.
تتجلى لعنة من يراجع الموسيقى كـ مُستَمِعٍ نهم في أن لحظات المتعة الخالصة تتضاءل وتتلاشى تدريجيًا بمرور الوقت. تلك اللحظات حيث تبدو الأشياء وكأنها تتوقف في مساراتها، التي تشتعل في ذاكرة المُستَمِع عند تعثّره في شيء لم يصادفه من قبل. مع الوقت، تصبح تلك اللحظات أبعد والمسافات بينها أكبر.
انطبعت إحدى تلك اللحظات في ذاكرتي عندما استمعت إلى مساهمة مسيلمة في ألبوم زولي، ترمينال، قبل عامين. برزت كُلّ الجُلود ببراعة في ألبومٍ امتلأ بالأغاني الضاربة. توافقت كل الجلود مع باقي الألبوم إلى حدٍ كبير، بإيقاعاتها المفككة والسنث بادز المُحوّرة، لكن تقديمها لـِ بُكائية مغنّاة بالعربية الفصحى حوّلها إلى أغنية آسِرة، عاطفية في بعض الأحيان، وكأنها مُكرّسة لتكون كذلك.
برز هذا العنصر الآسِر والعاطفي بصورة أكبر في إصدار مسيلمة الثاني، مذاهب النسيان، الذي كتبه وأنتجه بالتعاون مع المنتِج إسماعيل حسني، ويأتي بعد إصداره الأول عام ٢٠١٩؛ ظلٌّ تحت شجرة الزقوم. يكشف قرار التمسّك بمنتجٍ واحد عن ألبومٍ متماسك يحتفظ بلوحة صوتية محدودة، مقارنةً بسابِقهِ الذي جمع عددًا من المنتِجين من بينهم زولي و١١٢٧ الذين تركوا بصمتهم على الأغاني التي أنتجوها.
يلمّح إصدار إسماعيل السابق أن الألبوم سيأخذ سوداوية ظل تحت شجرة الزقوم ويدفعها إلى مدى أبعد؛ حيث تمثّلت بصمته وقتها في جدران صوتية ضخمة وطبقات من الدستورشِن وترددات صوتية منخفضة. على كل حال، حلت السنثات النضرة والأصوات الهشة مكان الضجيج، وعندما تقترب الأغاني من الحافة، فإنها تتألّق بطريقة لا تشبه عمل أيٍ من المنتجَين السابقين. تجد الأغاني طريقها بسهولة إلى المستمع، وأساس ذلك غناء مسيلمة وكيفية معالجته.
يقع صوت مسيلمة في المقدمة والوسط في كل الألبوم، مشبعًا بالأوتوتيون في بعض الأحيان، وغارقًا في الريفيرب والديلاي. تبحث أغنية مذاهب النسيان عن الغفران، وتحتوي طبقاتٍ هارمونيّة مغناة ببراعة، في حين يخلق مسيلمة في أغنية نهاية إلى الطين تباينًا بين غنائه وإلقائه، معززًا أثر الكلمات الثقيلة التي تبحث عن أملٍ في الموت. تبرز جودة الإنتاج والإلقاء محتوى الكلمات، مشكلَين إحدى نقاط قوة الألبوم، ما أعتقد أنه يسهّل التواصل مع جانبه العاطفي حتى على الذين لا يفهمون العربية.
تستمر الكلمات والألحان والأدوات الموسيقية بالتحرك سويةً على مدار الألبوم، وتسيطر عليه ثيمات الفقد والحب والموت. يكشف سبر أغوار الذات والشك والأسئلة البلاغية عن اضطراب، والذي يصل حد الغليان في مناسك السالكين، حيث تفسح ضربات الـ ٨٠٨ طريقًا للسنثات التفتيتية والأربيجات الزجاجية.
يصاحب الثيمات السابقة حسّ مستمر بالصراع مع التقاليد والأعراف الدينية المتأصلة في نفسية مسيلمة، الذي يفكّر باستمرار في رفضها أو تعزيزها. تحتد الموسيقى كلما اشتدت هذه الصراعات وتكثّفت ذكريات الحب والضياع، وتبحَّر مسيلمة أكثر في الأفكار الانتحارية وأذى النفس. تمثّل مسالك الغابرين أفضل تصوير لما سبق بجهير البايس والإيقاعات التصاعدية، مع غياب السنث بادز الغالبة على بقية الألبوم.
ينتهي الألبوم مع بداية باليمين، في تتويج لكل ما سبق، حيث يغلب الشعور بالاستسلام الجميل على المُستَمِع ويتركه مُرهَقًا ومنتعِشًا معًا. في التراك أفضل أداء غنائي لـ مسيلمة حتى الآن، بطريقة مدّه لبعض العبارات وبتره البعض الآخر، وتشبّعه بالمعاناة لدى انكسار صوته ثم عودته للم شتاته. يأتي القبول عندما تصل الموسيقى ذروتها، عندما تكتسب الأربيجات طبقات إضافية وتعلو درجتها. ينتهي الألبوم رسميًا هنا، وبنبرة متحدّية نوعًا ما: “وهذا تلبية نداء عقلي / وتحقيق شخصي / وإمعان نظري.”
صنع مسيلمة وإسماعيل ألبومًا سيلتصق في الذاكرة لوقتٍ طويل، كلٌّ متكامل فريدٌ في رؤيته ومتفردٌ في تنفيذه. ألبوم فارق.