديولوجيات العرقية والطائفية وهبوطها، وتدليلًا آخر على الدور الجوهري الذي تلعبه الموسيقى في تشكيل الهويات الجمعية وتشظيها على خطوط العرق والدين أيضًا. كما يخبرنا مشروع مفتاح عن الطرق التي تقوم عبرها المعرفة والتكنولوجيا بالتلاعب بالتاريخ ومادته الخام، لا بحفظها أو طمسها فقط، بل أيضًا عبر تعيين ملكيتها وتشكيلها على هوى أصحابها.

المزيـــد علــى معـــازف