.
يقال إن الموسيقى لغة عالمية، وهذا كلام فاضي. حتى وإن تمكنا من فهم الجمل اللحنية لثقافة بعينها، لن يمكننا ذلك من فهم الثقافات الأخرى، ولن يزول احتياجنا لسماع الكثير من ألحان ثقافة أخرى قبل التمكن من فهمها والاستمتاع بمكنوناتها. لن نلاحظ ذلك فقط عند مقارنة ثقافتين بعيدتين مثل الراجا مقام هندي يتكون في العادة من ٥- إلى ٩ نغمات والريجي، وإنما نراه حتى في فوارق التعبير اللحني بين الثقافات العربية نفسها، مثل الفارق بين المقام العراقي والراي، أو الإيقاع الخليجي والتونسي، أو حتى الفوارق داخل البلد الواحدة، كالفرق بين الطرب المصري وموسيقى المهرجانات. فكيف إذًا بالفرق بين كل هذه، وثقافات الشرق الأقصى مثلًا؟ لكل ثقافة حسها وأساليب تعبيرها، ومن السذاجة اعتبار الموسيقى لغة عالمية موحدة.
كما أنه لا يمكن وصف ما تعبر عنه الموسيقى تتكون الجمل الموسيقية في ذهن شخص، قبل أن يبوح بها إلى شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص. إذًا الموسيقى لها راسل ومرسَل إليه. هي وسيلة للتعبير في الأساس، قبل أن يتم تداولها كوسيلة للترفيه أو تهذيب للنفس أو غيرها من المسميات. ولا أية جملة موسيقية بعينها من خلال اللغة، لأنها ليست لغة. هي أداة تعبير مثلها مثل اللغة، نابعة من نفس الاحتياج الإنساني للتعبير والتواصل الذي تولد منه اللغة، ولكن لا يمكننا ترجمتها وكأنها لغة أجنبية. بل ولا يمكننا تفسير لحن أغنية من خلال كلماتها، فالبحر لا يقتصر على ما يطفو عليه من قوارب، إن صح التشبيه، ولا يمكننا اختزال معنى الموسيقى بهذه الطريقة. الأمر ليس بهذه السهولة.
هنا يأتي السؤال: ماذا لو لم تفهم هذه الموسيقى، هل يعني ذلك أنك لا تحب الموسيقى العربية (مثلًا) وتفضل نوعًا آخر؟ بالطبع لا. هذا يشبه أن أتحدث إليك وألا تفهمني، وفي هذه الحالة هناك احتمالين لا ثالث لهما: إما أنني لا أعرف كيف أعبر عن نفسي بشكل مفهوم، أو أنك لم تستمع إلى لغتي (أو لهجتي) من قبل بشكلٍ كافٍ لتفهم ما أقول. نحن ما زلنا في مرحلة الفهم، قبل الحب أو الكره، فكيف لنا أن نحب أو نكره شيئًا قبل فهمه؟
يظن الكثيرون أن اللحن الجميل يصل إلى وجداننا دون الحاجة إلى الفهم، وأننا يجب أن نترك أشياءً في هذه الدنيا لحالها دون نظريات، وندعها تفعل بنا ما تفعل، وهو كلام جميل بالفعل. لكننا ننسى أحيانًا أننا في بحث مستمر عن أنفسنا من خلال بحثنا عما نحب، وعمن نحب، بما في ذلك من موسيقى. وإذا نحينا هذا البحث جانبًا، قد ننحي معه الكثير مما كان ليسعدنا، ويشبعنا، وينشينا، كقدر الملح الذي يسعد كل منا بوجبته، أو نوع الحذاء الذي يجعل كلًا منا مرتاحًا في مشيته، أو درجة السخونة الأمثل لمياه الاستحمام. عندما نترك أنفسنا للتلقي غير المقصود، استهلاكيًا كان أو حسيًا، نجد أن أنفسنا أصبحت كمخزن المخلفات المغبر. لا نفهم ما حاجتنا له، ولا نعرف ما بداخله، فيدلي بثقله على أكتافنا، ويربك تفكيرنا، ويفقدنا وعينا بذاتنا، فنصبح – دون دراية أو سابق إنذار – تعساء.
لن يصلنا الجمال إن لم نبحث عنه، ولن نرى الجمال إن لم نفهم كيف يتجسد. إذًا، كيف نفهم أية ثقافة موسيقية وجمالياتها، كالثقافة الموسيقية العربية على قيد المثال لا الحصر؟
هنا تصبح المقاربة مع اللغة مفيدة، إذ أن ذلك يتم تمامًا كما لو أردنا فهم الثقافة اللغوية، بالاستماع إليها مرارًا وتكرارًا، بتنوّع ملحنيها وآلاتها وألحانها. هل كنتَ لتفهم لغتك الأم لو لم يكن الجميع يحدّثك بها منذ أن ولدت؟ هل كنت لتفرّق بين الفصحى والعامية والمدنية والريفية والانجليزية والفرنسية – حتى وإن كنت لا تتحدثها كلها – لو لم تكن تستمع إلى من يتحدث كلّ منها بشكل تلقائي ومكثف منذ أن ولدت، محاولًا – وبكل ما لديك من فضول – أن تترجم كلماتها إلى معنى؟
نتعرض للكثير من الموسيقى منذ الولادة، بدءًا من أذان الجوامع بمختلف مقاماته، إلى موسيقى الراديو والتلفزيون وما يستمع إليه سائقوا المواصلات العامة بمختلف مركباتهم. نتعرض إلى ما يحبه والدينا وأصدقاؤنا وأبناؤنا، وإلى موسيقى الأفلام والمسلسلات والبرامج والإعلانات، وغيرها الكثير. كلها تخترق أذننا مع سبق الإصرار والترصد، وهي بالتالي جزء أساسي من ثقافتنا، شئنا أم أبينا. ولكن هل نحن واعون لها مثل وعينا لما يحيط بنا من كلام؟ هل نلاحظ كل تلك الألحان التي تتحدث إلينا خلال اليوم الواحد، منفردة كانت أو مصحوبة بالغناء؟
نعم، هي تتحدث. هناك أغان تلصق وتتكرر في رأسنا نعرفها ونعرف من أين أتت. لكن هل لاحظتَ جملة لحنية تتكرر في رأسك بلا هوادة – حتى لو تكونت من مجرد بضعة نغمات – ولم تدرك من أين جاءت؟ قد يكون اللحن قد لصق في رأسك بعد أن سمعتَه في شارة قناة تلفزيونية في المقهى الذي قصدتَه هذا الصباح، أو فاصل محطة إذاعية سمعتَها من سيارةٍ مرت بجانبك، أو حتى نغمة تشغيل الويندوز، أو دندنة بائع الربابة المار بجوار المنزل. يخزنها عقلك، وتصبح جزءًا من ثقافتك ومخزونك الموسيقي. ماذا تعني كل هذه الجمل اللحنية؟ ماذا تقول؟
إذا استمرينا بموازاتنا بين الموسيقى واللغة، وجدنا أنه يمكننا فهم اللحن بالوعي لوجوده أولًا، ثم بالتنبه لتأثيره علينا، والتفكير فيما القصد (الحسي) منه، تمامًا كما استنتجنا معاني لغتنا عندما استمعنا إليها بوعي وتساؤل، قبل أن نفهم ما يقصدونه بقولهم “نعم” أو “معلش“، وقبل أن نفهم أن هذه تعني سؤالًا، وتلك تعبر عن غضب. لن نفهم نفس هذا النوع من المعاني عند سماع الجمل اللحنية، بالطبع، ولكن لو تساءلنا عن معناها بنفس هذا القدر من الفضول، لفهمناها.
من أعراض فهم اللغة اللحنية في الموسيقى العربية، على قيد المثال، أن تنفجر بعبارة “الله” بعد استماعك لقفلة مقام محكمة، أو تغيير مقامي (أي لحني) غير متوقع وشديد الجمال. ليس لأنك تشارك المستمعين هتافهم في تلك اللحظة، بل لأنك – أنت – لم تتمكن من السيطرة على انفعالك، بعد تلقيك الجملة اللحنية. أحد الأعراض الأخرى أن يقشعر بدنك، أو أن تدمع عيناك. ليس هذا مقصورًا على موسيقانا بالطبع، فلكل ثقافة طريقتها في التعبير وفي التلقي، وفي التعبير عن تلقي ما هو جميل فور فهمه، مثل الهِد بانجنج في الروك والميتال، وربما الرقص بمختلف أنواعه. ربما بدأ الرقص عندما انفجر الراقص برقصته فور تلقيه لحنًا، تمامًا كانفجار المنطرب بصيحة “الله“، وبدأ الرقص بالتطور تباعًا لذلك. لكن دعونا نترك الرقص وشأنه، النقطة التي يهمنا أن نركز عليها الآن هي: أن من دلائل الفهم، تمييز الجمال.
أعتقد أن رؤيتنا الحالية لفكرة التصنيف مؤذية. عندما نستمع إلى موسيقى رديئة، لا تعود رداءتها إلى نوعها أو تصنيفها (الجانر)، بل إلى رداءة لحن محدد. وما سيفاجئنا هو أننا بعيدون كل البعد عن فهم أكثر الثقافات القريبة منا، سواء كنا مستمعين أو حتى موسيقيين، فهناك من يحتقر البوب ومن يترفع عن الشعبي ومن يزدري المهرجان ومن يضجره الطرب، وفي سياقٍ أعم، هناك من يتفّه الروك ومن يُشيطن الميتال ومن يربكه الجاز ومن يزعجه التجريب. كلها، باعتقادي، أحكام مسبقة، لا تعبر إلا عن الجهل بالثقافة اللحنية المقصودة، ربما نتيجة الخوف مما هو غير مألوف، أو التكسل عن محاولة فهمه. لنحذر التصنيف إذًا، ولنطلق عنان فضولنا، كي نرى مزيدًا من الجمال.
الغلاف صورة للوحة ثلاثة موسيقيين لـ بيكاسو.