.
اعتاد حسين الجسمي أن يذهب بنفسه إلى جمهوره، ويسعى إليهم مع كل موجة جديدة محببة عندهم. عبر السنوات، قدم أغنيات واستعادات بلهجات مختلفة وبعيدة عن الخليجي. استعاد أغنية حبيتك تنسيت النوم في ليالي فبراير وأما براوة في جلسات وناسة، كما أصدر أغانٍ خاصة به بلهجات غير الخليجية، مثل بشرة خير التي صدرت باللهجة المصرية قبل خمس سنوات وضج بها الوطن العربي بأكمله، أو أحبّك التي صدرت قبل عام في ذروة رواج الأغنية الشعبية العراقية، واحتلت مكانها بين أنجح الأغنيات العراقية بصوتٍ غير عراقي.
امتدادًا لنجاح أحبّك، تابع حسين الجسمي في ما نسيتك سعيه خلف مد الأغنية العراقية، غير مكتفٍ هذه المرة بمجرد تبني اللهجة أو تتبع عناصر الأغنية العراقية المألوفة، بل ساعيًا إلى تقديم رؤية وتوزيع جديدين في استعادة لهذه الأغنية التسعيناتية للعراقي عادل عكلة.
كان عادل عكلة أحد الجنود المجهولين للأغنية العراقية ما بين أواخر الثمانينيات وبداية التسعينات. قدّم العديد من الأغاني برؤيته كمغني وموسيقي وعازف، وبالرغم من اختلاف هذه الرؤية عن إصدارات معاصريه في العراق، كانت امتدادًا أكثر خصوصية لتغيرات وعناصر سادت في الأغنية العربية في تلك الفترة. أبرز هذه العناصر كان اكتساح الأورج للتوزيع ومنحه البطولة التي تتمحور حولها الآلات الأخرى. درس عادل عكلة الموسيقى أكاديميًا في معهد الفنون الجميلة في بغداد واختص بآلة الأورج تحديدًا، ليعمل بجدية على تقديم الأورج إلى أغنية البوب العراقية كآلة رومنسية قادرة على الخروج بأغنية سلو عاطفية كلاسيكية. ما نسيتك هي واحدة من أمثلة كثيرة على ذلك في أرشيف عكلة، إلى جانب بعد هيهات ويا مسافر وغيرها. تعاون عادل عكلة في معظم هذه الأغنيات مع شريكه الملحن اسماعيل الفروه جي، الذي لحن وكتب كلمات ما نسيتك. عكلة الذي كان يصعد إلى المسرح في حفلاته متصدرًا الخشبة مع الأورج ليعزف عليه فيما يغني، عمل جاهدًا في ما نسيتك على أن تظهر هويته كعازف وإن طغت على هويته كمغني، ليكون صوته في الأغنية مختبئًا تحت عدة طبقات، ويظهر أداءه في النهاية كتمتمات رومنسية لعاشق متألم خجول.
في استعادة حسين الجسمي تغييرات جذرية في العناصر الأساسية للأصل: التوزيع والأداء. خلع الجسمي عن الأغنية رداء التسعينيات واستبدل الآلات الأبرز بنقيضها: الأورج بالبيانو الكلاسيكي، والجيتار الكهربائي بالكمنجات، في توزيع تقليلي وضعت فيه الآلات لتعطينا لمحة عن اللحن أحيانًا، وتصمت في أحيان أخرى تاركةً كل المساحة لصوت الجسمي فيما يقود الأغنية. صوت الجسمي بالطبع أكثر من كفؤ لهذه المهمة، يتبدل بانسيابية صعودًا ونزولًا بين الجواب والقرار، مرتاحًا ومريحًا للأذن في كلا الحالتين، خارجًا كليًا عن أسلوب أداء عكلة الرتيب منتظم الطبقة للأغنية، ومستبدلًا الأداء الهادىء منذ الجملة الأولى بآخر أكثر استعراضية. نصعد معه إلى إحساس أكثر قوة وتقريرية يصل ذروته في الجملة المفصلية في المقطع الأول “عيوني ما تفارق طيوفك / غالي أنت شقد عليه”، ثم نهبط معه إلى جوف القرار في المقطع الثاني “كلمة الحب والحنان عاشت بقلبي زمان.”
هناك جرأة كبيرة فيما سماه الجسمي “رؤيته” لهذه الاستعادة. فعوض التمسك بشكل الألحان والإيقاعات الدارجة في الأغنية العراقية السائدة هذه الفترة، أو بدل التوجه لصنّاع هذه الأغنية واستديوهاتهم كما فعل فنانون عرب آخرون، ذهب الجسمي في اتجاه مغاير لمناوشة العراقي، مقررًا تقديم استعادة. اختيار استعادة هذه الأغنية بالذات هو عنصر القوة في رؤية الجسمي. بفضل اختيار أغنية عاطفية منسية ممتازة، ولفنان مغمور عرِفَ بالجرأة والتجديد في زمنه، تمكن الجسمي من خلق مسارين يسمحان له الوصول إلى المستمع في نهاية أي منهما. الأول هو التقرّب من جيل الأغنية التسعينية العراقية، الذي إن لم يعجب بنسخة الجسمي من الأغنية فسيقدّر – موجهًا بالحنين – الغوص في صوتٍ منسي. والثاني هو المستمع الشاب الذي سيحصل على أغنية عاطفية حساسة وشجية لها ألفة اللهجة العراقية، وفيها التوظيف الأفضل لإمكانيات الجسمي الصوتية والمساحات التي يمكنه الانتقال بنا إليها.