ما حققه القصبجي، وطمح إليه عبد الوهاب

“كلنا كنا القصبجي”، كان رد رياض السنباطي حين أشار بليغ حمدي إلى مدى تأثر أغانيه المبكرة بأسلوب محمد القصبجي، لكن في حديثه عن أثر سيد درويش على من جاؤوا من بعده قال: “جميعنا خرجنا من جبة سيد درويش، أنا ومحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد”، مستثنيًا القصبجي. عندما سئل عن ذلك أجاب: “هو حاجة تانية”. يمكن جمع المقولتَين بعبارة: كلنا كنا القصبجي، لأنه حاجة تانية. لم يعنِ السنباطي بذلك تلبُّس الجميع لشخصية القصبجي التأليفيّة، فذلك لم يتقنه إلا هو، لكنه قصد أنه كلما سلك القصبجي طريقًا جديدًا سار وراءه الجميع، ليس لأنه الأكثر شعبيّة، وإنما لأن طُرُقه كانت دائمًا الأنسب للنهوض بالموسيقى وتوسيع مساحات الابتكار.

دخل القصبجي ميدان الموسيقى وفيه كامل الخلعي وداوود حسني المفضّلَان عند عشاق التطريب، وأبو العلا محمد بقصائده وألحانه المحافظة كما يريدها عشاق القصائد، وسيد درويش بطقاطيقه ذات الشعبية الجارفة ورشاقة جمَله اللحنية التي جعلت الناس يحفظونها ويردّدونها دون عناء. في ذلك الوقت كان هناك قالب جديد تائه بين قوالب الأغنية العربية، وهو المونولوج المستورد من الآريا مقطع غنائي أوبرالي لصوت واحد، وهي مناجاةٌ فرديّة عمادها السرد الوجداني الدرامي المتطور على طول الأغنية، بحيث لا تتكرر فيها الكلمات والألحان. هنا، في المونولوج، وجد القصبجي ضالته. قاعدتا السرد وعدم التكرار أطلقتا إبداعه بدل أن تقيداه.

بدأ القصبجي عمله على المونولوج عام ١٩٢٥، في وقت لم تكن أعراف المونولوج قد تثبتت بحيث يصبح المُدخِل عليه أي جديدٍ مارقًا. أدخل القصبجي الكثير، بدءاً بـ خيالك في المنام، مرورًا بـ زارني طيفك، أخدت صوتك من روحي، قلبك غدر بي، يا ريتني كنت النسيم، خلي الدموع دي لعيني، حتى جاء بالحدث الذي جعل عام ١٩٢٨ نقطة بداية لما أصبحَته موسيقى القرن العشرين، وهو إن كنت اسامح وانسى الأسية. جاء هذا المونولوج قفزةً بعد عدة خُطى قام بها القصبجي على طريق تطوير القالب، تضمنت منح الموسيقى دورًا أكبر سواءٌ خلال مصاحبة الغناء أو في المقدمة واللوازم، كما تضمنت تغيير أولويّة صوت المغنّي لتصبح العاطفة سابقة على الطرب. أدخل القصبجي مع مونولوجاته أجواءً رومانسيّة رافقت الأغنية العربية حتى اليوم، وأخذ الصوت إلى أفقٍ لم تُعرف في الغناء العربي قبله: من الأبعاد الدراميّة، إلى تورُّط المطرب فيما يغنيه، تجنيد التطريب في خدمة السرد، وتحقيق الامتزاج الأمثل بين العرض الصوتي الأوبرالي والطربي عبر بضعة تجارب قام بها بدأت بـ زارني طيفك عام ١٩٢٦.

استمر القصبجي بتجاربه على الأصوات النسائيّة حتّى مستهل الأربعينات بحثًا عن سبل تطوير الأداء العربي، وكان صقل صوت أم كلثوم ذروة تلك التجارب. صوتها منح ألحانه وتجاربه فضاءً واسعًا حلقت به حتى حطّت على عرش الغناء العربي. يكفي المرور على أغانيها معه منذ خيالك في المنام مرورًا بـ إن كنت اسامح وانسى الأسية ويا مجد ومنيت شبابي وحتى رق الحبيب للتأكُّد من أنها لم تتقدّم بعده خطوة، بل استقرت في مساحة آمنة نائية عن التحديات. مع القصبجي اتسع صوتها ليشمل حالات انفعاليّة لم تصلها ثانية. حالات أصبح من الصعب معها الجزم إن كان سماع “الله” من الجمهور سببه دخولها قلوبهم أم إعجابهم ببراعتها الأدائيّة.

بعد أن بيعت قرابة ربع مليون نسخة من إن كنت اسامح وانسى الأسية، أصبح المونولوج القالب الأكثر جاذبية، فأقبل عبد الوهاب يُفيد في مونولوجاته وقصائده مما حققه القصبجي. أما سيد التطريب زكريا أحمد، فحاكى أسلوب القصبجي في ياما أمر الفراق، ثم أدخل الغنى اللحني وقلة التكرار على أغصان الطقطوقة التي لطالما كان لها لحنٌ واحد، فقدّم عام ١٩٣١ طقطوقة اللي حبك يا هناه التي كان لكل غصنٍ فيها لحن خاصٌّ به يختلف عن لحن المذهب، ولذلك سُمّيت بالطقطوقة متعددة الأغصان. كانت تُعتبر الطقطوقة الأولى من نوعها حتى صدرت موسوعة أم كلثوم عام ٢٠٠٣ لـ فيكتور سحاب أكاديمي ومؤرخ ونائب رئيس مجلس الموسيقى الدولي، حيث صُنِّفَتْ متنا ف حبك من ألحان القصبجي وأم كلثوم ك طقطوقة متعددة الأغصان. صدرت هذه الطقطوقة عام ١٩٢٨، أي قبل ثلاث سنوات من اللي حبك يا هناه.

لنفترض أن هناك التباسًا في تواريخ الطقطوقتَين السابقتين، وأن رائعة زكريا أحمد سبقت لحن القصبجي، ولنعُد إلى ما لم يختلف عليه لا تاريخُ الموسيقى العربيّة ولا أبرز ملحنيها، وهو أثر إن كنت اسامح وانسى الأسية في الموسيقى العربية، وأثر القصبجي في قالب المونولوج. ما أبرز ما يُميّز مونولوجات مثل زارني طيفك (١٩٢٦) وقلبك غدر بي (١٩٢٦)؟ عدم تكرار المقاطع والألحان، ما جديدُ الطقطوقة متعددة الأغصان كـ اللي حبك يا هناه (١٩٣١)؟ عدم تكرار ألحان الأغصان.

ما جرى مع الطقطوقة متعددة الأغصان جرى مع دخول المقدمة واللوازم كجزء أساسي من اللحن بدل استعمال فواصل بين مقاطع الأغنية لا تزيد عن مساحات لضرب الإيقاع والمقام. فنجد في مقالات سليم سحاب مايسترو الفرقة القومية للموسيقى العربية في دار الأوبرا المصرية ما يؤكد أنه من أهم من قدّروا دور القصبجي في تاريخ الموسيقى العربيّة ودرسوا موسيقاه. لكن لسببٍ ما تلاشى اسم القصبجي وتاريخه من ذاكرته حين تحدث عن تطوّر اللوازم، فاعتبر محمد عبد الوهاب أول من نزع عن اللوازم وظيفة ملء الفراغات بين الجمل المغناة في مونولوج على غصون البان الصادر عام ١٩٢٨، مهمّشاً بذلك روعة ما قدمه القصبجي في اللوازم منذ عام ١٩٢٥ مع مونولوج خيالك في المنام، ومونولوج إن كنت اسامح وانسى الأسية الذي أشاد سليم سحاب نفسه بنضج وتطور لوازمه، وكونها سببًا في أثره التاريخي الكبير. هذا الإصرار على نسب إنجازات كبار الموسيقيين وأبرزهم القصبجي إلى عبد الوهاب يظلمه بقدر ما يظلمهم، فـ عبد الوهاب ليس بحاجة إلى منجزات غيره كي يستحق مكانته التاريخية.

رُبّما كانت ذروة تطور الشكل السردي الدرامي الموسيقي مع اللوازم في عامَي ١٩٣١ و١٩٣٢، مع مونولوجات القصبجي وأم كلثوم الكبيرة مثل طالت ليالي البعاد، خاصمتني، يا غائبًا عن عيوني، يا عشرة الماضي، ياللي انت جنبي، عينيا فيها الدموع وياللي جفاك المنام. أصبح للمقدمة واللوازم الموسيقية دورٌ كما المغني، كأنها جواب الليل لمناجاة أم كلثوم، مؤكّدةً على صفةٍ رئيسيّة في ألحان القصبجي: كل جزء من موسيقى الأغنية فيه خيط من نسيج اللحن يزيد تماسكه ويُضيف للأغنية ككل، لا للجزء الذي يرد فيه فقط. مثالُ ذلك دور اللوازم في البنية اللحنيّة التي أبدعها القصبجي وبدأت تُسيطر على مونولوجات تلك الفترة، والتي تُقسَّم بها الأغنية إلى مشاهد مختلفة المقامات في أغلب الأحيان، يفصل بينها لوازمٌ تُشكّل جسورًا بين مشهدٍ وآخر. أخذ بهذه البنية جميع كبار موسيقيي القرن العشرين العرب.

أن يأخذ موسيقيٌّ عن القصبجي أمرٌ لا يعيبه، فالقصبجي معاصرٌ لسيّد درويش، بدأ حياته الموسيقيّة عام ١٩١٧، أي قبل عامين من بداية زكريّا أحمد، وقبل سبعة أعوام من بداية عبد الوهاب الذي درس العود وتعلم الموسيقى على يد القصبجي لخمس سنوات، وقبل ١٣ عامًا من بداية السنباطي، وهو بذلك يكبرهم جميعهم سنًّا وخبرة. لكن كما ذكرنا، يفضّل كثيرٌ من المؤرخين جعل البداية والنهاية عند عبد الوهاب، مثل القصّة شبه الفلكلورية التي تدّعي أن عبد الوهاب خلّص الغناء العربي من الزخرفة الصوتيّة لصالح التعبير، فيما يؤكد سماع أغلب مونولوجاته ما قبل صدور إن كنت اسامح وانسى الأسية عكس ذلك. كانت مونولوجات عبد الوهاب ميّالة بأغلبِها لأن تكون مواويلاً تعتمد على العرض الصوتي غير المستقى من ضرورة السرد، تصاحبها الفرقة الموسيقية بخجل، بينما نجد أن تجارب القصبجي مع صوت أم كلثوم منذ أولى تعاوناتهما قد أثمرت ثورةً في تقديم التعبير على الزخرفة/الاستعراض.

صحيحٌ أنه لا يمكنك إلا أن تطرب عند سماع استعراضات عبد الوهاب الصوتية التي أسّست مدرسةً في الغناء، لكن المشكلة تكمن في التوقيت والشكل والغاية. بدأت هذه الاستعراضات عند عبد الوهاب غناءً ولحنًا واستمرّت في ألحانه فقط بعد تراجع قدراته الصوتية، مما أضر بخياله الموسيقي الخصب. نجد في الكثير من مآثره أن الأغنية عبارة عن مجموعة من التجارب تعلن كلٌّ منها بدايتها ونهايتها، تاركةً إحساسًا بعدم التجانس والإشباع، كالعرض الصوتي الدخيل بوضوح في كلمة “تهون” في مونولوج أهون عليك وفي كلمة “يسلاك” في مونولوج كلنا نحب القمر، البوليفونيّة تعدد الأصوات في مقطع “تيجي تصيده يصيدك” في مونولوج اللي يحب الجمال التي لا تضيف إلا اسمها، وتجعل الأغنية أقرب إلى النشيد منها إلى المونولوج الرومانسي. هناك أيضًا السلم الملوّن في اللوازم في بيت “قومي استولوا على الدهر فتًى / ومشوا فوق رؤوس الحقب” في قصيدة أعجبت بي، واللازمة الموسيقيّة في منتصف قصيدة أسألك الرحيلَ التي يبدو لدى ظهورها وكأن الأغنية توقفت ليبدأ فاصل موسيقي، والتنقلات المقاميّة والعرض الصوتي في قصيدة رُدّت الرّوح في بيت “وبعثت الشوق في ريح الصبا / فشكا الحرقة مما استودعك”. أما عند القصبجي فنجد أن كل تجربة ثوريّة متكاملة ومتماسكة، وكأنه ذهب إلى المستقبل الذي يسابق الجميع إليه وجلب من هناك اللحن الذي يعتبر – في المستقبل – المعتاد المستقر والأسلس وقعًا على الأذن، فالأغنية كتلة واحدة بمقدمتها ولوازمها وغناها بالتلوينات المقاميّة والتجارب البنيويّة، كألحان ليه يا زمان، طالت ليالي البعاد، يا مجد، منيت شبابي، إنتِ فاكراني، ما دام تحب بتنكر ليه، يا طيور، إمتى حتعرف، وأنا قلبي دليلي التي بحسب محمد فوزي جاءت من عام ٢٠٠٠ إلى الأربعينات.

قال المخرج الأمريكي الكبير سيدني لوميت: “أعتقد أنه كلما كان المتفرج أقل وعيًا بالطريقة التي تحاول بها تحقيق تأثيرٍ ما فإن الفيلم يكون أفضل”. تنطبق هذه العبارة على موسيقى القصبجي، الذي لا يهمه إظهار براعته منقطعة النظير في التنقلات المقاميّة، فغايته منها أثرها. القصبجي لم يستخدم العناصر الغربيّة في أغنياته لإرضاء عقدة الخواجة، بل للإفادة من العلم الموسيقي الغربي في إثراء الموسيقى العربية حيث العُرف أكبر سلطةً من العلم. من أكبر أمثلة ذلك رائعتاه: منيت شبابي، وفيها بلغ إحدى ذُرى السّرد التي قلما وصلتها أي أغنية سينمائيّة في التاريخ لتصوير وتعميق أثر ما يرافقه (أكثر مما فعل المشهد نفسه)، ويا مجد، الغنيّة بـ ١٩ تلوينًا مقاميًّا في أقل من ٧ دقائق قلما وجد مثلها خارج السيمفونيّات – دون أن يعلن أيٌّ منها عن نفسه لإثارة الإعجاب – مع توظيف تاريخي للهارموني في الأغنيتين جعل لهما هيبة وإثارة سيمفونية عربيّة. “إن هذا الاستعمال للتلوين المقامي المتشعب جدًّا إلى جانب الجمل اللحنية الرائعة واللوازم الموسيقية الهارمونية يجعل من مونولوج القصبجي آريا أوبرالية بكل معاني الكلمة، فالموسيقى عربية، عُرب الغناء عربية، الإيقاع عربي، والهارمونيا ذات طابع عربي” كتب سليم سحاب عن إنجاز القصبجي في هذا المونولوج. بعبارة أخرى، حقق القصبجي ما طمح إليه عبد الوهاب: نافس الموسيقى الغربية الكلاسيكية في أبرز مواضع تميزها بندّيّة حقيقية دون محاولة اتباع أساليبهم في التأليف واختياراتهم للآلات الموسيقيّة. القصبجي كان نِدًّا وليس مبجِّلًا.

هذا الميزان بين خصائص الأغنية العربية والعلوم الغربية بلغ ذروته عند القصبجي وغادرنا برحيله. بعده عاد إعجابنا بموسيقى الغرب يتمثل بمجرد محاكاة ما يعجبنا منها بدل دراسة سبب إعجابنا بها، وتطبيق ما تعلمناه بما يتناسب وموسيقانا. فبدل أن يعتبر وجود تمايز بين أقسام عربيّة وأخرى غربية في أغنية قصورًا، يُشار إلى ذلك كإنجاز، ونجد سليم سحاب يشيد بأن النصف الأول من قصيدة سهرت منه الليالي لـ عبد الوهاب ميال إلى الأسلوب الغربي والثاني أقرب إلى العربي، كما كتب عن قصيدة الصبا والجمال: “تشكّل ذروة تأثر محمد عبد الوهاب بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. فهي عبارة عن غناء مرسل من دون خلفية آلية مساندة، مع عزف حر على آلة البيانو على الطريقة الكلاسيكية الأوروبية لغاية ما يدخل على عزف البيانو كمان منفرد على طريقة السوناتا لهاتَين الآلتين في الموسيقى الغربية الكلاسيكية، ويكون صوت المغني ثالثهما وكأنها سوناتا لثلاث آلات. إلى أن نصل إلى دخول مجموعة الوتريات لتسليم جملة (ما تغنَّى الهزار). وسط هذا الجو الغربي الكلاسيكي يأتي مقام البياتي ليرسخ عقيدة محمد عبد الوهاب التلحينيّة في التركيب الرائع بين الحضارتين الموسيقيتَين العربية والغربية.” مرة أخرى يرى سليم سحاب في التركيب الأفقي لعنصرين غربي وعربي مستقبلًا للأغنية العربية لم نستطع الوصول إليه رغم أن كل محاولاتنا منذ عقود تنتمي إلى العقيدة التركيبيّة المذكورة.

بعد التقاطعات السابقة بين المتداول والحقيقي في مسيرتَي القصبجي وعبد الوهاب، ما سبب طغيان أسطورة الأخير؟ تعددت الأسباب، منها موسيقي ومنها غير ذلك. لا شك أن عبد الوهاب حظي بموهبة ملحنٍ كبير، وتمتع بصوت مكّنه من تنفيذ ما خلقه خياله الموسيقي الجامح. استغل عبد الوهاب ذكاءه الاجتماعي الذي أنماه احتضان أحمد شوقي له وتقديمه إياه لنخبة المجتمع ثراءً وثقافةً، كما كان محنكًا في تعامله مع وسائل الإعلام، حتى اختصر على النقّاد عناء البحث والتصنيف، فحدّد لهم مراحل مسيرته الفنّية وأسماءها وما يميّزها، وأملى عليهم أنه من فعل كذا واستعمل آلة كذا، وهو الذي كان يجمع الصحفيّين ليسألهم رأيهم عن جديد ألحانه، ويكافأ بعدها بدعايةٍ مجّانية في الصحف.

أنا درويشي حتى العظامقال عبد الوهاب، معززًا أسطورة سيد درويش، ليستقي منها أسطورته، وينصّب نفسه خليفة لها. هي مقولة غريبة لعبد الوهاب، مطرب الملوك والأمراء، وصاحب ألحان غلب فيها العقل على القلب بتعقيدها وأناقتها والاجتهاد فيها لبلوغ الكمال، والتي لم تحاكي رشاقة جُمل درويش اللحنية. كما أن المواضيع التي تناولها في الأغاني والأفلام التي قام ببطولتها قدمت الطبقة المخملية التي فضّل عبد الوهاب صحبتها على الكادحين، فلم تكن امتدادًا لمواضيع درويش الذي اختار مواضيعَ قريبة من الشرائح المنسية لدى أهل الفن والطرب، وتناولها بما يضمن وصولها لقلوبهم وعقولهم.

لا شك أن سيد درويش حقق الكثير، لكنه لم يحقق كل شيء. كانت الظروف مواتية لولادة أسطورته، هو الذي بدأ مسيرته القصيرة إبان وصول المسرح الغنائي إلى ذروةٍ استثنائيّة سبقت ظهور السينما، وتزامنَ سطوع نجمه مع وفاة سلامة حجازي آخر أساطين غناء القرن التاسع عشر ورائد المسرح الغنائي المصري. أضف إلى ذلك تطوّر صناعة الأسطوانات وزيادة تداولها، ومرور مصر بمرحلة سياسيّة انتقاليّة تاريخيّة، فأول أعوام نشاط سيّد درويش هو ١٩١٧، الذي بدأ فيه وصول الحرب العالمية الأولى إلى نهايتها، وهو العام الذي توسّط فترة الحماية البريطانية على مصر بكل ما شهدته من مقاومةٍ شعبيّة كبيرة. استفادت أسطورة سيّد درويش من كل ذلك، ورسختها وفاته في ظروف غامضة بعد عطاءٍ كبير في وقتٍ قصير. لهذا السبب، نجد عند قراءتنا عن إنجازات موسيقيي القرن العشرين أسطرةً وتبجيلاً لسيد درويش، وكأن الموسيقى العربيّة بدأت وانتهت به، دون أن نجد ما يبرر كل ذلك في موسيقاه. فهو طرح مواضيع ومقاربات جديدة، لكنه غنّاها ضمن قوالب الغناء العربي المتعارف عليها كما هي.

مقولة عبد الوهاب عن سيد درويش غريبة أيضًا لأنه أخذ عن القصبجي، وليس درويش، ما أبدعه في المونولوج والطقطوقة والمقدمات واللوازم الموسيقية واستعمال الهارموني والبوليفوني بعلمٍ صحيح وجاذبية التلوينات المقاميّة، بل واقتبس في طقطوقتِه الشهيرة إمتى الزمان يسمح يا جميل (١٩٣٢) من مونولوج خاصمتني (١٩٣١) للقصبجي لحن عجز أول بيت مع اللازمة الموسيقية التي تليه (لحن من أمر الخصام مع اللازمة هو لحن على شط النيل مع اللازمة)، مع لازمة موسيقية أخرى (التي تلي حال بعد حال في خاصمتني والتي تسبق الدنيا كلها حاسدانا في إمتى الزمان)، مشكّلةً بمجموعها ما يعادل ست موازير مقسّمة إلى أربع متتالية ثم اثنَتين لاحقَتين.

لم يكن القصبجي صاحب صوتٍ يُسعى لصاحبه، لم يكن نصير الأغنية الشعبيّة ولا حاملًا للواء المقاومة، ولم يهوَ التعامل مع الإعلام. كان منافسًا لتلاميذه بشكلٍ منعهم من الاعتراف بفضله حتى لا يعترفوا بتفوّقه، فالتسليم بتفوّق درويش الراحل لا ضير منه خاصةً إن اعتُبِروا خلفاءَ له، أما الاعتراف بتفوّق وسبق منافسٍ حيّ تزامنت بدايته مع بداياتهم فلا. وليس مجرّد منافس، بل عازف خلف مطربة، وإن كانت تلك المطربة أم كلثوم.

قدّم القصبجي نقلاتٍ موسيقيّةً نوعيّة استُقبلت بدايةً بحفاوة، لكن ذائقة الناس لم تكن جاهزة بعد لكل ما بوسعه. ابتعدت خطواته عنهم واقتربت من المستقبل، فكان دخول زكريّا أحمد وألحانه التطريبيّة الأقرب إلى مدرسة القرن التاسع عشر في الغناء إلى مجموعة ملحّني أم كلثوم عام ١٩٣١ بمثابة الغيث الذي انتظرته الشابّة القلقة من مغامرات القصبجي. استمرت سيطرة أحمد على مسرح وأسطوانات أم كلثوم بالتوسّع على مدى عقدين، استطاع خلالهما السنباطي جذب جمهور التطريب التقليدي شيئًا فشيئًا إلى جهة الطرب النفسي الذي حقق فيه القصبجي فتحًا عظيمًا، إلى أن جاءت قطيعة أم كلثوم معه فرصةً لانطلاق السنباطي وسيطرته على مسرحها بشكلٍ جعل ذاك المسرح أخيرًا بالجاهزية الكافية لاستقبال فكر أستاذه القصبجي. لكن عندما جاء ذلك الوقت كان الأستاذ قد فقد حماسه، خصوصًا بعد رحيل صوتٍ أخذنا معه إلى السماء كـ أسمهان، وفتور أم كلثوم لما قدمه لها. كانت تلك إحدى المرات العديدة التي أخطأ فيها سهم القصبجي سوق زمنه، وأصاب التاريخ.


المصادر:

لتواريخ أغاني أم كلثوم: موسوعة أم كلثوم لـ فيكتور سحاب

لتواريخ أغاني محمد عبد الوهاب: السبعة الكبار لـ فيكتور سحاب

تعليقات سليم سحاب: مقال دور محمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية – مقال تطور تلحين القصيدة عند عبدالوهاب.