fbpx .

لوناس معطوب | كتلة من الحب والجمال والغضب

هيكل الحزقي ۲۰۱٦/۰۲/۲٤

في يوليو ٢٠١٢ في إحدى قرى سطيف بمنطقة القبايل بالجزائر، صدم المصلون عندما تغاضى إمام جامع في خطبة الجمعة عن الاستشهاد بآيات القرآن وتكلم على لسان لوناس معطوب واصفا إياه بالداعية. هذا المشهد كفيل بالتعبير عن حجم ما تركه لوناس من أثر لدى الجزائريين، وعن حياته التي شابهت في صخبها وأحداثها وملحميتها سير الشهداء والأنبياء.

بين حاضنتين | الفلكلور القبايلي والشعبي الجزائري

في سيرته الذاتية بعنوان المتمرد والتي صدرت سنة ١٩٩٥، يتكلم لوناس عن بداية ولعه بالموسيقى: “قيثارتي الأولى صنعتها بنفسي، أخذت علبة قصديرية تعبأ فيها زيت السيارات وثبتت في ثقبها عصا من خشب وأوتاراً من خيوط الصيد بالصنارة. لم يكن أمامي خيارٌ آخر إذ كنت معدما و ثمن القيثارة الحقيقية يساوي وقتئذ ثروة بكاملها. كان عمري لا يتجاوز التسع سنواتصـ ٤١. لم يتوانى الصبي عن إصداع رأس أمه بالعزف على آلته تلك التي كانت أقرب إلى آلة حربية منها إلى قيثارة. عند عودة أبيه من الغربة بفرنسا، جلب له قيثارة حقيقية، و لكنه خسرها في لعبة قمار مع أحد أقربائه

عوّض عن ذلك فيما بعد باشتراء المندول الذي رافقه في كل أغانيه، وعوضته أيضاً بيئته الغنية بالموسيقى. كان لوناس يستمع إلى والدته وهي تغني، وتشبع من فرط الاستماع إلى شيوخ الأغنية القبايلية وأهازيج نساء القرية في لون الشويق Achewik. في سيرته الذاتية، المتمرد، يشير لوناس إلى تلك الحاضنة الموسيقية: “لم يسبق لي أن درست الموسيقى والطرب. أعتمد على الأذن وعليها فحسب، وقد اكتسبت أذناً موسيقية من فرط استماعي لشيوخ الأغنية، وحضوري للأمسيات الجنائزية التي تنشد فيها والدتي مرثيات غنائية رائعة هي عبارة عن أغاني جماعية تعبدية حقيقية يتغنى فيها بالأزمة الإجتماعية والحياة والممات. هذه الأغاني مكون من مكونات تراثنا وتغنت بها قبلنا أجيال وأجيال من الرجال والنسوان. كل النساء بالقبايل يغنين في جميع المناسبات. أمي تقضي كل وقتها في الغناء وأبسط حدث قد ينقلب بسرعة الى حفلة وبالتالي إلى طرب وغناء.” صـ ٤٤

كان متمردا حتى في تعلمه الموسيقى، إذ لم يدرس شيئا عنها ولم يعرف أبدا كيفية التنويت الموسيقي ولا قراءة التقاطيع:

أعترف أنني عاجز عن تفكيك أبسط نوتة موسيقية إلى حد أنني لا أتمكن من تمييز ألحاني الخاصة ضمن تقطيع موسيقي مكتوب. كل ما قمت به اعتمدت فيه على أذني. آخذ قيثارتي وأحاول أن أقع على تناغمات ثم ألحّن لأجد نفسي أمام أغنية ولأنني تعودت على هذه الطريقة، فإنني أسجل هذه التناغمات في ذاكرتي وأحتفظ بها هنا. قلت لنفسي مراراً: آن الآوان لأتعلم الموسيقى وفق منهجية صارمة لكني قدرت أن هذا الإكراه من شأنه، في نهاية الأمر، إحراجي أكثر من الأخذ بيدي نحو التطور، وقد يكون سبباً في شل قدراتي.صـ ٤٥. تأثر لوناس بالشيخ الحسناوي الذي غنى له كثيراً والذي سبق له أن شارك في أوركسترا الحاج محمد العنقة كعازف ليعتزل الغناء فيما بعد ويهدي مندوله إلى صديقه الفنان القبايلي آكلي يحياتين صاحب رائعة يا المنفي.

من القبايلية انطلق لوناس إلى الشعبي الجزائري حيث تأثر كثيراً بالحاج محمد العنقة ودحمان الحراشي. توجد جذور هذه الموسيقى في الطرب الأندلسي الذي نشأ في حواضر إشبيلية وقرطبة وبلنسية، بما هو تلاقح لموسيقات عدة شرقية وغربية انتقلت إلى المغرب الكبير مع أولى الهجرات الأندلسية التي تزامنت مع سقوط الأندلس. في بداياتها، تأثرت موسيقى الشعبي بشعر الملحون المغربي والمدح الذي يتناول بالذكر الأنبياء والعلامات الصوفية. أفقدها ذلك ارتباطها بالواقع الجزائري، فتخلصت من هذا العبء الديني لتنفتح على الحياة اليومية بالجزائر وهمومها.

أصدر لوناس ألبومه الأول أين أنت يا أسد عام ١٩٧٨ في باريس، حيث تعرف عن قرب على الفنان القبايلي سليمان عزام وحنيفة الملقبة بـ الصوت الذهبي للأغنية القبايلية. رافقه أيضاً الفنان ايدير حميد شريط، عرف باسم ايدير فيما بعد. فنان قبايلي روّج للأغنية القبايلية حول العالم. عرفت انطلاقته مع أغنية Ivava Inouva الذي سجل معه بعض المقاطع في الألبوم. في هذا الإطار تكلم إيدير عن بدايات لوناس: “أسمعني بعض الأغاني التي كتبها، هذه الأغاني كانت في نظري ثقيلة نوعاً ما. كنت أعتقد أنه إذا أراد النجاح بصوته الجميل، كان عليه أن يبدأ بأغاني خفيفة“.

لكن لوناس معطوب لم يكن يفكر إستراتيجياً ولم تعنه كثيراً حسابات النجاح. كان كتلة من الغضب والحب والجمال، يكتب شعره وألحانه بشكل مباشر ولاذع. في أين أنت يا أسد، يغني لوناس لـ عبان رمضان مهندس الثورة الجزائرية والكفاح المسلح من أجل الاستقلال المغدور الذي قتله رفاق السلاحفي جبهة التحرير الوطني بعد أن استدرجوه إلى كمين في المغرب. يعيد لوناس الاعتبار لهذا البطل ويقسم له أن أبناء يوغرطة سينتصرون يوما.

في أغنية جبال دجرجرة تنادي على الأوراس (١٩٧٩)، يغني لوناس عن عائلات أمازيغية مزقتها التضاريس وعنف الدولة. جبال الأوراس هي الوجه الآخر من الموسيقى القبايلية؛ أصوات الشاوي التي تحملها حناجر عيسى الجرموني وبقار حدة وحورية عايشي. ينبعث صوت لوناس من أعماق جبال دجرجرة حاملا تلك البحة الفريدة التي تميز صوته، والتي يظهر فيها بشكل جلي تأثره بأمه وأصوات نساء القرية في أهازيجهن اليومية:

خدم لوناس سنتي تجنيد إجبارية في الجزائر شحنت فيه بذور التمرد وترجمتها إلى شعر وموسيقى كما يشير إلى ذلك في سيرته. يذكرنا هذا الفصل من حياة لوناس يذكرنا بما عاشه جوني كاش في الجندية عندما كتب أروع أغانيه مثل سجن فولسوم. هروب لوناس من الجندية فيما بعد رفعه إلى مقام ما أتاه تكفاريناس القائد الأمازيغي الذي هرب من الجيش الروماني الذي كان مستعمرا لمملكة نوميديا الأمازيغية.

في أغنية حرب الاسكندرية، يتحدث لوناس بصوت أب ملتاع على ابنه الذي أرسل إلى الجبهة في حرب ١٩٦٧ في مصر ولم يعد إلى ذويه. وهو جانب لم تتكلم عنه أغنية عبد الودود للشيخ إمام التي تتناول نفس الفترة التاريخية والتي يخاطب فيها الشاعر جندياً شاباً على الجبهة ويحثه على الصمود. الجندي الذي تكلم عنه لوناس في هذه الأغنية هو الأخ القبايلي لعبد الودود، رفيقه وأخوه في الجبهة.

يستمر تأثير الفلكلور القبايلي في أغنية حرب الاسكندرية، إذ تهيمن إيقاعات الشويق على الأغنية من خلال جملة إيقاعية واحدة تبدأ وتنتهي بها. يعتمد لوناس في هذه الأغنية على آلتين فقط هما المندول والدربوكة. المندول يساير الإيقاع من دون أن يتخلص منه إلى مساحات ارتجالية أوسع. يغني لوناس على درجة منخفضة ويردد من خلفه مجموعة صوتية عند آخر مفاصل الجمل، وهو نفس الشكل في الحلقات المأتمية في القبايل حيث يؤدي فرد واحد وترد عليه الأصوات عند آخر الجمل المنتهيةفي هذا التسجيل، تظهر علجية، والدة لوناس، التي كانت رائدة في مجال الشويق بمنطقة القبايل.

في أغنية أمازيغن (١٩٨٠)، يعود لوناس معطوب إلى تاريخ الأمازيغ ليحكي قصة الملك الأمازيغي ماسينيسان ملك أمازيغي عاصر الحرب البونية الثانية بين قرطاج و روما. حارب الرومان و لقرطاجين على حد السواء واهتم ببناء مملكة أمازيغية على أسس اقتصادية وسياسية متينة. وحّد كل قبائل شمال إفريقيا تحت راية مملكة أمازيغية واحدة اسمها نوميديا. وبطولات الملكة الكاهنة التي سميت أيضاً بديهيا سميت أيضاً ديهيا. ملكة أمازيغية و قائدة عسكرية حاربت الرومان و العرب والبيزنطيين في سبيل استعادة الأراضي الأمازيغية ولّمت شمل قبائل الأمازيغ.

تواصلت هذه المرحلة إلى بداية الثمانينات، وتدعمت إثر اندلاع الربيع القبايلي سنة ١٩٨٠ ونشوء الحركة الثقافية الأمازيغية التي كان معطوب أحد أشرس فاعليها. غنى لوناس في جبل آيت ييراثان (١٩٨١) عن الجرح الأمازيغي في جسد الجزائر. بالعودة إلى سيرته الذاتية، يشير لوناس إلى محورية اللغة في قضيته: “الأمازيغية هي لغتي الأم. تعلمت بها الكلمات الأولى وألقيت بها نصوص الغنائية. لكن هي أيضا لغة غير معترف بها في الجزائر ولا تدرس. وكلما نطقت بها أتصور نفسي كما لو أنني أقاوم“. صـ ١٤. في هذه الأغنية، نتلمس بدايات توطن ألحان الشعبي في موسيقى لوناس وعدم اكتفائه بالتلحين على إيقاع الأغنية القبايلية الفكلورية القديمة.

جميلة

لوناس و جميلةحكاية لوناس مع جميلة كانت بمثابة قصة حب زمن الكوليرا مزقتها الرصاصات الخمسة التي استقرت في جسد لوناس في أحداث أكتوبر عندما شهدت العاصمة الجزائرية موجة احتجاجية عارمة نتيجة الأزمة الإقتصادية الخانقة التي عاشها البلد وارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل جنوني. بدأت تحركات في العاصمة الجزائر أسفرت عن مواجهات دامية بين السلطات والمحتجين سقط فيها قتلى وجرحى. توسعت دائرة الاحتجاجات لتصل منطقة القبايل. كان لوناس حاضرا بقوة في تلك الأحداث من خلال مشاركته في اعتصام الطلبة وتحركاتهم والدعوة لإضراب شامل بمنطقة تيزي وزو من أكبر المدن في الجزائر، أغلب سكانها من الأمازيغ تضامنا مع متظاهري العاصمة.

عندما كان في سيارته بصحبة طالبين بغرض توزيع منشور دعائي، لاحقته قوات الدرك وتمكنت من محاصرته وإطلاق الرصاص عليه بدم بارد. يعود لوناس لتلك الحادثة في المتمرد: ” بعد أن أشبعوني سبا وشتما بدأو في البصق علي. نعتوني باللقيط وفجأة أطلق أحدهم على بعد متر رصاصة على يدي، ذهلت لما يحدث أمامي ولم أكن أفهم فيه شيئا، وبعد هذه الرصاصة، تلاحقت الطلقات في كل الاتجاهات وهي تلعلع في كل مكان، أحسست بألم مبرح على اليسار من بطني. أصابني دوار ولم أعد أدرك مكانيإخترقت رصاصة إحدى أمعائي وفجرت عظم الفخذ. لم أعد أحس بأحد رجلي وسرعان ما أنهرت تماما. أذكر بعد ذلك أنني حملت الى داخل لاندروفر دون أدنى مراعاة لجروحي وللدماء الغزيرة التي تنزف من جسمي“. صـ ١٠٣

في ألبوم El-Vavour الصادر سنة ١٩٨٤ إثر زواجه بجميلة، ذكر لوناس لأول مرة اسم محبوبته محتفلا بفرحة زواجه منها. كان ذلك عين المغامرة في المجتمع القبايلي آنذاك، فلم يكن أحد يجاهر بحبه. لحنيا وإيقاعيا، يظهر في الأغنية تأثير الأهازيج الاحتفالية في الفلكلور القبايلي.

مشاركته في أحداث أكتوبر وإصابته بالرصاص دفعت الأمور إلى أقصاها مع جميلة. لم تستطع أن تحتمل حياة مضطربة يعيشها متمرد مثل لوناس الذي اختار المخاطرة في كل شيء، فكثر أعداؤه وتعرض للمضايقات ومُنع من السفر. سافرت إلى باريس، ثم تزوجت واستقرت هناك. 

كانت تلك ضربة موجعة جداً للوناس كان لها أثرها العميق على فنه. أول شكل لتلك المرحلة تجسد في ألبوم سخرية القدر (١٩٨٩). لأول مرة في مسيرة لوناس معطوب، كان في الألبوم كاملاً أغنية سياسية واحدة، فيما كانت باقي الأغاني تروي فصول العزلة والألم والمعاناة بعد هجران جميلة له، وبعد ١٨ شهرا في المستشفى و١٤ عملية جراحية، وإعاقة مستديمة ومثبتات للتحرك وشرج إصطناعي. كل هذا جعل لوناس يغوص في طيات نفسه، يكاشف جروحا لم يعهدها، وينفتح على مساءلة  لذاته تنساها سابقاً لصالح القضية.

لم يكن أحد يتصور أن معطوب سيعود للغناء ثانية. خلال تلك الفترة، كان يكتب ويلحن. عندما تحسنت حالته قليلا، كان يستغل أوقات الزيارة لكي يذهب إلى ستوديو التسجيل. مع أغنية التوبة، نتلمس مرور لوناس إلى الانفتاح أكثر فأكثر على الشعبي الجزائري، بل وتطويعها لإيقاعات شرقية واضحة. لربما كان في الأمر رمزية مكانية، فمنزل جميلة كان محاذياً للوناس في قرية تاوريرث نموسي التي غرست فيه ألحان القبايل وإيقاعاتها الفلكلورية. ظلت القرية ملازمة لحضور جميلة في خياله، ولعله هنا يعبر عن رغبة في التخلص من سطوة المكان المثقل بالذكريات نحو حاضنة أوسع، وذلك ما نجح في فعله موسيقياً ليتجه أكثر إلى الشعبي دون أن يتخلى عن جذوره.

بعد أسبوع فقط من مغادرته المستشفى في فرنسا، وصل لوناس إلى تيزي وزو وأحيا حفلاً رهيباً في ملعب عقيل رمضان بحضور الآلاف التي هتفت باسمه. يقول في هذا الصدد: “أدرك خصومي بعد هذا الحفل أنهم سارعوا قليلا في دفني ودق المسمار الأخير في نعشي. فشلت الرصاصات الخمسة في النيل منيصـ ٨٣. منذ تلك اللحظة، أصبح لوناس نبي القبايل وبطل قصصها اليومية. رغم تلك الهالة التي أحاطت به، لم تغب صورة جميلة عنه.

في أغنية المحنة (١٩٩٣) ينتقل لوناس من الغضب إلى الحزن فتظهر لنا ملامح مخفية منه غير صور التمرد والثورة. “ستجدين ملامحي في وجه الرجل الذي ستتزوجينه لاحقا. سيطاردك القلق في لياليك.”، يعصف الهجر بقلب لوناس ويدفعه إلى شيء أشبه بالوعيد. في آخر الأغنية، يتحول إلى حالة من الغضب فتخرج الكلمات من فمه وكأنه يعض على شفتيه حانقا: “ستذرفين كل الدموع من جسدك ويغلفك الندم، فيما ستعصف الرياح بكبريائك وتفقدين صوابك هائمة على وجهك.”

موسيقيا، تظهر في هذه الأغنية تأثيرات الشكل الفني لأغاني دحمان الحراشي، غير أن لوناس يطوع طاقاته الصوتية لكي يضيف لمسة متفردة، إذ يتلون صوته بحالته النفسية على إمتداد نص الأغنية ولا يستقر على شكل واحد، باستثناء اللازمة:

في أغنية تمرد أرملة (١٩٩٦) يعبث لوناس معطوب بفصول قصته مع جميلة بشكل مختلف. نص الأغنية يشير إلى تعلق امرأة ترملت قبل وقتهابذكرى زوجها والابقاء على حبها له، رغم استعدادها للزواج ثانية. يقتل لوناس نفسه رمزيا في حضرة جميلة، إذ يعتبر أن حياته بعد انفصالهما انقلبت يأساً وحزناً ووحدة قاتلة، ولذا فهو لا يكل من توجيه رسائل إلى حبيبته من القبر في صورة سريالية حزينة.

يمر صوت لوناس إلى شكل أكثر نضجاً ليتحول إلى رحم الأغنية الذي يتحرك داخله اللحن والإيقاع، ويصبح جزءاً من الكتلة اللحنية. موسيقياً، نجح معطوب في هذا العمل بنحت ملامح أغنية قبايلية عاطفية حديثة من ناحية الأسلوب والمعنى، ليكون بذلك قد أدخل جماليات جديدة على الأغنية القبايلية.

ظل لوناس يغني لجميلة مخاطباً إياها بكل النبرات وجالداً ذاته. لم يتعب من الانتظار، وبقي يحارب من آملاً في عودتها. في آخر أغانيه لجميلة (١٩٩٨)، غلبت عليه المسحة المأساوية. يخرج صوته مرتعشا حزينا على وتيرة واحدة، مختنقا بالآهات، لينتهي على تكرار لجملة واحدة لم نعهده من قبل في أغاني لوناس: “سيظل الحنق ملاحقا لعزلتك ويقض مضجعها ليطرد عنك الأحلام“.

إلياذة لوناس

إن كانت التوبة قد سطرت بداية مرحلة أخرى في أغنية معطوب، فإن نظرات على هامش تاريخ بلد مضطهد فعلت بالمثل. في هذه الأغنية التي أصدرها سنة ١٩٩١، قام لوناس بما لم يأت به أي فنان قبايلي سبقه. طول الأغنية حوالي ٤٥ دقيقة، مقسمة على ستة مقاطع لحنية وإيقاعية تتجلى فيها تلونات الشعبي الجزائري. يظهر فيها بشكل جلي نضج معطوب الشعري واللحني، إذ يحفر في طيات ألحان الشعبي ويطوعها لنص طويل جدا كان بدوره علامة فارقة في الشعر القبايلي الحديث. 

نظرات على هامش تاريخ بلد مضطهد هي إلياذة لوناس معطوب، يروي فيها سير أبطال مغدورين لاقوا الموت على يدي رفاق السلاح مثل عبان رمضان وبن مهيدي، وعن جزائر مزقتها الحروب منذ قدوم الرومان أول المستعمرين، مروراً بالفرنسيين والجنرلات الحاكمين فيما بعد. في هذه الأغنية ينتصر لوناس لتاريخ المضطهدين في مواجهة السرديات الرسمية. يسائل لوناس معطوب عبد الرحمن، وهو علامة صوفية جزائرية لها حضور متميز لدى الشعب الجزائري لكي يكاشفه عن معاناة شعبه الأمازيغي وتمزق الجزائر بين هوس الدولة وجنونها وحقوق سكانها الأصليين من الأمازيغ الذين تمت إبادة تاريخهم وتشويهه على يد من أسماهم أولاد بختة، ولعله هنا يشير إلى شخصية بختة، تلك الغانية في قصائد عبد القادر الخالدي أحد شعراء الملحون الجزائري، وكأنه أراد أن يقول أولاد القحبة“.

في آخر الأغنية، يترك معطوب إيقاع الأغنية على نفس الوتيرة ويريح مندوله لكي يسترسل في سرد خطاب بالفرنسية هو أشبه بالإلقاء الملحمي ويختمه: “كلنا من أجل جزائر أفضل ولأجل ديمقراطية فوق الجميعثم يغوص في الحديث عن أوجاعه وتجربته الصعبة بعد إصابته بالرصاصات الخمس، فيتكلم عن معاناته وصرخات جسده المثقوب بالرصاص.

كان المندول بطل هذه الإلياذة دون منازع. هذه الآلة التي اخترعت في الثلاثينيات على يد بايليدو الإيطالي بعد طلب خاص من الحاج محمد العنقة الأب الروحي لموسيقى الشعبي الجزائرية. يظهر هنا تأثر لوناس معطوب بهذه الموسيقى ودأبه على استحضار الطبوع الأندلسية الحاضرة في موسيقى الشعبي. يشير معطوب من خلال موسيقاه إلى أنه لم يكن انفصالياً كما يقول البعض، أي أنه لم يتقوقع داخل الإيقاعات الفلكلورية القبايلية، بل تشبع أيضاً من موسيقى الجزائر الأم وإن أكلت هذه الأخيرة أبنائها.

بأغنية نظرات على هامش تاريخ بلد مضطهد، يكون لوناس معطوب قد فتح الأغنية القبايلية على مرحلة جديدة لحنياً وشعرياً. زاوج بين الملحون المغربي في قصائده الطويلة وألحان الشعبي الجزائري ذات الجذور الأندلسية، والصوت القبايلي القادم من بيئة جبلية قاسية.

المتمرد

شعرية معطوب بسيطة واضحة، لا يثقلها بمعان عصية على الفهم. يفكك قضايا عصره ويقدمها لجمهوره بلغة الحياة اليومية في القبايل. تطورت نصوصه من المباشراتية الصريحة التي ظهرت في أولى أغانيه إلى الترميز والمجاز، وطعّم قصيدته بألوان الالتياع والعاطفة التي سكنته نحو حبيبته جميلة، كما نوّع أشعاره بين الالتزام والغربة والمنفى والحب والتعلق بالأرض والأمومة، عاكساً الأوجه العدة لشخصيته المركبة. هو المتمرد على الأطر والضوابط، الطفل الذي لفظته المدارس التعليمية لنزقه وجنوحه للمغامرة، الهارب من الجندية، المتمرس على استعمال السكين والبندقية، الصبي الذي كاد أن يحرق قريته بسبب أعقاب سجائر دخنها مع رفاقه، المزاجي الذي يتحول إلى مقاتل شوارع لكي يصد الظلم والحيف عنه وعن غيره، العاشق المتألم، المحب للحياة والحفلات، المشجع المجنون بولعه لفريق شبيبة القبايل.

لم يكتفي لوناس بالكتابة، بل قام بترجمة قصيدة لـ آرثر ريمبو Arthur Rimbaud إلى الأمازيغية. القصيدة عن جندي قتل في ساحة الحرب وبقي ملقى في واد عميق يلفه النسيان. الأغنية بعنوان عسكري، يشير فيها لوناس إلى الجندي المجهول، وقود الحرب وحطبها.

في سيدي الرئيس، يستلهم لوناس معطوب العنوان من نص أغنية الكاتب والفنان الفرنسي بوريس فيان Boris Vian في الهارب من الجندية. كما عبر لوناس عن تأثره بأفكار باكونين ميخائيل باكونين - ثوري أناركي روسي اللاسلطوية: “الدولة لا تعني أبداً الوطن، فهي لا تختصر معنى الوطن إطلاقا. مثلما يقول باكونين، فالدولة فكرة مجردة، ميتافيزيقية، ضرب من الإسقاط القانوني والروحي والسياسي لفكرة الوطن.

تأثر لوناس بالأغنية الفرنسية واضح من خلال ما ردده دائما:أنا من سلالة المحاربين و سأموت من أجل أفكاري، ليسترجع ههنا جورج براسانس شاعر وكاتب وفنان فرنسي له أكثر من ٢٠٠ أغنية عرف بتمرده. كتب ولحن أغلب قصائده وغنى لشعراء فرنسين كبار مثل لويس آراغون وبول فيرلين وفيكتور هيغو. القائل بالمثل في أغنية الموت من أجل الأفكار. التشابه بين الفنانين ليس محصورا ههنا فقط، بل إن العديد من محبيه يطلقون عليه جورج براسانس القبايللغزارة إنتاج كليهما والشعرية المتفردة التي ميزت أغانيهما.

لوناس معطوب ليس كات ستيفنز

في سنة ١٩٩٤ قامت جماعة إسلامية متطرفة بإختطاف لوناس معطوب من إحدى المقاهي بتيزي وزو. ظل لوناس قيد الإحتجاز مدة ١٥ يوما، وعرض على محكمة إسلامية وسط الغابات والأحراش. إتهم بكونه عدو الله، فيما كانت أغانيه هي الجريمة الموجهة إليه. قد تكون جريمته هي أغنية الله أكبر التي ألفها لوناس سنة ١٩٨٣ وغناها كثيرا للمجاهرة بعدائه للجماعات الإسلامية:

في هذه الأغنية، يجنح لوناس إلى السخرية كردة فعل على سياسات التعليم الذي أفرغ من محتواه وظل سجين إلزامات التعريب القسري. “لن نكون قرابين لقضية لا تعنيناأنتم الذين أنجبتم وربيتم هؤلاء الإسلاميين المتطرفين حينما كنا نناضل من أجل جزائر أصيلة.

كان على شفا الإعدام على يد هذه الجماعات، ولكن الهبّة الشعبية التي شهدتها القبايل شكلت ضغطاً رهيباً على هؤلاء لكي يطلقوا سراحه. لوناس لم يكن مجرد فنان قبايلي في نظر هؤلاء، بل رمزاً وبطلاً شعبياً. يشير لوناس في المتمرد إلى تلك الهبة: “لو لم يكن القبائليون متفقون مع ما أدافع عنه والقيم التي أعبر عنها ما تعبؤوا تلك التعبئة المشهودة لمجرد سماعهم باختطافي.” صـ ٥٧

في تلك الأيام العصيبة تعرّض لوناس لشتى أنواع الترهيب، وعمدت الجماعات الإسلامية إلى الاستشهاد بـ كات ستيفنس بعد أن أعلن إسلامه وأصبح اسمه يوسف إسلام، ليترك حياة العربدة ويعتزل المواضيع التي تغنى بها في مرحلة ما من حياته ويعلن التوبة الفنية ويجاهر بدعمه لمقولات الجهاد.

لكن لوناس عاد بعد إطلاق سراحه بخطاب شعري واختيارات غنائية أكثر عنفاً. شن حرباً بلا هوادة على النظام والجماعات الإسلامية وسياسات التعريب الإلزامية التي وضعت لتمحو تاريخ القبايل. كان مهددا بالاغتيال في كل لحظة، إلا أن ذلك لم يثنيه عن الاستمرار: “اخترت معسكري، طاهر جاعوط صرح بأشياء غاية في الأهمية ومثيرة للإنتباه وغالبا ما أستحضرها، يقول، مثلا :’الصمت مرادف للموت، وأنت إذا تكلمت تموت وإذا سكتت تموت، اذا تكلم و مت‘. أريد أن أتكلم ولا أريد أن أموت“. صـ ٨٨

في ألبوم باسم أهلي (١٩٩٧) تطغى نون الجماعة على شعر لوناس وكأنه يروي على لسان نيكولاي اوستروفسكي فصول رواية كيف سقينا الفولاذ. تخلل الألبوم أغاني تشير إلى القلق الدائم الذي غلف حياة لوناس.

في فريق شبيبة القبايل لكرة القدم وجد لوناس رمزاً قوياً عن القضية الأمازيغية. كان دائم التنقل مع الفريق مبارياته، وحوّل المدرجات إلى حفل ثوري صاخب تمتزج فيه كرة القدم بالنضال، لتذكرنا بأيام سقراط البرازيلي القائد التاريخي لفريق كورنثيانتسغنى لوناس للمرة الأولى لفريقه لما صعد على خشبة مسرح الأولمبيا بباريس سنة ١٩٨٠ مرتديا بذلة عسكرية في نفس الفترة التي شهدت اندلاع الربيع الأمازيغي، وأشعل حماس الحاضرين بأغنية JSK، والتي هي تسمية مختصرة لفريق شبيبة القبايل.

قبل صدور ألبوم كنزة سنة ١٩٩٤، وعشية مباراة نهائي الكأس التي كان شبيبة القبايل طرفا فيها، جمع لوناس معطوب لاعبي الفريق وغنى لهم أغنية كنزة كنزة اسم ابنة الكاتب طاهر جاعوط الذي تم اغتياله التي كانت لم تصدر بعد. في الأغنية، يتوجه لوناس إلى إبنة الراحل ويتخيل صوتاً يكلم الفتاة ذات الثلاثة سنوات من وراء حجاب الموت. فاز الفريق ليلتها ولعل أغنية لوناس لعب دوراً في هذا النصر.

آخر ألبومات لوناس معطوب صدرت بعد أيام من اغتياله. ألبوم رسائل مفتوحة إلى… كان العمل الأكثر اكتمالا ونضجاً للوناس على صعيد الأغنية السياسية والعاطفية. ترك لوناس الرسائل مفتوحة الوجهة متخلصاً من المباشراتية التي رافقت بداياته. جميلة احتلت كالعادة حضورها في أكثر من أغنية، وطغت على البقية نزعة وجودية تميز بها لوناس في آخر حياته بعد قراءته لألبير كامو، إذ اعتمد على نفس الحقل الأسطوري الإغريقي (كما فعل كامو مع أسطورة سيزيف) ليعنون أحد أغانيه بنرسيس الغريق.

هذا الألبوم كان قنبلة موقوتة. قام لوناس معطوب بغناء النشيد الرسمي الجزائري بالأمازيغية مع تغيير الكلمات لكي تحيل على خطاب لم يتجرأ أحد على المجاهرة به قبله. أعاد معطوب إلى الأذهان صورة جيمي هندريكس في آخر أيام وودستوك لما عزف النشيد الرسمي الأمريكي مقلدا صوت القنابل التي نزلت على الفيتنام في أتون الحرب الأمريكية عليها.

أراد لوناس أن يكون تاريخ اصدار الألبوم رمزيا، فطلب من شركة الإنتاج أن يوافق يوم ٥ تموز/يوليو، وهو تاريخ استقلال الجزائر والذي كان سيبدأ فيه تطبيق سياسات التعريب في كل مناطق البلاد لاستكمال الإبادة الدستورية للهوية الأمازيغية.

قبل صدور تلك الرسائل، وهو في طريقه من تيزي وزو إلى قريته الجبلية بصحبة زوجته نادية، اعترضت طريق لوناس معطوب ثمانون رصاصة.

من لم يقتل لوناس معطوب؟

مثّل لوناس تقاطعاً لأيقونات عدة. حياته كولد متمرد ونزق أصبح فيما بعد فناناً ذو شعرية متفردة يعيد إلى الأذهان سيرة حياة الفنان الفرنسي جورج براسانس، نضاله من أجل القضية الأمازيغية رفعه إلى مقام يوغرطة القبايل، شعريته التي غاصت في أعماق جبال دجرجرة والحديث عن بؤساء الجزائر جعل صديقه ايدير يشبهه بفكتور هيغو، حضوره الفاعل في الحركة الثقافية الأمازيغية من أجل فرض الحقوق التاريخية لشعبها قربته من مارتين لوثر كينغ، صور اغتياله بالرصاص الذي ثقب جسده أعادت إلى الأذهان مشاهد التنكيل بالفنان الشيلي فيكتور جارا في ملعب سانتياغو.

لو جمعنا عدد الرصاصات التي نزلت على أجساد فيكتور جارا ولوناس معطوب، لكان الأمر كفيلا بتدمير مدرعة حربية.

المزيـــد علــى معـــازف