نارٌ مقدّسة على مذبح الجاز | مايلز دايفس

ترجمة عن نصّ بالفرنسيّة نشر في المجلّة الإلكترونيّة قانون اللّعبة (La règle du Jeu) لعازفة الجيتار الفرنسيّة آن فرانسوا.


منذ سبع وعشرون سنة، تحديدًا يوم ٢٨ أيلول / سبتمبر ١٩٩١، توفيّ الملحّن وعازف الترومبيت الأمريكيّ. لم يتوقّف، طوال حياته، عن ثَثْوِيرْ عَالِمْ الجاز إلى أن أصبح واحدًا من أهم أعلامه.

“أوّل شيء أتذكّره من طفولتي شعلة، شعلةٌ زرقاء منبعثة من موقد أشعله أحدهم.” هكذا يفتتحُ مايلز دايفس الفصل الأول في سيرته الذّاتية التي كتبها بالتّعاون مع كوينسِي تروب صحفي، شاعر وكاتب أمريكي. سنة ١٩٨٩. “هذا الخوف كان كالتّحدّي، دعوة للمضيّ قدُمًا باتّجاه أمرٍ أجهله.” تلخّص القصّة بطريقة غريبة حياة هذه الشخصيّة الخارجة عن المألوف.

ولد في ٢٦ أيار / مايو ١٩٢٦ في آلتون، إيلنوي، لعائلة بورجوازيّة أفرو-أمريكيّة، وقضى طفولته في شرق سانت لويس. والده طبيب أسنان، جدّه محاسب، والعائلة بأكملها من الأعيان. لم تكن التصرّفات التي تهدف إلى إثارة إعجاب البيض من  عادات المنزل، خاصّة في زمنٍ شهد بداية تنامي الحقد العنصريّ، كما هو الحال في عام ١٩١٧ حيثُ كان يُشنَقُ السّود على أعمدة الإنارة في الشّوارع. يمكن فهم الكرامة عند آل دايفس عبر تلك العبارة الشّهيرة التي راجت لاحقًا على لسان الكاتب جايمس بالدوينْ – الذي أصبح صديق مايلز: “أنا لستُ زنجيّكَ.”

منذ سنّ الثالثة عشرة، تعلّم عازف الترومبيت الشاب تفاصيل فنّه في سانت لويس، المدينة التي طوّر فيها أداءه من خلال انضمامه إلى العديد من المجموعات، ما مكّنه من اكتساب شهرة محليّة. لكن سنة ١٩٤٤ هي التي شهدت حدثًا غيّر مسار حياته، حين افتتحت الفرقة الكبيرة للمغنّي بيلي إكستين حفلًا في ريفيرا كلوب، لعزف الموسيقى التي أحدثت ثورة في عالم الجاز: البيبوب. دُعي دايفس يومها ليؤدي إلى جانبهم لأن عازف الترومبيت بَدي أندرسون كان مريضًا.

لم يكن دايفس في تلك اللحظة محاطًا بأشخاصٍ عاديّين: ديزي جيليبسي على الترومبيت وتشارلي “بيرد” باركر على الساكسوفون – روّاد البيبوب. خلق الاستماع إلى هذين العملاقين عند مايلز دايفس ما وصفه لاحقًا بـ: “أكبر إحساسٍ يغمرني في حياتي كلّها.” عندها، باتت مسألة السّفر إلى نيويورك ومقابلتهم هاجسه الوحيد. وافق والده على إدخاله المدرسة النيويوركيّة المرموقة جويليار لتعلّم الموسيقى الكلاسيكيّة. كلّ ليلة، كان مايلزْ يقضّي وقته في البحث عن العازفَين الثوريَّين في هارلم أو نوادي الجادّة ٥٢. التقى مجددًا بـ ديزي لكن كان من الصعب العثور على بيرد، لأنّ هذا الأخير نفسه، رغم موهبته، لا يعرف وجهته القادمة. يتدفّق الهيروئين في هذه النوادي ولا يمتنع بيرد عن أيّ شيء. لحظة العثور على تشارلي باركر، دخل مايلز في هذه المجموعة المبدعة وبدأ اسمه يتردّد في حركة البيبوب منذ خريف ١٩٤٥.

في وقت قصير، أصبح الشّاب المولع بفنّه يطالب بالمزيد، يحتاج إلى أسلوب وصوت خاصّ به. وصل إلى ما يسمّيه باشلار فيلسوف فرنسي (١٨٨٤ - ١٩٦٢).: عقدة بروميثيوس – أراد مايلز أن يسرق شعلة أساتذته. طمح إلى مجاراتهم أو حتّى تجاوزهم. في ١٩٤٨، كوّن مجموعة من تسعة عازفين واختار عازف الساكسوفون الأبيض لي كونيتز، الذي تُناقض خفّة أدائه الصَّوت التقليديّ للبيبوب. خلق مايلزْ عالمًا من أكثر النوتات الموسيقيّة سهولةً للحفظ. كانت تلك ولادة الـ كوول جاز. سجّل، سنة ١٩٤٩، ألبومه المهم برث أُف ذ كوول، الذي لم يوزّع إلاّ بعد سنوات. في ١٩٥٦، كوّن أوّل خماسي جاز خاص به، مع جون كولتراين على الساكسوفون، بول تشامبرز على الكونترباص، فيلي جو على الدرامز ورِد جارلند على البيانو. المجموعة خرافيّة، كل عازف بمثابة إله. بدأت بذلك الأعمال الناجحة تتوالى عبر تسجيلات كولومبيا وبرِستيج، مطلقةً حقبة الهارد بوب. 

لم يكتفِ مايلز بما حققه، وبدأ بالعمل على تطويع موسيقاه لتستوعب الإلهامات الإفريقيّة والشرقيّة معًا. في ١٩٥٨، قدّم ألبوم مايلستونز الذي مثّل واحدة من أكبر نجاحات المودال جاز، متعاونًا مع عازف البيانو الجديد جيل إيفانس؛ وأصدر عام ١٩٥٩ ألبوم كايند أُف بلو، حيث انهارت مستويات العزف المعتادة والمعقّدة لتترك مساحة أكبر لحريّة الارتجال. يعتبر العمل إلى اليوم من أشهر ألبومات الجاز على الإطلاق.

فترة النّجاح هي الأخطر بالنِّسبة للعازف. يغري العمل الناجح  بعدم التّجديد، ما يوقع في خطر التكرار. رغم تحوّل مايلز إلى نجم، لم يعبر في ذهنه أن يستقرّ على أسلوبٍ واحد. سنة ١٩٦٣، اكتشف عازف الدرامز الماهر توني ويليامز ذو السبعة عشر عامًا. كان يعمد مايلز إلى اختيار عازفين يصغرونه سنًا مثل عازف البيانو هِربي هانكوك الذي يبلغ ثلاثة وعشرون عامًا.

في أواخر السّتينات، كانت الآلات الكهربائية تسود الموسيقى الرائجة. كانت فترة الحركة من أجل الحقوق المدنيّة، التحركّات ضدّ العنصريّة في الجنوب، اغتيال مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج وبداية تشكّل حزب البلاك بانثرز. أطلق جيمي هندريكس مقطوعته فاير في وودستوك، قبل أن يغيّر النشيد الوطني الأمريكيّ احتجاجًا على الحرب في فييتنام. صارت طائرات الهليكوبتر “هيوي” التي استخدمها الجيش الأمريكي ضدّ جماعات هو شي مين، هدفًا لروك عصريّ بقيادة جيتارات الفِندر. 

دفعت هذه الأجواء الساخنة مايلز إلى التخلَّي عن البدلات الايطاليّة الفاخرة، ليعوّضها بألوان معاصرة تتماشى مع الشباب الثائر. كما أدخل الأورج، البيانو والجيتار الكهربائي على فرقته. انطلق في تجارب روك بدءًا بألبوم إن أ سايلنت واي، بلغت ذروتها في ألبوم بيتشز برو، مقدّمًا أنغامًا لم تُسمع من قبل. أشهرَ نقّاد الجاز، الذين فرشوا له الأرض ورودًا في الماضي، أسلحتهم في وجهه. وصل الناقد ستانلي كروش للقول بأنّ مايلز “الخائن الأبرز في تاريخ الجاز.” كان الأمر كما لو أنّه دمّر معتقداتهم بقنابل النَّابَالم. حتّى أنه يمكن أن نقرأ: “مايلزْ اليوم مستعدّ لبيع نفسه كما كان يتاجر بالنّساء عندما كان مدمنًا.” كان مايلز غير مبال. كلمته الوحيدة التي يتوجّه بها إلى العازفين: “اعْزِفُوا”. في النهاية حقّق بيتش برو نجاحًا ساحقًا لدرجة أنّ المجموعة قدّمت حفلًا في مهرجان الرّوك في جزيرة وايت سنة ١٩٧٠.

عادةً ما تكون ردّة فعل المحافظين متوقَّعة بما أنّهم يظلون ملازمين لعاداتهم وحبيسي ماضيهم. في حين أنّ الجاز موسيقى ارتجال، مرح ومفاجأة، وجد النقّاد أنفسهم وقد تمّ تجاوزهم بالأحداث، وأصبحوا يتصرّفون كالرجعيّين الذين وصفهم ميشال سير كاتب وفيلسوف فرنسي. في كتابه الأخير ذو العنوان التهكّمي: في الماضي كانت الأمور أفضل صدر عن دار هيومنسيس سنة ٢٠١٧.. يذكّرنا الفيلسوف أنّه في الماضي كان هناك ستالين ومعتقلات الجولاج، هتلر وإبادة اليهود، الأمراض وانعدام النظافة. كان يسخر مايلز دايفس من هؤلاء الرجعيين الذين تحدث عنهم سير. قاوم تلك النّزعة الطبيعيّة التي تؤدّي إلى التّحسر على سنّ العشرين، كان يبحث دائمًا عن التّجديد والابداع، ويبقى قريبًا من الشباب القادر على مجاراته. كان يتحدّاهم ويريدهم أن يتحدّوه بدورهم. جوائزه التي حصدها؟ كانت موجودة في خزانة لا يفتحها أبدًا. الأكيد أنّه كان مقتنعًا أنّه لا مستقبل لمن لا يصرّف أفعاله إلاّ في الماضي.

طبعًا، قد يخلق التعجّل في الحياة عدّة مشاكل. في سنة ١٩٧٥، أدت مبالغته في الخوض في العديد من الأمور إلى مرض في خاصرته بالإضافة إلى السّكري، ما أدّى إلى قطع مسيرته لفترة. عاد بحالٍ أضعف سنة ١٩٨١، حيث أحيا العديد من الحفلات، أهمها التي أقيمت في قاعة آفري فيشر يوم ٥ تموز / يوليو.  كان شبيهًا بالأبطال الذين نرى نهايتهم التراجيديّة والحتميّة. من كان يعتقد أنّ العازف في تلك اللحظة، كان ينفخ على جمرٍ ظلَّ مختفيًا تحت رماده، كطائر الفينيق. لم يولد العازف من جديد فحسب، لكن دخل الثَّمانينات وغامر بأصوات أكثر خشونة وحدّة، وقد أُعجبَ بمايكل جاكسون وبرنس. أحاط نفسه بمجموعة جديدة مثل عازف الجيتار ماركوس ميلر صاحب الموهبة الشيطانيّة والشهير لتقنية السلاب في العزف. تتالت الألبومات وأشهرها توتو سنة ١٩٨٦، تيمُّنًا باسم القسّ من إفريقيا الجنوبيّة ديسموند توتو. لقي الألبوم نجاحًا باهرًا وأصبح لمايلز معجبين جدد.

كان في قمّة العطاء بأدائه المبهر والحماسيّ. تحت الأضواء الكاشفة، يظهر، في بعض الأحيان، منحنيًا على آلته الحمراء وهو يحاول تمطيط نوتة والعرق يتصبّب على بشرته السوداء. إنّها اللحظة التي لم يعد مُطَالَبًا فيها بارتداء قناع القسوة. عندما يقوم أحد العازفين، كعازف الساكسوفون كيني جارت، بارتجال مقطع منفرد يضاهي المعجزة الّروحانيّة، أو “النّشوة الروحيّة” بعبارة عازف الجيتار المشهور كارلوس سانتانا عندما سمع مايلز دايفس، يُظهر عازف الترومبيت مزيجًا من الفخر وعدم الاستغراب كما لو أنّه يقول: “هذا اكتشافي.” 

صدر ألبومه الأخير دوو-بوب بعد رحيله بستّة أشهر. أراد أن يجرّب فيه كلّ أساليب وأنواع الهيب هوب. تبدو تلك الحقبة التي بدا فيها الطفل مرعوبًا من نار الموقد بعيدة جدًا، لكن النار التي أوقدها العبقري مايلز دايفس، متقدة حتى بعد سبع وعشرين سنة من رحيله.