.
كتبتُ ذات مرة شذرة تقول:
السَمْع هو الكنز، الموسيقى مجرد حجّة.
ما زلتُ أصدّق هذا.
إذا كان الشعر في شكله البدائي والتقليدي اختلس الموسيقى ووظّفها لصالحه، فإن النثر أنصت للموسيقى وتركها تتسرب إليه خلسةً حتى تشرّبها تمامًا، وأنتجَ في حدود قدراته الصوتية نسخته الخاصة من الإيقاع والجمل اللحنية التي تهرب من الهندسة الموسيقية المحكمة إلى رحاب الضجيج وعدم الاتساق والأصوات المتكسّرة وغير المكتملة، في أشكال تعيد اكتشاف مفهوم الموسيقى لصالحها وربما لصالح الموسيقى ومحبة السَمَاع أيضًا.
نادرًا ما أكتب دون خلفية صوتية ما، الصمت مطلوب لكن في حدود، وإذا كنت أعمل بين أربعة جدران، كما هو الحال أغلب الوقت، فلا بديل تقريبًا عن خلفية موسيقية، أحيانًا أتردد قليلًا عند اختيار الموسيقى المصاحبة لمهمة ما، فإن هناك نوع مناسب لكل حالة، للترجمة وللكتابة، لترجمة أدب أو لترجمات غير أدبية، لكتابة السرد، وللكتابة غير السردية، أسمعُ في لحظة الكتابة هذه موسيقى كَنَسية من العصور الوسطى، لم أخترها لكتابة ما أكتبه الآن ولكنها كانت دائرة بالفعل قبل أن أبدأ ولم تعق عملي وبالتالي لم أبدّلها.
بعيدًا عن الأعمال المكتبية الذهنية، إبداعية كانت أم آلية وبسيطة، فحتى الأنشطة اليومية البسيطة مثل كي الثياب أو تنظيف البيت قد يكون له موسيقاه المناسبة، أو بالأحرى أغنياته الخفيفة.
بعض النصوص تفرض نوع موسيقاها، وبعضها ينبغي البحث له على شريكه الصوتي الملائم حتى يفتح الله علينا وتتدفق الكلمات على السطور مع انسياب الموسيقى في الهواء المحيط.
يسهل استنتاج أن نوع الموسيقى الذي نسمعه أثناء الكتابة، أو نميل إلى الاستماع إليه أغلب الوقت، سوف يترك أثره على ما نكتب، لكن الأسئلة الصعبة ستكون حول طبيعة هذا الأثر، ومدى عمقه وكيف يتسرب إلى سطورنا ويشارك في تشكيلها.
لم أقرأ الكثير حول الموسيقى كمادة منفردة، كتب معدودة، أذكر منها كتابًا صغيرًا للأستاذ الكبير يحي حقي، بعنوان: تعال معي إلى الكونسير، وكتاب الأستاذ سعد مكاوي: لو كان العالم ملكًا لنا، وأخيرًا كتاب شارح، قصير أيضًا، بعنوان مقدمة في الموسيقى العالمية للأستاذ عزمي كامل المنياوي، ليس عليه تاريخ نشر واضح وإن كان فيه إشارة إلى “المملكة العربية المتحدة”، وكان ثمنه ٥ قروش صاغ، وصدر عن مؤسسة الاختزال العربي (٣٥ شارع السبع سقايات أمام كلية طب قصر العيني). غير أني لا أكاد أذكر شيئًا من تلك الكتب القليلة الصغيرة، غير أسلوبها الساحر البسيط أغلب الوقت وهو ما شجّعني على استكمالها إلى النهاية بطبيعة الحال. لكنّ ما أذكره جيدًا، من ناحية الخبرة الحسّية والتربية الجمالية الخاصة بالموسيقى الغربية الكلاسيكية تحديدًا، هو الأستاذ الدكتور حسين فوزي، أو سندباد المصري كما كان لقبه ٢٩ يناير ١٩٠٠ - أغسطس ١٩٨٨، عالم بحار وكاتب مصري برز في أدب الرحلات، وعشق الموسيقى الغربية ، وكتب عنها وعن سادتها الكبار، وقدّم برنامجًا للإذاعة ليقدّمها ويشرحها ويبسّطها للبسطاء أمثالي، فكان صوته ينبعث أحيانًا في ظلمة غرفتي وقد آويت للفراش الصغير، وتركت الراديو مفتوحًا على إذاعة البرنامج الثقافي – البرنامج الثاني سابقًا – طمعًا على وجه التحديد في مسرحية أدبية مسجّلة بأصوات أساطين التمثيل المصري، لأنام على أحداثها إذا كانت مملة، أو أسهر معها حتى الثانية صباحًا تقريبًا إذا كانت ممتعة. كان د. حسين فوزي شديد التميّز في شرحه البسيط لأعوص وأصعب الأشكال الموسيقية الغربية، تشعر به وكأنه يجالسك في سهرة أصدقاء حميمة، لا يجد غضاضة في الترنم بالألحان بصوته وتقريب المعاني بالأمثال العامية والكلام المصري الجميل. كانت تلك الحلقات البديعة القديمة أكثر ما شجعني على عدم الخوف من الموسيقى الكلاسيكية، وعدم التشبث مثل البعض بذوقي الشرقي الطربي على الأخص دون أن أقبل التزعزع عنه ولو قليلًا هنا أو هناك.
أنهيتُ قبل أسابيع قليلة العمل على مخطوط روايتي بيت العنكبوت، ولعلّها أكثر نص أدبي لي تتدخّل فيه الموسيقى وتعترض طريق الشخصيات على طول الخط، بل ارتبطت مصائرهم بفن الغناء والموسيقى، ووجدتني أحيانًا أؤلف لهم كلمات بعض الأغنيات بما أنهم ساهموا في تاريخ الأغنية العربية، بأعمال متخيّلة بالطبع، وآخرون – في الرواية ذاتها – ارتبطت بعض أغنيات لديهم بذكريات عزيزة أو علاقة أو شخص أو محنة … ببساطة كان شريط الصوت المصاحب لحياة الشخصيات يتطوّر ويستقل ويتضح كلما مضيتُ في الكتابة.
في مشهد مهم، بالنسبة لي، يتذكر عبد العزيز أغنية سمعها وهو طفل للست وردة، طوال الوقت تتردد في رأسه جملة منها، ولا يعرف عنها شيء، عبر السنوات قد يسمعها هنا أو هناك لكنه لا يبحث عنها ولا يسمعها كاملة أبدًا. حين يلتقي بشريك حياته، هاني محفوظ، يقرر هذا الأخير أن يعثر له على هذه الأغنية القديمة ويسمعانها معا على شرفة شاليه عجوز في العجمي. أشعر أن هذا لحظة سحرية نعيشها جميعًا بصورة أو بأخرى، حينما نعثر على النغمة المفقودة، حينما تلتئم الصورة وينبعث اللحن من الداخل والخارج في الآن نفسه.
عن نفسي، أقدم أغنية أتذكر استماعي إليها هي أغنية وردة التي دسستها دسًا على حياة عبد العزيز في بيت العنكبوت، وتحديدًا مقطع صغير منها، يقول:
“مال العزّال ومالنا
ما كفاية اللي جرالنا
ده إحنا تعبنا وقسينا
لحد ما اتقابلنا…”
هذا ما أتذكره الآن على الأقل، والذاكرة تخون.
في ورشة الحكاية وما فيها للكتابة القصصية التي أشرف عليها منذ سنوات، كنتُ منذ الدفعة الأولى وعلى مدى أكثر من دفعة تالية، حريصًا على تمرين كتابة محدد، رغم تغيير واستبدال العديد من التمرينات الأخرى. وهو الكتابة على قطعة موسيقية اسمها بوكا دي روسّا، لفرقة من أمريكا اللاتينية تتكون من رجل وامرأة، اسم الفرقة موزيكا نودا، أو الموسيقى العارية، القطعة سمعتها لأول مرة في ورشة رقص مع مدرب مكسيكي أقيمتْ في أستوديو عماد الدين بوسط القاهرة ولصقت في ذهني وبحثت عنها حتى عثرت عليها. المرأة تغني والرجل يعزف على التشيلو، المرأة تهمس وترفع صوتها، تطلق فحيحًا متوترًا يتصاعد في خلال دقيقتين تقريبًا لأكثر من ذروة صغيرة تعاود بعدها الصعود من جديد.
المدهش أن نتاج تمارين الكتابة في أغلب الورش كان متقاربًا، إلى حد كبير وبنسبة كبيرة بين المشاركين، لقد نقلت لهم القطعة الموسيقية توترها وسرعتها وإيقاعها، تسرّب إلى سطورهم إحساس السرية والاختلاس والهمس والتسلل، فحيح الحياء الحار وفرح الحياة الحرة.
لا يهمني كثيرًا، وأعتقد أن كثيرين من أصدقائي قد يشاركونني الرأي نفسه، كلمات الأغنيات ما دامت الموسيقى حلوة والمطرب يستحق هذا اللقب. باستثناء حالات قليلة ونادرة يكون لكلمات الأغاني دور حاسم، مع شعراء كبار أو تجارب ذات خصوصية. لكن الأغلب الأعم، حتى مع أسماء مثل أم كلثوم وعبد الوهاب، يكون الأساس هو اللحن والأداء. لذلك فحتى حينما تميل الأغنيات إلى عاطفية سيّالة ومائعة من الممكن أن ينقذها اللحن وصوت المغنى، أما إذا اُفتقدَ هذا أو ذاك فلا فائد ترجى من أجمل شعر غنائي في الدنيا، فهذا ليس موضعه، قد نستمتع به مكتوبًا على صفحة جريدة أو في كتاب، لكن هذه مملكة الآذان ويجب تقديم فروض الولاء والطاعة لها، قبل أي تفكير في المغزى والمضمون، إلى آخره.
إذا كان لشريط الصوت كل هذه الأهمية في حياة شخصيات حكاياتنا، فإنه أهم في حياتنا نحن. للأسف، لستُ ممكن يتأثرون بالغناء والموسيقى إلى حد البكاء مثلًا أو الوقوع في الحب بسببهما، لكنني أستمتع، ككل الناس الطبيعيين بهما، وحياتي مزخرفة في كل ركن منها بالأغنيات التي غنيتها منذ طفولتي، بصوتٍ غير مستساغ بالمرة، وحدي أو بمشاركة آخرين، أو بتلك التي استمتعت إليها في أداء حيّ أو مسجّلة، ولا يمكن استعادة كثير من لحظات عمرنا العزيزة دون استحضار ما أحاط بها وغلفها من أصوات، وتحديدًا من موسيقى وغناء، وأزعمُ الآن أنه من الممكن إعادة بناء حياة المرء بكاملها من خلال هذه الزاوية وحدها فقط، محطات الصوت والأغاني والطرب، لكنها قصة أخرى يطول شرحها.
ما زلتُ أتأثر وأتصعّب طبعًا، وأهتف “الله، يا روحي، يا روحي” بعلو حسّي كلما سمعت شيئًا جميلًا، وما زلتُ أجد قرة عيني في سهرة مع أصدقاء يتغنى فيها صاحب الصوت الجميل بما تيّسر. لا حرمني الله من ذلك كله أبدًا.
إذا أردنا أن نقتل شيئًا جميلًا فلنبحث له عن دور، أقصد دورًا محددًا مفيدًا نافعًا عمليًا، إلى آخره. كيف يمكن أن يكون للفن دور؟ أقصد دورًا خارج حياته، خارج دورة وجوده؟ كيف يمكن أن يكون للوردة معنى، مهما درسناها، وتساءلنا عن اسمها الخفي، واتخذنا منها الرمز والمجاز والعطر والدهان والدواء؟
أجهل كل شيء – تقريبًا – عن وظائف الموسيقى، بقدر ما أجهل وظائف الشعر أو وظائف الوردة أو وظائف صورة القمر على ماء راكد في ليلة شتوية ممطرة.