بطل المؤلف ومنبوذه | مانفرِد تشايكوفسكي

كتابةفادي حنّا - September 22, 2019

هناك سيمفونيتَين لـ بيوتر إلييتش تشايكوفسكي لم يدرجهما ضمن أعماله، الأولى هي السيمفونية في سلم مي-بيمول (Symphony in E-flat)، وهي عمل غير مكتمل ألفه بين خامسته وسادسته؛ وسيمفونية مانفرِد (Manfred) مصنف ٥٨، سيمفونيته الوحيدة المكتملة وغير المرقمة. عام ١٨٨٥، وبعد إلحاح شديد من ميلي بالاكيريف مؤلف وموسيقار روسي، أسس مع ريمسكي كورساكوف جماعة من الموسيقيين القوميين الروس عرفت بـ الخمسة الروس العظام، كانت تضم بالاكيريف وكورساكوف وألكسندر بورودين، وسيزار كوي وموسورجسكي.، ابتاع تشايكوفسكي نسخة من قصيدة لورد بايرون مانفرِد، وراح إلى قمم جبال الألب ليؤلف السيمفونية مانفرِد في سلم سي الصغير، مصنف ٥٨، الواقعة بين السيمفونيتين الرابعة والخامسة.

تأتي أهمية إفراد دراسة خاصة تتناول مانفرِد تشايكوفسكي من أجل إلقاء الضوء على واحد من أهم أعمال المؤلف السيمفونية، والأضخم فيما بينها؛ كما أنه، بحسب بعض النقاد، العمل الأكثر رومانتيكية Maes, Francis, A History of Russian Music: From Kamarinskaya to Babi Yar (Berkeley, Los Angeles and London: University of California Press, 2002), 165.، رغم كونه العمل السيمفوني الأكثر غموضًا ومعاناةً من الإهمال. أيضًا، مانفرِد واحدة من سيمفونيات تشايكوفسكي المتأخرة التي تمثل قطيعة في الأسلوبية ونضجًا فنيًا كبيرًا، وهي الفترة التي توّجتها السيمفونية السادسة، الباتيتيك المجيدة. في القسم الرابع من المقال مدخل وجودي نتناول فيه مفقود مانفرِد، حيث تتبدى مشروعية الحديث عن الفقد عند المتلقي، استنادًا إلى فكرة الفقد ودلالاتها، وبيان علاقة مفقود المتلقي بمفقود مانفرِد ابتغاء فهم جديد للعمل؛ نحاول أيضًا فهم السبب وراء تذبذب الآراء والتقييمات حول السيمفونية. 

في حين كان مصير السيمفونية في سلم مي-بيمول غير المكتملة أن تُفكك، وتغدو فيما بعد الحركة الأولى منها كونشرتو البيانو الثالث مصنف ٧٥ للمؤلف، كان مصير مانفرِد أن أصبحت في طيّ النسيان، وظلت عملًا غير معروف بين مستمعي الموسيقى الكلاسيكية، حتى بين أكبر محبي المؤلف.

تُعد مانفرِد السيمفونية البروجرامية الوحيدة لـ تشايكوفسكي، ذات برنامج خاص صرّح به المؤلف، يسبقها أربع سيمفونيات وعدد من الأعمال البروجرامية، ولا يضاهي أي منها مانفرِد من حيث الضخامة. أشهر هذه الأعمال البروجرامية افتتاحية روميو وجولييت، وافتتاحية هاملت، والعاصفة، والقصيد السيمفوني فرانشيسكا دا راميني، وجميعها مستوحى من الأدب: الأول والثاني والثالث من مسرح شكسبير والرابع من كوميديا دانتي الإلهية. كذلك الحال بالنسبة إلى مانفرِد، وهي سيمفونية بروجرامية مستوحاة من قصيدة درامية تحمل الاسم نفسه للشاعر الإنجليزي اللورد بايرون.

عادةً ما ترتكز الموسيقى البروجرامية أو ذات البرنامج، ولاسيما في شكل القصيد السيمفوني، حول موضوع أو عمل فني خارج عن الموسيقى، غالبا ما يكون أدبيًا، مثل متتالية شهرزاد لـ ريمسكي كورساكوف. تتميز الموسيقى البروجرامية عن الموسيقى الخالصة في أن الأخيرة لا تتناول أي موضوع على الإطلاق، ولا تتعمد إثارة صور محددة في الذهن أو أية مشاعر تستند إلى موضوع محدد سلفًا؛ أو على الأقل – بالنسبة لتشايكوفسكي كما سنتبين – لا يُصرّح المؤلف بذلك في حال إذا كان ما يقدمه موسيقى خالصة. أما في حال إذا كانت الموسيقى تميل عكس ذلك، أعني إلى تجسيد موضوع ما وإيصال معنى ومشاعر محددة نسبيًا، تكون بذلك ذات برنامج ويكون موضوعها هو برنامجها. مانفرِد تشايكوفسكي من هذا النوع. تعتبر أعمال الفرنسي هيكتور برليوز والمجري فرانز ليست الرومانسية، وأعمال ريتشارد شتراوس من ما بعد الرومانسية، في شكل السيمفونية البروجرامية والقصيد السيمفوني، علامةً في هذا المنحى الموسيقي. 

لم تكن مانفرِد تشايكوفسكي العمل السيمفوني أو محاولة التأليف الموسيقي الوحيدة أو حتى الأولى لمحاكاة قصيدة بايرون. نظرًا لأن القصيدة يتضافر فيها كثير من العناصر الرومانسية الأدبية كفكرة البطل الفاوستي أو الشيطاني المنبوذ، والمعذب بماضٍ أليم، وحضور مفاهيم كالحب وتوكيد الذات بصفة مركزية، وهي سمات تطبع الأدب الرومانسي في القرن التاسع عشر الذي كان نموذجه الأول فاوست جوته، لهذا كان مانفرِد موضوعًا خصبًا للمعالجة الموسيقية الرومانسية.

نذكر من هذه المحاولات أهمها، مانفرِد شومان مصنف ١١٥، المعروفة بافتتاحيتها، وهي “قصيدة درامية موسيقية” كما أراد روبرت شومان أن يسميها أوصى شومان فرانز ليست الذي قاد العرض الأول لقصيدة شومان الغريبة، أن هذا العمل 'لا ينبغي الإعلان عنه بوصفه أوبرا، ولا عرض غنائي Singspiel أو ميلودراما، ولكن بوصفه قصيدة درامية موسيقية، وبهذا الاسم، سيكون عملًا جديدًا كل الجدة وغير مسبوق.' (Daverio, John. Robert Schumann: Herald of a 'New Poetic Age', 360.)، وهي محاولة رأى تشايكوفسكي آنذاك أنها كافية من جهة التمثيل الموسيقي لقصيدة بايرون حينما عرض عليه بالاكيريف الأمر Letter 2158 to Mily Balakirev, 12/24 November 1882.. لرحمانينوف أيضًا مؤلَف باسم مانفرِد، كتبه في سن صغير (حوالي سبعة عشر عامًا)، من المحتمل تحت تأثير مانفرِد تشايكوفسكي؛ ذلك أن رحمانينوف قد أنجز في سن الثالثة عشر توزيعًا لمانفرِد تشايكوفسكي للبيانو لأربع أيادٍ، لكن فُقِد هذا المؤلَف، أو دمّره رحمانينوف فيما بعد Bertensson, Sergei. and others. “Sergei Rachmaninoff: A Lifetime in Music”, Indiana University Press, 29.. هناك تأمل مانفرِد (Manfred Meditation) لنيتشه، ويعلم كثيرٌ منّا اهتمام نيتشه بالموسيقى واعتبارها في فلسفته وكتاباته، والذي لم يكن مستمعًا حذقًا وحسب، بل كان ناقدًا عنيفًا ومؤلفًا متواضعًا أيضًا. يُعد تأمل مانفرِد إحدى محاولات نيتشه القلائل في التأليف. وصف هانز فون بولوف قائد أوركسترا وعازف بيانو ومؤلف ألماني. واحد من أبرز الموسيقيين في القرن التاسع عشر. عمل نيتشه بأنه بمثابة اغتصاب يوتيربي (ربة الموسيقى عند اليونان)، وأنه يعادل في عالم الموسيقى “الجريمة في عالم الأخلاق.” Bülow's letter to Nietzsche of July 24, 1872: “hat ihre Meditation... den wert eines verbrechens in der moralischen welt.” في الواقع لا تكمن خطورة وجدية هذه المحاولة في مقطوعة نيتشه ذاتها، وهي مؤلَفة للبيانو، بل في اختيار نيتشه للبرنامج في الأساس.

وصف نيتشه محاولة روبرت شومان بأنها “غلطة وسوء فهم يبلغ حد التشويه” Nietzsche, Friedrich. Beyond Good and Evil, p. 245.، وأن ذلك اضطره، بدافع الحنق، إلى وضع مقطوعته للبيانو. معنى هذا أن نيتشه على دراية وفهم مختلف لمانفرِد، بحيث رأى أن تجسيد شومان يعد تزييفًا لحقيقته. تأثّر نيتشه في شبابه بقصائد بايرون ونموذج البطل البايروني، لا سيما مانفرِد، حتى قال أن: “لكل هوة مظلمة في مانفرِد، واحدة تناظرها في أعماق نفسي”؛ وكان مانفرِد أول من وصفه نيتشه بالسوبرمان Nietzsche, Friedrich. Ecce Homo. Cambridge Texts in the History of Philosophy. Eds. Arnold Ridley and Judith Norman. 91.. لا تخلو فكرة السوبرمان والبطل البايروني من عناصر شيطانية-فاوستية، وربما تطلعنا المقاربة بينهما على فهم أوسع لشخص السوبرمان، ومن ثم مانفرِد، بكل آثارهما وتداعياتهما كما تبدّت في سياق الحضارة الغربية.

ما يميز تناول تشايكوفسكي للقصيدة عن المحاولات التي خصصناها بالذكر أن مانفرِد تشايكوفسكي ليست مقطوعة قصيرة مؤلَفة للبيانو، بل سيمفونية ضخمة، وأطول عمل أوركسترالي ألفه تشايكوفسكي طوال حياته؛ يستغرق أداؤها حوالي ساعة كاملة، ويتطلب أوركسترا واسعة. كما أن عمل تشايكوفسكي ليس قصيدًا سيمفونيًا كوراليًا، أو أيًا كان ما يصرّ شومان أن يطلقه على عمله، بل هو عمل محض أوركسترالي، لا يمزج الموسيقى بالأصوات البشرية؛ وهو – عكس مانفرِد شومان – أقرب في تكوينه إلى السيمفونية البروجرامية من القصيد السيمفوني.

ذكرنا آنفًا أن مانفرِد تشايكوفسكي من الأعمال التي قلما تُسمع، وقلما تُعزف في حفلات الأوركسترا، على عكس ما يشتهر به المؤلف من أعمال كبرى مثل باليه بحيرة البجع، وكسّارة البندق، والسيمفونيات الثلاث المصنفات: الرابعة والخامسة والسادسة. حصل ذلك عكس ما أراده المؤلف لها تمامًا، الذي رأى منذ شرع في تأليفها أنها ستكون أعظم ما كتب. كان لتشايكوفسكي، الذي كان حادًا في النقد الذاتي، حدسٌ تنبئيّ عما سيؤول إليه الحال بسيمفونيته هذه، حيث كتب إلى السيدة فون ميك Nadezhda von Meck سيدة أعمال روسية، عُرفت لدعمها الفنون خصوصًا الموسيقى. كانت الداعم الماليّ لتشايكوفسكي وصديقته بالمراسلة، و'ملاكه الحارس' على حد تعبيره. تُعد الرسائل بينهم نظرًا لكمّها أحد المصادر القليلة لمعرفة انطباعات تشايكوفسكي عن أعماله وحياته الخاصة. مرّة: “إن مانفرِد خاصتي ستُعزف مرة أو مرتين ثم ستختفي قرونًا؛ وبمعزل عن حفنة من المختصين، الذين يذهبون إلى الحفلات الأوركسترالية، فلن يعرفها أحد.” Tchaikovsky, Modest. The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, 497. أيضًا، لم يصنفها المؤلف ضمن قائمة أعماله السيمفونية، ما عزز نسيانها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، أعني عدم تصنيفها وترقيمها ضمن الأعمال وبالتالي إهمالها، بل إنها نجت، لحسن الحظ، من الدمار الذي كان سيلحقه مؤلفها بها. بشكلٍ ما، تحولت مانفرِد تشايكوفسكي من “أفضل أعماله السيمفونية” Ibid, 500. إلى عمل “مثير للاشمئزاز، يحتقره من كل قلبه” Ibid, 569.، وأراد تدميرها باستثناء الحركة الأولى Ibid, 569.؛ حتى أنه عرض السيمفونية على الناشر آنذاك بدون مقابل، بحجة أن عملًا كهذا من غير المتوقع أن يجني من ورائه الكثير Ibid, 501.. كان هذا أمرًا كثير الحدوث، أعني أن ينقلب المؤلف على عمل من تأليفه، فكثيرًا ما تبدلت انطباعات تشايكوفسكي حول مؤلفاته طوال حياته تقريبًا؛ ومثلما تذبذب هو نفسه في تقدير قيمة مانفرِد الفنية، انقسم جمهوره والمقربين منه بصدد تقييمها.

ذكر تشايكوفسكي بعض أسباب ذلك التراوح الشديد في تلقي العمل، مثل البنية الغريبة للسيمفونية، كما سنراها في الحركتين الأولى والأخيرة، ما يجعلهما بالنسبة لكثير من المستمعين غامضتَين؛ إضافةً إلى طولها، وأن “تعقيدها وصعوبتها سيحكمان عليها بأن تُلعب مرة كل عشرة أعوام” Ibid, 501.، وأنها عملٌ متطلّب، أي يحتاج أداؤه إلى أوركسترا ضخمة ومهارة عالية من أفراد الأوركسترا. في الواقع، لا يمكن عزو أسباب إهمال مانفرِد تشايكوفسكي والتردد الذي لحق تقديرها إلى المعايير النقدية أو الموضوعية التي تستند إلى الشكل والبناء السيمفوني وحسب، إذ لا يسمح فهم المؤلف – كونه أحد أبرز الرومانسيين المتأخرين – لطبيعة السيمفونية وإعلانه صراحةً تحرره من الصيغة بقيام هذه الحجة للتفسير. لهذا، نحاول في القسم الرابع من هذا المقال تقديم طرح مختلف لفهم مانفرِد يبرر غرابتها وتراوح التقييمات حولها، خلافًا لأعمال المؤلف السيمفونية الأخرى.

يبدو أن مانفرِد تشايكوفسكي تثير حيرة حتى قادة الأوركسترا الكبار، فمثلًا لم يقدها ليونارد برنشتاين ولا مرّة، بل ووصفها بأنها “عبارة عن هراء” “Trash”. Canarina, John. The New York Philharmonic: From Bernstein to Maaze, 304. وأنه لم ولن يقودها أبدًا. بينما مجّدها آخرون، مثل أرتورو توسكانيني الذي وصفها بأنها – بجانب السيمفونية السادسة الباتيتيك – أعظم ما ألفه تشايكوفسكي على الإطلاق Ibid. (لم يمنع هذا الحماس توسكانيني من إدخال تعديلات بارزة على السيمفونية حين قادها). كذلك أثار العمل الحيرة نفسها بالنسبة إلى النقاد، فمثلًا كان سيزار كوي، وهو واحد من الخمسة الروس العظام، شديد النقد لأعمال تشايكوفسكي، لكن على العكس من نقاد آخرين اعتبر كوي مانفرِد أعظم ما ألفه تشايكوفسكي في شكل السيمفونية Cui, César, 'Tchaikovsky's Manfred Symphony.' In Russians on Russian Music, 1880–1917 (Cambridge and New York: Cambridge University Press, 2003), 10.. كما أوضح جون واراك، أحد النقاد المعاصرين، أنه بين جميع أعمال تشايكوفسكي المهملة فإن مانفرِد هو العمل الذي لا يستحق هذا المصير Warrack, John, Tchaikovsky Symphonies and Concertos (Seattle: University of Washington Press, 1969), 191.؛ وبينما يختلف أغلب النقاد على تحديد مكانة مانفرِد وأوجه الشبه بينها وبين سيمفونيات بيرليوز (السيمفونية الخيالية (Fantastique)، وليليو – أو العودة إلى الحياة – التي تعد تكملة للسيمفونية الخيالية، ولعنة فاوست (La damnation de Faust)، وهارولد في إيطاليا (Harold en Italie) – المستوحاة من أسفار أتشايلد هارولد لنفس الشاعر)، وبينها وبين أعمال المجري فرانز ليست (القصيد السيمفوني فاوست وسيمفونية دانتي)؛ إلا أن هؤلاء، في نهاية المطاف، يتفقون فيما بينهم على أن مانفرِد تشايكوفسكي واحدة من أعظم السيمفونيات البروجرامية في القرن التاسع عشر Warrack, John. Tchaikovsky (London: Charles Scribner’s Sons, 1973), 192..

برمجة السيمفونية

تقوم السيمفونية عند تشايكوفسكي على موضوع ما، أي أن على السيمفونية أن تكون بروجرامية في جوهرها؛ وبما أن طبيعة السيمفونية بروجرامية في الأساس، يترتب على ذلك أن حتى ما يمكن أن نصفه من سيمفونياته كموسيقى خالصة لا بد أن يكون بروجراميًا، بحسب تشايكوفسكي نفسه، لكنه يعود ليذكرنا بأن الفارق هنا هو أن السيمفونية إذا بدت خالصة، فإن برنامجها مضمر في العمل، غير معلن به من جانب المؤلف Abraham, Gerald. Music of Tchaikovsky (New York: W.W. Norton & Company, 1945), p27..

يتفق هذا مع أسلوب تشايكوفسكي في التأليف السيمفوني عمومًا، حيث توحي كثيرٌ من سيمفونياته الخالصة ببرنامج ما مخفي، لا سيما في رابعته وسادسته، رغم أنه لم يصرح بذلك حتى للمقربين منه؛ فمثلًا عندما سأله ريمسكي كورساكوف عما إذا كان لهذه الأخيرة برنامج، لم ينكر تشايكوفسكي ذلك، واكتفى بالإشارة إلى أنه لو كان ثمة برنامج فهو لن يفصح عنه Rimsky-Korsakov, My Musical Life, 339.. لهذا السبب ربما تخلّى مؤلفنا عن إكمال السيمفونية في سلم مي-بيمول، المذكورة في مقدمة هذا المقال؛ لأنها فقدت برنامجها المجهول.

في معظم الأحيان، كلّف هذا الاهتمام بالبرنامج تشايكوفسكي التخلي عن البناء الهيكلي الصارم؛ أي أن اهتمامه بمقتضيات المعنى قد جاء على حساب الالتزام بالشكل والبناء التقليدي للسيمفونية. لهذا نراه يضطر إلى إدخال تعديلات بارزة وجوهرية على مستوى البنية والصيغة، لا سيما الصوناتا، الصيغة الأهم بالنسبة للسيمفونية؛ ولتشايكوفسكي، والروس بوجه عام، تاريخ من الشد والجذب مع صيغة الصوناتا، نظرًا لأنها قالب مستورد من أوروبا، ولأن طابع الموسيقى القومية الروسية ينأى عن البناء والتركيب، اللذََين تفرضهما الصيغة.

تفرض السيمفونية البروجرامية على المتلقي اتخاذ مسلك تأويلي محدد، من ثم، تحصر احتمالات التأويل المختلفة للعمل في دائرة أقل رحابةً مما نجده في الموسيقى الخالصة. يحاول البرنامج دائمًا توجيه خيال المستمع نحو مسلك أو مقصد معين. هكذا، كان على السيمفونية البروجرامية اللجوء إلى أساليب أكثر تميزًا وتلونًا، وإلى مؤثرات أكثر واقعية، تكاد ترسم المعنى في صور مرئية، بما تفرضه تحولات البرنامج الدرامية؛ وكان لا بدّ أن يصطدم أي تنويع مزاجي أو درامي للحن بمبادئ وحاجات السيمفونية في شكلها التقليدي. قليلًا ما يتفق البرنامج ومتطلباته وأقسام صيغة الصوناتا وهيكل السيمفونية بشكل تام، لذلك تقترن أسماء كثير من الموسيقيين في عصور ما بعد الكلاسيكية بالتنويعات والتعديلات على صيغة الصوناتا والخروج عن مبادئ السيمفونية التقليدية.

عانى تشايكوفسكي نفسه من ذلك أشد المعاناة، فهو من ناحية يود التوفيق بين ما تعلمه في كونسرفتوار سان بطرسبرج من قواعد شكلية صارمة تعزى إلى المدارس الأوروبية، وبين ما يميز موسيقاه والموسيقى الروسية الرومانسية، من جهة الطابع الميلودي المتحرر نسبيًا من الصيغة؛ خاصةً أن ألحان تشايكوفسكي لها طابع استقلالي، فهي تمثل وحدة بذاتها، كما أن تأثيرات التحولات الإيقاعية عنده تزيينية، مُضافة إلى نسيج لحني مُعَد مسبقًا، حيث تبدو أعماله كما لو كانت عبارة عن ألحانٍ متفرقة وحسب، وليست هذه التحولات الإيقاعية عضوية في نسيج العمل، كما نجد في الموسيقى الألمانية مثلًا. كان تشايكوفسكي، من ناحية أخرى، مترددًا بين أمزجة مختلفة، وهي ظاهرة جلية في أعماله، حتى أكثرها نضجًا. 

كان تشايكوفسكي على دراية تامة بضعف القدرات الوظيفية والتركيبية لألحانه، لذا نراه يحاول أن يعوض ذلك من خلال التوزيع الأوركسترالي الفخم؛ وهو برغم كل شيء كان أستاذًا في التوزيع، يتسم بقدرة عالية على حشد آلات الأوركسترا، ما كان من أسباب شعبيته أصلًا بين المؤلفين الكلاسيكيين. أما ما يحسب لتشايكوفسكي حقًا، ويجعله موسيقارًا عالميًا يتردد اسمه إلى اليوم، هو تقدمه الفني في الشطر الأخير من حياته، حيث تُظهر السيمفونيتان، الخامسة والسادسة، تطورًا هائلًا في ملكات تشايكوفسكي التأليفية. في آخر أعماله، استُبعدت التكرارات الجوفاء ليحل محلها نسيج أكثر عضوية، وازدادت الألحان الأساسية إحكامًا عما قبل.

في تلك الفترة نفسها قدم المؤلف أربعة متتاليات (وهي، بجانب مانفرِد، أكثر أعماله إهمالًا) كانت مشاريع سيمفونيات انتواها تشايكوفسكي، تحوي أشكالًا كلاسيكية، وما قبل كلاسيكية من الروكوكو والباروك، لكن نظرًا إلى طابعيّ الرقصة والخفة اللذَين يميزان هذه الأعمال، بالإضافة إلى بعدها عن البنية المحكمة للسيمفونية، واحتوائها على عدد حركات زائد عما هو متعارف عليه، وضعها تشايكوفسكي تحت مسمى المتتالية، وليس السيمفونية. تعبر هذه الأعمال عن صراع تشايكوفسكي المتأخر مع الشكل. لقد كان الحب الذي كنّه تشايكوفسكي طوال حياته للسيمفونية حبًا أحاديّ الجانب، ولم تبادله السيمفونية هذا الحب إلا في أواخر حياته.

مانفرِد لورد بايرون نموذجًا للبطل البايروني

ألف اللورد بايرون قصيدته مانفرِد عام ١٨١٧، في أوج الرومانسية، واللورد بايرون هو أحد أهم الشعراء الرومانسيين عمومًا. حتى أن البايرونية كانت ترادف الرومانتيكية في بداية القرن التاسع عشر برلين، إيزايا. جذور الرومانتيكية، ١٣٧.. يشير البطل البايروني إلى جملة من الخصائص الوجودية، التي تشترك فيها نماذج الشخصيات الرئيسية في قصائد بايرون. البطل البايروني كنموذج للبطل الرومانسي في أدب القرن التاسع عشر نموذج الإنسان الساعي دومًا إلى الكمال، وهو يرادف الشخص المزاجي، الذي يحيا حياة مضطربة، والمنبوذ من المجتمع، لكن على نحوٍ يبتغيه هو؛ فهو يرى نفسه متفوقًا، ساميًا على كل من هم حوله، وفي عزلته عن الواقع الاجتماعي كناسك، يجد نفسه غريبًا عن العالم:

وكان يعيش على الأرض غريبًا عنها،

 وكأنه روح شارد أُلقيَ بها من عالم آخر. لورد بايرون، أسفار أتشايلد هارولد، ترجمة وتصدير عبد الرحمن بدوي، ص٥.

يحتقر البطل البايروني مجتمعه ولا يقدر على الاندماج فيه، وينطوي على نفسه لواذًا بالوحدة من تفاهات الناس، بيد أن تجنب الناس “ليس معناه بالضرورة كراهيتهم.” المصدر نفسه، ص١٥٧. أيضًا، هو لا يستطيع الاندماج نظرًا لأنه لم يحسم معركته مع نفسه بعد، فهو في صراع مستمر مع ذاته؛ وتستلزم مشاركة الناس على الأقل حل هذا الصراع داخل النفس الواحدة، فنجده يضطر إلى العزلة، وهذا يغنيه، فهي وإن كانت عزلة إلا أنها اجتماع إلى أقصى درجة. يؤنس البطل البايروني نفسه بذاته، وكأنه عالَم مستقل يسير على قدمين؛ وهو روح متوثب، وجدانه نيران لا تهدأ، ويخلط ما بين الخير والشر، ويترفع عنهما في كثير من الأحيان:

الخير، أو الشر، والحياة،

القوى، الأهواء، كل ما أراه في الكائنات حولي، 

كان لي كالمطر للرمال. Good, or evil, life, / Powers, passions, all I see in other beings, / Have been to me as rain unto the sands.

من شأن كل هذا أن يجعل التناقض طابعًا أصيلًا في تكوين البطل البايروني، والذي ينبغي أن يكون ساخطًا على العالم، مرتميًا في الآن نفسه في أحضان الطبيعة. لا بد للبطل الرومانسي عمومًا أن يكون مستغرقًا في الطبيعة. لكن البطل البايروني يحب الطبيعة لا لذاتها، بل على نحو ما يتصورها في مخيلته، وكأن الطبيعة امتدادٌ لنفسه:

الجبال والأمواج والسموات بضعة مني ومن روحي،

كما أني أنا بضعة منها. المصدر نفسه، ص١٦٠.

حتى إذ ضاقت به نفسه، يجد أنه غير قادر على حب هذا الامتداد / الطبيعة:

وأنت، يا أيتها الجبال،

 لِمَ أنتِ جميلة! 

ليس في وسعي أن أحبكْ. “And you, ye Mountains, / Why are ye beautiful? I cannot love ye”. Manfred, Act I, Scene II. 270.

رغم إمكانياته وقواه، وما يمارسه من تأثير وحضور أخّاذ على من هم حوله من الرجال والنساء على السواء، إلا أن البطل البايروني في الواقع ذو حساسية مفرطة، ينتابه، مثلما قلنا، شعور عام بالغربة؛ وهو يتحمل عواقب أفعاله، ويترتب على شعوره الفائق بالمسؤولية إحساس دائم بالذنب من خطايا غامضة تُعزى إلى ماضيه.

لا بد للبطل البايروني أن يكون – مثلما كان لورد بايرون نفسه – رجلًا أرستقراطيًا نبيلًا، يجسد نوع من التمرد الأرستقراطي، أحد الأمور المميزة للحقبة الرومانسية. يختلف التمرد الأرستقراطي عن التمرد الطبقي أو البروليتاري في أن الأرستقراطيين، عكس الفلاحين أو العاملين، يحظون بما يكفل لهم احتياجات الحياة الأساسية من مأكل ومتاع وما إلى ذلك، لكنهم في الآن نفسه غير سعداء بحياتهم، ما يعني أنه لا بد من وجود مسببات أخرى لهذا الاستياء والنفور من العالم.

لعل أكثر ما راعى اهتمام نيتشه في مانفرِد، باعتباره النموذج الأمثل للبطل البايروني الرومانسي، هو وضعه الوجودي. هنا يكمن مفتاح فهم مانفرِد، في القصيدة أو السيمفونية. تبرز هنا أهمية الإشارة إلى التمييز بين الوجودي والرومانسي، وهو اختلاف يرجع إلى نظرة كل منهما إلى نفسه والعالم. بينما يؤكد كلاهما على مقولات الفردية والذاتية، ويتشاركان رؤية كونية، حيث العالم في صميمه فوضويّ وعبثيّ ولا معقول، لا يرضى الرومانسي بتناهيه، وينفتح على قراءة نص العالم بأمل، تاركًا مجالًا للاعتقاد في وجود حال أفضل، ربما لم ولن يصل إليه أبدًا؛ وقد يملي عليه شعوره الداخلي الاعتقاد في ذلك. لكننا نرى لدى الرومانسي حضورًا عامًا لهذه الإمكانية، وإن كان هذا الأمل متواريًا عند أكثر الرومانسيين تشاؤمية؛ بينما يسلم الوجودي، في غالب الأمر، بمقولة أن العالم في كليته مثيرٌ للغثيان، وأن “كل موجود يولد بغير سبب، ويستمر بدافع الضعف، ويموت بالصدفة.” Sartre, Jean-Paul. Nausea. Trans. Lloyd Alexander. New York: New Directions Publishing, 1964, 133.

مانفرِد موجودٌ مغترب، يعاني فقدًا ما، في مشاق دائم مع نفسه، يحاول دائمًا تجاوز نفسه والواقع، ويأبى طلب العون من قوى تفوق الطبيعة، إذا حاولت هذه القوى أن تتملكه أو تخضعه لسلطانها، كما أنه يرفض الحل الديني السهل بوصفه ملجأ الضعفاء؛ إذ لم يقدّم الدين أي مساهمة حقيقية في قهر الاكتئاب، أو دفع الاغتراب. في خضم معركته مع نفسه، يقاوم مانفرِد بنبل وإصرار وبكل ما أوتي من قوة ما يفرض عليه من قوى خارجية حتى النزع الأخير – وهو ما نجح تشايكوفسكي في تمثيله بدرجة عالية. على أنه إذا كان مانفرِد تشايكوفسكي يستند إلى مانفرِد بايرون، فإن فهم السيمفونية لا يقتصر على جانب معرفي يتمثل في مجرد الاطلاع والإلمام بالقصيدة، أو معرفة خصال البطل البايروني، والإلمام برومانسية القرن التاسع عشر كما تبدت في الموسيقى والأدب. هذه كلها جوانب ثانوية، لأنه ينبغي النظر إلى الموسيقى على أنها عالم قائم بذاته. لطالما كانت الموسيقى تتجاوز مجرد السرد وكلمات الأدب بما تمتاز به من سعة تأويلية فائقة تفوق أي لغة وأي لون من الفنون. لا يغير مجرد الدراية بالشعر الإنجليزي أو التعرف على لورد بايرون وقصائده – أو حتى الدراية بوجوده من عدمه – من واقعية واستقلال العمل الموسيقي. بإيجاز شديد، يمكن فهم العمل بمعزل عن القصيدة. في الواقع، بتطلب فهم السيمفونية، كما سنرى، ما هو أقل من خلفية معرفية تتمثل في الإلمام بسياق القصيدة، وأيضًا ما هو أكثر من مجرد الاستماع.

مفقود مانفرِد انظر الموسيقى كفلسفة في التاريخ والكينونة، مقال: زَمَنُ الموسيقَى ومكانُها | مقدمة في فلسفة الموسيقى.

لا يخرج الحديث عن الفقد – كما ذهب إلى ذلك كريم الصياد – ودلالته في سياق أنطولوجيا الفن عن سياق تفسير المنشأ الوجودي للأعمال، وتأويلها، لفهمها فهمًا وجوديًا. ذلك استنادًا إلى أن “وجود الفنان يتأسس في محاولة التغلب على أثر الفقد.” هذا بصدد مفقود الفنان، أما الحديث عن مفقود مانفرِد، وهو عكس ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ليس بحديث عن مفقود البطل البايروني الخيالي الدرامي القابع في قالب أدبي أو موسيقي وحسب، إنه حديث يتجاوز ذلك ليتناول مفقود المتلقي أيضًا، وأعني بالمتلقي هنا المتلقي الإيجابي، بخلاف المتلقي السلبي الذي هو أقرب إلى وعاء فارغ، المتلقي الإيجابي الذي يتوافر لديه الاستعداد والتهيؤ لتأويل العمل.

على أن الفارق بين فقد الفنان كما تناوله كريم الصياد، وفقد المتلقي، هو قدرة الفنان التعبيرية عن هذا الفقد والإحالة إليه خارج النفس، حيث يصبح العمل الفني بمثابة تموضع خارجي لما هو مفقود لدى الفنان، فتشاركه مجموع الذوات من الذين يتوافر لديهم الاستعداد القبلي للفهم؛ أي، وإن بدت العبارة متناقضة، يتوافر لديهم الفقد. بذلك يتحول الفقد إلى تجربة بين-ذاتية، استنادًا إلى أن معنى العمل – أي عمل فني – ليس في العمل ذاته، بحيث يكون دور المتلقي فيه سلبيًا، بل إنه يؤسَس بدوره في المشاركة الإيجابية من جانب المتلقي – وإن كان المتلقي يشارك هنا بفقده، الذي، في هذه الحال، لابد أن يتفق في أحد الأوجه ومفقود مانفرِد كما سنتبينه. من هنا يجدر بنا أن نفهم مانفرِد على مستوى وجودي، بحيث يحيل العمل إلى ذات المستمع، ويتحول المستمع إلى مانفرِد يتشابه هذا المسلك في الفهم، ولو من بعيد، مع نظرية أفلاطون المعروفة في التذكر؛ حيث أن المرء (المستمع في هذه الحالة) وقتما يمر بتجربة جديدة كليًا (الاستماع للسيمفونية، ليكن للمرة الأولى مثلًا) يستحضر بذلك أثر الفقد الذي يعانيه هو بدوره، في فترة ما من فترات حياته، تاركًا لديه استعدادًا وجوديًا وتأهبًا كي، بدون مبالغة، يحيا العمل. يتجاوز الشعور الأعمق بمانفرِد مجرد الاستماع، كما أشرنا في ختام الفقرة السابقة. نتاج الالتقاء والتوافق بين مفقود مانفرِد ومفقوده. هكذا تكون تجربة الاستماع تجربة وجودية أصيلة، ذلك أن “التجربة الحقة هي التي يعي فيها المرء تناهيه.” Gadamer, Hans-Georg. Truth and Method. (Bloosbury publishing: revised second edition 2004), 365. يتخذ هذا التناهي عدة أشكال متدرجًا من شعور التناهي الأعظم الذي هو القلق من الموت. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشعور بالوحدة، وهشاشة العلاقات، فهذه كلها صور معبرة عن التناهي. هكذا، بإمكان مانفرِد أن يساعدنا على فهم أنفسنا أيضًا 'Sich verstehen' - بالمعنى الذي قصده جادامر في الحقيقة والمنهج..

لمّا كنا نتحدث عن صلة المتلقي بوصفه ذات مفردة بمانفرِد، لذلك كان الطرح الوجودي هنا الأنسب. أما إذا كنا نتحدث عن مانفرِد في حال صلته بالغير، فإننا نكون إزاء حال نفسية وليست وجودية.

لا يجد مانفرِد، الرجل النبيل والساحر العظيم، الذي حصّل كل معارف عصره، ذو السلطان على القوى فوق الطبيعية، لا يجد في العالم كله ما يدفع شعوره الداخلي بالخواء. صار مانفرِد الآن عدمًا على ساقين. وُهب مانفرِد قدرة على الحب تفوق كل المخلوقات، لكن من أحبه مانفرِد يومًا ما، ومن كان يشكل المعنى لوجوده، قد ضاع. فقد مانفرِد حبيبته أستارتي إلى الأبد – فقدها لسبب ما يظل مجهولًا طوال القصيدة، لكن فيما يبدو قد اقترف مانفرِد خطأً ما أدى إلى فقدانه حبيبته. يُرغم ضياع أستارتي مانفرِد على مساءلة وجوده من حيث طبيعته ومغزاه، ويجعله كذلك في مواجهة عبثية الوجود ولا معقوليته، كما يترتب على شعوره الذاتي بالمسؤولية إحساس بالذنب، يفوق كل وصف، وكأنه قد حُكم عليه بالموت.

لا يحاول مانفرِد استعادة هذا المفقود. هو مدرك تمامًا أنه لا سبيل إلى استعادة أستارتي، وذكرياتهما معًا وحياتهما القديمة، بل إنه على مصالحة تامة مع الصيرورة، وكل ما يصبو إليه هو عفو أستارتي عنه، والنسيان؛ نسيان ذكرى أستارتي المفقودة، ظنًا منه أن خلاصه يكمن في هذين الأمرين. في سبيل التغلب على الفقد يُقبل مانفرِد على المعرفة بفضولٍ ونهمٍ عظيمين، ويصل في النهاية إلى نتيجة سوداوية:

على الأسى أن يكون مرشدًا للحكيم؛

الحزن هو المعرفة: هؤلاء الذين يعرفون أكثر،

هم أشد ألمًا في حضرة الحقيقة المروّعة،

إن شجرة المعرفة ليست هي شجرة الحياة. “But grief should be the instructor of the wise; / Sorrow is knowledge: they who know the most / Must mourn the deepest o'er the fatal truth, / The Tree of Knowledge is not that of Life.”

يكتشف مانفرِد أن سعيه الدائم وراء المعرفة وأن امتلاكه “الفلسفة والعلوم، وينابيع العجائب، وكل حكمة العالم” Philosophy and science, and the springs / Of wonder, and the wisdom of the world. بلا طائل. لا تقدر هذه كلها أن تجلب له السعادة، أن تعوضه غياب أستارتي. يلجأ مانفرِد إلى معارفه ومواهبه السحرية والقوى الخارقة للطبيعة، لكنه يكتشف خلال هذه الرحلة أنه ليس لهذه القوى سلطان على مملكة الحرية، أو العقل، ميدان معركته مع ذاته، وأنها بلا أي سلطان على التاريخ أو الماضي، اللهم إلا إذا كان سيخضع لها بالكامل، بينما يجعله إيمانه العظيم واعتداده الكامل بذاته يرفض الرضوخ لأية قوة كانت:

إن الأرواح التي استدعيتها خذلتني،

والتعاويذ التي درستها خدعتني،

ودوائي الذي لطالما سعيت نحوه عذبني،

وإنّي لا أتكئ بعد على عونٍ من قوى تفوق الإنسان،

إنها لا تملك سلطانًا على الماضي،

ولا على مستقبلي، كي تواري ماضيّ في الظلام.” 'The spirits I have raised abandon me, / The spells which I have studied baffled me, / The remedy I reck'd of tortured me; / I lean no more on super-human aid, / It hath no power upon the past, and for / The future, till the past be gulf'd in darkness.'

لا يقدر مانفرِد وإن كان نموذجًا للسوبرمان أن يتجاوز التاريخ، فإننا “لا ننسى أبدًا ما نوّد نسيانه” 'Man vergisst nicht, wenn man vergessen will'. See: Nietzsche, Friedrich. Morgenröthe, 159.، هذه حقيقة على لسان نيتشه. لو كان بمقدور الإنسان الأعلى النسيان، لما كان إنسانًا أعلى. يحاول مانفرِد في تطلعه إلى النسيان أن يفنِي ذاته بشتى الطرق، إما في العالم المادي ونزواته، وإما باختيار الموت؛ لكنه بوصفه موجودًا ملعونًا، على طريقة فاوست جوته، يحرمه القدر من خلاصه الأبدي، الذي هو الموت. يظهر مانفرِد وكأنه عاجز حتى عن الانتحار. حتى إذا حاول الانغماس في العالم، رغم صعوبة ذلك كما أشرنا، فإنه لا يجد أحدًا يستطيع تعويضه عن أثر فقدان أستارتي. ذلك أنه لما كان العالم كله امتدادًا له، صار مسرحًا يتجلى فيه كل ما يدور بداخله من صراع:

أخذتُ أجول الأرضَ،

ولم أجد قط إحداهن تشبهك. “I have wander'd o'er the earth, And never found thy likeness.”

كانت أستارتي هي الآخر الوحيد، الذي تمنى مانفرِد أن يحيا بجواره، ومرآة لنفسه، وشبيهته التي تراودها “أفكار العزلة والترحال نفسها” She had the same lone thoughts and wanderings, / The quest of hidden knowledge, and a mind / To comprehend the universe.، ولديها “عقل يود الفهم، ويسعى وراء المعرفة.” كانت أستارتي ذلك الآخر وقد قُضي عليه، بأفعال مانفرِد الغامضة، وبالتالي لم يتبق في عالمه سوى ذاته، وما بها من تناقضات.

لما كان الفقد ظاهرة عامة بيننا جميعًا، بحسب هذا المنظور، إلا أنه يتصف بالتدرج والاختلاف من ناحية الشدة والنوع، فإنه يلزم عن ذلك أن فهم مانفرِد يقتصر على هؤلاء ممن هم أقل مقاومة، ويتوافر لديهم التهيؤ أو الاستعداد – للفقد – الذي تحدثنا عنه. هنا تكمن غرابة مانفرِد تشايكوفسكي وغموضه، والسبب الأساسي في الانقسام حول قيمة العمل؛ فهو لا يمس ولا يخاطب إلا فئة معينة تفهمه. ينبغي النظر إلى هذا الأمر على اعتباره مجرد أمر عارض، لا يعني امتياز هذه الفئة المعينة حصرًا ودونًا عن غيرها مثلًا، فهذا حكم قيمة. تختلف تجربة الفقد فيما بيننا حتى يمكن القول أن بين من عاشوها اختلافًا في الدرجة التي يكونون بها مانفرِد بحق. تجربة لابد أن تشايكوفسكي نفسه قد عاينها في طور إبداع العمل يشكو تشايكوفسكي في رسالة للسيدة فون ميك من صعوبات تأليف مانفرِد، ويقول: 'إنني في حالة عقلية متجهمة طوال الوقت حاليا. إن مانفرِد ذات طبيعة مأساوية عميقة، كما أنها سيمفونية شديدة الصعوبة والتعقيد، حتى أني قد تحولت بعض الوقت إلى مانفرِد.' انظر: Tchaikovsky, Modest. The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, 487. ختامًا، إن معايشة تجربة مانفرِد على المستوى الوجودي في طور التلقي شرطه أن يكون المؤلف قد مر بتجربة الفقد أساسًا، ذلك حتى يكون قادرًا على التعبير عنه على النحو المناسب ثم سكبه في الموسيقى.

مانفرِد تشايكوفسكي نعرض قبل كل حركة البرنامج كما وضعه تشايكوفسكي.

الحركة الأولى

في التقليد السيمفوني شكلًا، غالبًا ما تأتي الحركة الأولى من السيمفونية، في صيغة الصوناتا. ذكرنا آنفًا أن هذه الحركة ليست في تلك الصيغة، ما يجعل تشريحها أصعب. لكن عمومًا يمكن تقسيم الحركة الأولى من حيث الشكل، الذي يعد من إبداع تشايكوفسكي بالكامل، إلى خمسة أقسام / لوحات، يفصل بين كل منها وما يليه فاصل صامت. بذلك تصبح الحركة الأولى من حيث الشكل مؤلَّفة من خمسة أقسام، وأربعة فواصل. 

البرنامج: “يجول مانفرِد جبال الألب. تؤرقه أسئلة الوجود المشؤومة، معذبًا بشوق لا أمل فيه، وبذكرى خطايا الماضي. يعاني من فقد روحي مروع. لقد انكب مانفرِد وانصاع وراء العلوم الغيبية، وأوامر القوى العليا الظلامية، لكن ولا حتى هذه القوى، ولا أي شيء آخر في العالم بمقدوره أن يمنحه أكثر ما يصبو إليه: النسيان؛ أن ينسى ذكرى أستارتي، حبيبته المفقودة، ذكرى تثقل قلبه، ولا يوجد ما يضع حدًّا أو نهاية لمعاناته.”

استعمل هنا تشايكوفسكي اللحن الدال (اللايتموتيف leitmotiv) أو الفكرة الثابتة (l’idée fixe)، وهي تقنية كثيرًا ما استخدمها فاجنر وبرليوز؛ ما يجعل مانفرِد تتشابه مع بعض أعمال القرن التاسع عشر البروجرامية، على رأسها سيمفونية برليوز الخيالية. اللايتموتيف هو حضور لحن أساسي في العمل، بحيث يرمز إلى شخص، أو موضوع أساسي بالنسبة للعمل البروجرامي؛ حيث تصبح التنويعات على هذا اللحن بمثابة تحولات درامية، أو تقلبات مزاجية تَحدث للمدلول / ما يشير إليه اللحن.

تبدأ الحركة بعبارة مظلمة متجهمة يلقيها الباصون والباص كلارينيت، تتبعها نبضات من الفيولا والتشيلّو، تجسّد اللحن الدّال أو تيمة شخص مانفرِد في العمل. معنى هذا أنها التيمة الأهم، إذ إننا سنسمعها طوال السيمفونية، وتتخلل جميع الحركات. إنها تيمة تعكس – فيما تعكس – روح مانفرِد المعذب، وشعوره بالضياع والذنب الذي يعتريه. لا تخلو التيمة رغم ذلك من كبرياء أو صمود. تتناول أجزاء من الأوركسترا اللحن لتطوره، حتى يصل إلى الوتريات. هذا هو القسم الأول، وينتهي في لحظة شبيهة بالذروة، ويليه صمت. تعاد بعد ذلك تيمة مانفرِد، والقسم الأول كله مرة أخرى، متبوعًا هذه المرة بالقسم الثاني.

يتطور القسم الثاني بتسارع (crescendo) الوتريات وسط همسات تصدرها الهوائيات الخشبية؛ ومع بزوغ النحاسيات، في مشهد مجيد، نسمع التيمة بشكل واضح هذه المرة، حيث تشارك الأوركسترا كلها في أدائها، موحية بتفاقم أزمة مانفرِد. كل شيء بالنسبة إلى مانفرِد لا يسير على ما يرام، ولا توجد أية أسباب حتى الآن. فور وصول التيمة إلى أوجها تدخل الوتريات في حالة هيستيرية وكأنها تخلق دوّامات، ثم تتباطأ، وتهدأ أجواء مانفرِد النفسية، ويسود صمت، ليبدأ القسم الثالث. 

يبدو مانفرِد في القسم الثالث هادئًا عما قبل، متملكًا لذاته، حتى وإن بدا ضجرًا. يحاول مانفرِد وقد هدأ التفكيرَ بشكل أكثر ركوزًا عما آل به إلى هذا الوضع. تبدأ فجأة تيمة نوستالجية جميلة ويعود بنا الهورن إلى الماضي، داخل ذكريات مانفرِد وخباياها. يبدأ الكلارينيت، بمعاونة الباصون، في سرد قصة يبدو أنها حزينة، وكأنه يتشاكى شيئًا ما، أو على وشك أن يفصح بأمر ما، وسط رجفات تصدرها الوتريات. يدخل الفلوت ليرد عليه، ربما للمواساة، أو لتعميق الجرح. يتفاقم الوضع مع الوتريات ثم النحاسيات والطبول، إلى أن يصل إلى ما يشبه السدّ. بينما تحاول الأبوا ما يشبه التسلل إلى أعماق مانفرٍد لفهم ما يحدث. إننا في سبيلنا إلى معرفة ما يضمره مانفرٍد ويخفيه، لكن تحول ميكانيزمات دفاعه النفسي دون البوح بالأمر. إلا أنها لن تصمد كثيرًا. وسط هذه الحال المربكة، تنهار كافة دفاعات مانفرِد، وها هو الآن يفصح عن السر.

في القسم الرابع، ها نحن، ولأول مرة، نتعرف على أستارتي. تبدأ الوتريات عزف تيمة جديدة هي اللحن الأساسي لأستارتي، لحن نوستالجي جميل مليء بالعاطفة، يوحي بذكرى جميلة لكن مشوبة بالأحزان. تلتهم الذكرى قلب مانفرِد التهامًا. تبدأ آلات النفخ الخشبية في تذكير مانفرِد بكل ما يتعلق بحبه المفقود، كذلك بشعوره العميق بالذنب. ينفرد صولو الباص كلارينيت بتيمة أستارتي. يدور ما يشبه المحادثة، بين صولو الباص كلارينيت والفلوت، تتخللها الوتريات، عن كيف أنه لا يزال محتفظًا بكل لحظة كانت بجوارها، ثم نصل إلى نبضات الهارب السماوية التي تبدد كل ذلك. بمجرد أن يخفت الهارب، تطلق الوتريات اللحن مستدعية أستارتي مرة أخرى في جو درامي مفعم بالعاطفة والشجن هذه المرة. ثم تتلاشى أستارتي شيئًا فشيئًا.

هذه هي الكودا، القسم الأخير من الحركة. يعصف الغضب بمانفرِد بالكامل هذه المرة، كأنه يتمزق من الداخل. تعزف الأوركسترا كلها تيمة مانفرِد في مشهد يسوده اضطراب وحنق عظيمين. تعود دوامات الوتريات، ونسمع في ختام الحركة تيمة مانفرِد الأساسية فيما يشبه الوعيد. ثم إلى موتيفة القدر، تأتي وكأنها تسدد ضرباتها الأخيرة في قلب مانفرِد، معلنةً أيضًا ختام الحركة الأولى في سلم سي الصغير.

الحركة الثانية

رقصة في قالب الاسكرتسو، تخفف من تفاقم الصراع النفسي للحركة الأولى، وتشبه موسيقى الفالسات ورقصات الباليه التي ألفها تشايكوفسكي؛ وهي حركة في البناء التقليدي للفالس: سريع – هادئ – سريع. لم يحتج المؤلف إلى إدخال تغييرات ظاهرة في شكل الرقصة لحساب الوحدة الدرامية، واكتفى بالشكل المعروف، مضيفًا تذييلًا في نهاية الحركة يشبه الكودا. من الملاحظ أن قسمي العرض وإعادة العرض في هذه الحركة يخلوان من اللحن، ويتضح هذا أكثر في التريو، القسم الأوسط من الحركة، عندما نجد أنفسنا إزاء لحنٍ فعلًا.

البرنامج: “ظهور جنية جبال الألب أمام مانفرِد عبر جدول مياه.”

تبدأ الرقصة بهمسات تصدرها الوتريات والخشبيات، حيث تغمز أو تنقر الوتريات بالأصابع على طريقة رقصات تشايكوفسكي المعهودة، صعودًا ونزولًا، دون أن تكوّن بذلك لحنًا. كأن هذه الهمسات في طلوعها ونزولها تمثل الصورة المتدفقة لجدول المياه، وصورة رذاذه على الصخر، كما هو منصوص في البرنامج. هذا هو التفسير الخارجي (macrocosm) بحسب ظاهر البرنامج. أو لعلها تجسُّد لتدفق آنات الوعي ولحظات الشعور داخل مانفرِد، وهو يبحث بداخله عن حل. هذا تفسير داخلي (microcosm). على أية حال فإن هذا الدفق مستمر حتى يتباطأ، ويتوقف الشلال، أو تتوقف لحظات التفكير، ثم يبدأ التريو.

ينسل من الكمان لحن عذب بديع، هو لحن التريو، تتخلله ضربات من الهارب. يحمل الكلارينيت اللحن بعد ذلك ويكرره. يعود الكمان متصدرًا المشهد مرة أخرى، لكن هذه المرة بعبارة لحنية مغايرة، راقصة وتبدو نسخة شبيهة أو مشتقة باحترافية عن لحن التريو الأول، يكررها الفلوت. ثم تلعب الأوركسترا بالكامل اللحن في رقة وبهاء. ثم نلمح طيف مانفرِد، اللحن الأساسي من الحركة الأولى، يمر مرور طيفي عابر في تريو هذه الحركة، ويبدو هادئًا بل أقرب إلى ما يكون حالمًا. يُعاد لحن التريو الأساسي بانفعال هذه المرة، ويظهر مانفرِد مرة أخرى على نحوٍ مباغت وهو يصب جامّ غضبه على جنية الألب، رافضًا الخضوع لها. ينتهي التريو ويبدأ إعادة عرض. 

قبل نهاية الحركة يصوّر صولو الأبوا مانفرِد وهو، على عكس ما بدا في التريو، وحيدًا تمامًا، تائهًا، وربما يعي الآن، وعلى أتم اليقين، حقيقة أن أحدًا أو شيئًا لا يستطيع أن يخلصه من نفسه. ما نفرِد في سبيله إلى التسليم بالموت، مصيره المحتوم. ينفرد صولو الكمان ليختم الحركة.

الحركة الثالثة

البرنامج: “باستورالية، تصوّر الحياة البسيطة الحرة الهادئة لقاطني الجبال.”

هنا الحركة متهادية في مجملها، مقارنةً بأول حركتين، كما أنها بمثابة تجهيز المستمع لصخب وجهامة الحركة الأخيرة، الآليجرو. يبدو اللحن الأساسي فيها كما لو أنه وصف لمشهد جميل، هو في الواقع بحسب البرنامج، مشهد طبيعي ريفي ووصف لحياة سكّان جبال الألب. وسط هذه السكينة، يطلق الهورن ثلاث صيحات، وكأن أحدهم يجول فوق قمم الألب باحثًا عن شيء ما – بالاتساق مع بايرون فإن نداءات الهورن الثلاث هي نداءات صائد الشامواه في القصيدة. يظهر مانفرِد في منتصف الحركة تقريبًا في تحول درامي مفاجئ، تلحقه ضربات تشبه أجراس الكنيسة (ربما تجسيدًا لمحاورة مانفرِد، في القصيدة، مع صائد الشامواه حول أن الدين هو المنجاة الحقيقية للوضع الإنساني، حيث عبّر مانفرِد عن رفضه تمامًا تصورات صائد الشامواه، ووصفها بالبلادة والدناءة) لا تدوم سوى بضع ثوان، لتعود أجواء الحركة الباستورالية المتهادية كما كانت مرة أخرى، كما تظهر الشمس بعد انقضاء عاصفة، استعدادًا للحركة الأخيرة.

الحركة الرابعة

أطول حركات العمل، وأكثرها عنفًا وصخبًا ودرامية. تدور أحداث الحركة داخل قصر أهرمان (إله الشر في الزرادشتية) – حيث يعتبر استحضار عناصر من الديانات والأساطير الشرقية سمة تميز الفلسفة والأدب في الحقبة الرومانسية – ويوازي أهرمان في قصيدة بايرون شخصية مِفيستو (الشيطان) في فاوست جوته. إن الاحتفالات الديونيسية (وهي احتفالات ماجنة تضم طقوس جنسية تقدم لباخوس، إله الخمر عند اليونان) كشكل من أشكال الإقبال على الحياة وتوكيدها، جزء من طبيعة مانفرِد الفاسدة، وهي جزء من ذاته يحتقره أشدّ الاحتقار. يظهر مانفرِد وسط الحضور في الحفل كأنه مدفوع أو تسوقه اضطرارية ما.

البرنامج: “احتفال شيطاني. يظهر مانفرِد وسط حفلة باخوسية. استدعاء وظهور روح أستارتي، التي تعفو عنه وتسامحه. ثم موت مانفرِد.”

يصور الجزء الأول من الحركة حفل ديونسيّ داخل قصر أهرمان. يدرك الحشد وجود غريب دخيل، هو إنسان فاني، وليس روحٌ شرير. هكذا يلتفت الجميع إلى مانفرِد. يعرّف مانفرِد نفسه بلحنه الثاني. ثم ينشب جدال بين أتباع أهرمان – على هيئة فوجة – حول مغزى حضور مانفرِد المفاجئ وسطهم، ويحتدم، إلى أن يعلن مانفرِد تحديه سلطة أهرمان على الأموات لكي يستحضر روح أستارتي؛ وبعد مشاورة بين الحضور وبعضهم، يأذن أهرمان بذلك. تظهر أستارتي، للمرة الثانية والأخيرة، بتنويع أوركسترالي واختلاف طفيف في المادة اللحنية. تعفو أستارتي عن مانفرِد، وتخبره بأن عذابه، أي حياته، على وشك الانتهاء. لا يرضى مانفرِد بهذا الجواب، ثم يظهر مرة أخيرة بوجوم الحركة الأولى. يخبرنا مانفرِد في النهاية أنه “ليس من الصعب على المرء أن يموت” Manfred: “Old man! 't is not so difficult to die”. 411. ويلفظ صمته الأخير. يعلن الأرجن النهاية. لقد أُعتق مانفرِد أخيرًا، وها هو يموت “مثلما عاش … وحيدًا.” Manfred: “I'll die as I have lived-- alone”. 350.