مدني الخلي مصطفى سيد أحمد علي السقيد الأغنية السودانية أغنية الحقيبة معازف حميّد
عربي قديم

الخروج من الحقيبة | عن ريادة مصطفى سيد أحمد

هيكل الحزقي ۱۸/۰٦/۲۰۲۰

سنة ١١٩١٩ حضر محمد أحمد سرور لإحياء حفل زفاف أحد التجار الميسورين، مصحوبًا بفرقته المكونة من الطنابرة٢، في جو مشحون بالمشاكل بينهم. أثناء الحفل، وقف سرور وهمّ بالغناء، لكنه فوجئ بإضراب الطنابرة عن الغناء خلفه. أنقذ سرور الموقف بعد أن غنى لإبراهيم العبادي، مستغنيًا عن الطنابرة ومستبدلًا إياهم بالكورس بعد استعانته بصديقه الأمين برهان، الذي طلب منه الترديد خلفه إثر الانتهاء من الأبيات، دون الاعتماد على تقنيات الغناء الطنبري التي سيطرت على مشهد الموسيقى في السودان في ذلك الوقت. 

مهدت تلك الحادثة إلى أول تحول كبير في الموسيقى السودانية، وظهور الشكل الأول للأغنية التي اصطلح على تسميتها فيما بعد بأغنية الحقيبة٣. انتعشت بعد ذلك الأغنية السودانية بإدخال آلات جديدة على المشهد مثل الرق والمثلث، بالإضافة إلى العود والكمنجة والأكورديون. التقط العديد من المغنين التقنيات الأدائية الجديدة التي ظهرت نتيجة حادثة الزفاف، وأصبح شائعًا الاعتماد على قدرة المطرب في إظهار الزخارف وتنويع أدائه عن طريق الارتجال.

انطلقت مرحلة جديدة إثر تأسيس الإذاعة السودانية سنة ١٩٤٠، ومع استمرار حركة الارتجالات التي اندفع نحوها أغلب المغنين، ظهر ما يسمى بِالمدرسة الفنية الثانية خلال الخمسينات والستينات، وأثراها الانتشار الواسع لاستعمال الآلات الوترية والنحاسية، بالإضافة إلى تطور أساليب التفكير الموسيقي لدى المؤلفين أنفسهم، مع إمكانية الاستماع الى الثقافات الأخرى عبر الراديو والسينما٤. مثّل افتتاح معهد الموسيقى والمسرح سنة ١٩٦٩ نقلة نوعية لتعليم الموسيقى على أسس علمية وظهور التدوين، ومهّد لانقلابٍ جديد وللمعان اسمٍ ربما كان أكثر قادة هذا الانقلاب تأثيرًا، مصطفى سيد أحمد.

مريم الأخرى | معارك الاعتراف بالكلمة الجديدة

جاءت مساهمة مصطفى سيد أحمد في الأغنية السودانية خلال فترة عصيبة مر بها السودان، من حكم النميري إلى انقلاب الإسلاميين أواخر الثمانينات. انخرطت مجموعة كبيرة من معاصري مصطفى وشعراء تلك الحقبة في الأغنية السياسية المباشرة، إلى جانب سيطرة أغنية الحقيبة على تلك المرحلة، التي امتدت من العشرينات إلى الخمسينات، وألقت بظلالها على فترات لاحقة مشكّلةً مرحلة الأغنية الكلاسيكية في السودان.

مع بداية الثمانينات، ظهرت موجات التحديث والتجديد على مستوى خطابات الشعر والمسرح والفنون التشكيلية والغناء، وخاض شعراء تلك الحقبة معارك اعتراف، كما اصطدموا بلجان إجازة النصوص وأجهزة الإعلام الرسمية التي كانت تعارض أشعارهم المحملة بنفسٍ تجديدي متمرد.

مثّل مصطفى سيد أحمد مصبًا مهمًا لتجارب الكتابة الشعرية، وصار صوته أهم من دور النشر بالنسبة لها، حيث تعامل مع أكثر من ستين شاعرًا لريادة التجديد النصي والدرامي؛ وركّز على الغزارة الإنتاجية لإيمانه بأن التغيير الواسع لا يحدث من ضربة نجاح واحدة، وإنما بالمراكمة، فهو يرى أن “عدد النصوص المقدمة، أقل من أن تُحدث تحولًا في الأغنية”، كما عبّر في ندوة اتحاد شعراء الأغنية سنة ١٩٧٦، خلال المرحلة الأولى من مسيرته.

جمع مصطفى أصدقاءه الشعراء في ورشات تسبق اختيار القصائد والعمل عليها، مستعينًا بحسه الدرامي الذي نمّاه أثناء دراسته في معهد الموسيقى والمسرح، ليجعل منه بوصلة لاختيار القصائد. كما استعان بتجربته الكتابية لتذوق نصوص الآخرين، إذ بدأ كتابة الشعر في وقتٍ مبكر إثر وفاة أخيه المقبول، الذي رثاه في أولى قصائده، كما ألّف عددًا من أغانيه مثل يا بت يا نيل وغدار دموعك.

ركّز مشروع مصطفى التجديدي على دعامة التراث، يشير صلاح شعيب إلى أن الشعراء الذي تعامل مصطفى مع أغلبهم، قد عادوا إلى خامات التراث المهمل من قبل الأجهزة الإعلامية المركزية – مثل الذاكرة الشفوية ومدارس الشعر العربي القديمة – لتكون ركيزة التحديث، “فالتجديد لا يتم إلا على أساس موروث، وموروثنا عربي وأفريقي” على قول مصطفى نفسه.

رغم ما زخرت به القصائد التي غناها مصطفى سيد أحمد من معاجم الخصوبة وصور النيل والأساطير الزراعية النوبية القديمة، واستحضار المكون الغابي والصحراوي، بالإضافة إلى صور التمدن الذي يهدد الأمن الزراعي في السودان، والتلاعب بالرمزيات، كانت صورة الحبيبة حاضرة بشكل طاغٍ وملتبس في الآن ذاته، وصار لها أوجهٌ مختلفة في قصائد الشعراء الغنائيين الذين تعامل معهم مصطفى، لتصبح حمّالة لتقاطعات مختلفة. تحولت الحبيبة إلى ثقلٍ رمزي مكّن أولئك الشعراء من الابتعاد عن القصيدة السياسية المباشرة. يظهر ذلك بشكل جلي في إحدى مقاطع أغنية طيبة التي كتبها حميّد لمصطفى: “أغني لشعبي ومين يمنعني، أغني لقلبي إذا لوعني.”

تحدّث الشاعر محمد طه القدال عن دور مصطفى في اختيار قصائده، منتقدًا الشكل النصي لأغنية الحقيبة: “بإمكان مصطفى سيد أحمد الركون إلى المفردة المعتادة في الحب والهجر والدموع والوطن التي سادت منذ عشرينات القرن الماضي، ولكن كانت له رؤية شاعرية مختلفة تدعو إلى تخيير حب جديد، تتداخل فيه الحبيبة مع الوطن، فلا تدري أهذه العاطفة مصوبة نحو إحداهن أم تجاههن جميعًا.”

جرّب مصطفى أشكالًا متنوعة من القصائد، منها ما استمد الصور الشعرية من الحياة الريفية والحضرية في السودان، أو حالات العشق والوله والحزن والألم. أظهر في كثيرٍ من الأحيان جرأة في دفع اختياراته إلى أقصى حدودها، مثل أغنية بين مريم الأخرى والمجدلية، التي استعان كاتبها عبد الله شمّو بحقلٍ رمزي ديني غير مألوف في الشعر السوداني. استحضر شمّو صور الأم والغربة وحالة التمزق التي عانى منها السودان: “أنجبتني مريم الأخرى قطارًا وحقيبة”. برزت الأغنية على حساب الأغاني المعاصرة لها، سواءٌ في النسخة التي اعتمد توزيعها على الأرجُن والجيتار الكهربائي، أو في الأداء المنفرد المصاحب للعود، حيث يؤدي مصطفى بشكلٍ يقترب إلى التلاوة، محاكيًا حالة اختناق عند حرف التاء الساكن في كلمة التعب: “ها هي الأرض تغطت بالتعب.”

يشير اختيار مصطفى لقصيدة مريم الأخرى الفصيحة إلى أنه لم يكن متعصبًا للعامية، والتي انتصر لها في مشروعه مع الشاعر محمد الحسن السالم الملقب بـ حميّد. غنى مصطفى قصائد فصيحة مثل غناء العزلة ضد العزلة والرحيل في الليل، كما وسّع تعاوناته خارج السودان وكانت أبرزها المساورة من الباب الخلفي لمظفر النواب، الذي زار السودان خلال الثمانينات بدعوة من اتحاد الطلاب السودانيين. سبق لمظفر الاستماع لمصطفى وأعجب به، وحمل إليه عودًا فريدًا كهدية. اختفى مصطفى لأيام بعد أن تسلّم القصيدة واختلى في غرفة العنكبوت٥ في منزله في واد سلفاب، التي مثلت مهربه والمكان الذي يتنسّك فيه لوضع ألحانه، قبل أن يعود بالأغنية مكتملة.

فرقًا شتّى بين | ثنائية غيّرت وجه الموسيقى السودانية

في إحدى مستشفيات موسكو أواخر الثمانينات، كان مصطفى سيد أحمد يستعد لعملية زراعة كلية، نتيجة قصورٍ كلوي لازمه لسنوات. حاول مصطفى مغالبة المرض بالعمل على تلحين بعض القصائد التي جلبها معه من السودان، وأهمّها عم عبد الرحيم، التي كتبها له الشاعر محمد الحسن السالم الملقب بـ حميّد. أمسك بعوده وشرع في أداء اللحن الذي اكتمل لتوه في رأسه، وبجواره فلاح مصري كان يشاركه الغرفة. غلبت الفلاح دموعه فور انتهاء مصطفى من الغناء، دون أن يكون قد فقه الكثير من الكلمات التي طرزها حميّد بعامية محكية سودانية مع مفردات نوبية قديمة.

صارح شريك مصطفى بالغرفة بأن الأغنية تعبر عن المصري أيضًا. تحتفي كلماتها بالحياة اليومية البسيطة في السودان، مع صور موغلة في الرمزية، من خلال شخصية عم عبد الحميد التي حمّلها حميّد ملامح الشخصية الريفية في القرى المتاخمة لضفة النيل، وحوّلها إلى بطل تراجيدي. يركب عم عبد الرحيم حماره صباحًا، ويجول بين الناس والأماكن مشغولًا بهمومه، قبل أن يعبر سكة الحديد ويدوسه القطار مع حماره. اعتمد حميّد على بنية درامية محكمة، وتصويرٍ لتفاصيل الحياة اليومية، ليحكي عن مأساة الحياة الزراعية التي يتهددها قطار التمدن، مع نزعة حنينية إلى صورة السودان الخصيب. جعل هذا عم عبد الحميد إحدى التحف السردية في الشعر العامي السوداني الحديث:

بحارة السفن، حشاشة القِصون
لقاطة القطن، الجالب الحبال
الفطن الفرن، الشغلانتو نار
والجو كيف سخن

فرقًا شتى بين، ناسًا عيشا دين
مجرورة وتجر
تقدح بالأجر، ومرة بلا أجر 

وناسًا حاله زين
مصنع، مصنعين
طين في طين وين

تبدو الأغنية كملحمة نصية أدائية، حوّلها مصطفى إلى دراما موسيقية بدت أقرب إلى الموسيقى التصويرية على رأي عبد الجبار عبد الله (اختفى رابط المقال الأصلي من موقع سودانايل وبقي موجودًا في بعض المنتديات)، الذي صنّف عم عبد الرحيم ضمن أغنية السرد أو الأغنية المحكية، واعتبرها فتحًا موسيقيا جديدًا. حافظ مصطفى على نَفَس قصصي طيلة غنائه، وساير التصعيد الدرامي الذي أحدثه حميّد في القصيدة عند لحظة اصطدام القطار بعم عبد الرحيم وحماره، ليخلق بدوره ذروةً لحنية وأدائية تنعي بطل حميّد. اقترب أسلوب مصطفى سيد أحمد من الحكواتي، في استحضار لصور العائلة السودانية التقليدية، وجذورها النوبية القديمة على ضفاف النيل، عندما كانت القصص والأساطير الشعبية تلعب دورًا رئيسيًا في حياة المجموعة.

تظهر ملحمة عم عبد الحميد كإحدى المفاتيح الجمالية لفهم ما طمح إليه مصطفى، وتقدير الثنائية التاريخية التي شكلها مع حميّد وغيرت وجه الموسيقى السودانية.

ساهم توجّه مصطفى سيد أحمد المبكر إلى المسرح في تطويع نصوص حميّد الطويلة وتثمين البعد الدرامي فيها. من جهته، صنع حميّد من شخصيات الحياة اليومية في الريف ميثولوجيا شعرية مثّلت عم عبد الرحيم ذروتها، إلى جانب شخصيات أخرى ضمّنها في قصائده مثل نورة وعيوشة وست الدار بت أحمد، وكتب نصوصًا ملحمية أخرى مماثلة لعم عبد الرحيم، نذكر منها الضو وجهجهة التساب التي كتبها إثر مأساة السيول والفيضانات التي ضربت المنطقة سنة ١٩٨٨ وأدّاها مصطفى في وقتٍ لاحق.

حرص حميّد على تضمين الأماكن التي عاش فيها في قصائده، مستعينًا بعاميته المحكية التي احتوت على مفردات نوبية بدأت تنقرض شيئًا فشيئًا. يشير الصحفي سيد أحمد علي في مقال له إلى أثر الأماكن على شعر حميّد: “كان لمحطات حياة حمّيد أثرٌ كبير على شعره: هناك مدينة عطبرة (مدينة الحديد والنار) العماليّة، بكادحيها راكبي الدراجات، وورش صيانة القطارات؛ ثم العمل في مدينة بورتسودان (الميناء) وصور القطار الذاهب إليها، والعمل في الميناء حيث العمال النظاميين والعمال المزاورية (عمال اليوميّة)؛ ثم يأتي إلى الخرطوم للعمل والمشاركة في المنابر الطلابية في الجامعات لقراءة الشعر ثم الارتباط بمغنيي المنطقة، وبالمغني الراحل مصطفى سيد أحمد، الذي مر بمناخات حمّيد نفسها من الانتماء إلى قرية ثم التنقل في الدراسة في عدة مدن منها بورتسودان ثم الخرطوم.”

يتشارك الرجلان نفس ملامح النشأة. ولد مصطفى سيد أحمد في منطقة واد سلفاب على الضفة الغربية للنيل والتابعة لولاية الجزيرة٦ التي احتضنت المشروع الزراعي العملاق الحامل لنفس الاسم، فيما نشأ حميّد في قرية نوري المتاخمة للنيل. انتقل كلاهما بين الريف والمدينة، إما للدراسة أو العمل. استأنس مصطفى سيد أحمد برفيقه حميّد لصنع ملامح أغنية سودانية جديدة على المستوى النصي خاصة.

جيل بلا أساتذة | فتوحات لحنية وتوزيعية

“تجاوزت القصيدة الغنائية في تطورها ما كان يُقدّم في الوسط الفني، وذلك لجمود حركة التلحين والغناء. حتى عام ٨٥ كانت تُقدَّم أغانٍ لفنانين توقفوا عن الإنتاج منذ الستينات، بالرغم من كل المتغيرات التي وقعت. هذا يتضح من خلال النماذج المعاصرة التي تُقدم اليوم والتي تجاوزنا فيها أجهزة الإعلام. استطعنا أن نتجاوز عقبة الإعلام، وعن طريق الكاسيت وجلسات السماع استطعنا أن نوصل الكلمات المعاصرة بالألحان المعاصرة، متجاوزين كل القديم. صارت هنالك فجوة بين ما قدمناه وما كان يقدمه كبار الفنانين وأجهزة الإعلام. لذلك أُطلق علينا بأننا جيل بلا أساتذة، تعبيرًا عن ذلك الوحل الذي كان يغط فيه جاموس الغناء لفترة طويلة.” مصطفى سيد أحمد من إحدى اللقاءات الصحفية.

لا يمكن أن نتناول مصطلح جيل بلا أساتذة بمنطق القطع الكلي أو انتفاء المراكمة التي حدثت قبل جيل مصطفى. سبق لمصطفى أداء أغنية حبيبي اكتب لي للكاشف على سبيل المثال، أحد روّاد أغنية الحقيبة، كما أنه ثمّن دور الموروث الموسيقي والشعري في صناعة ملامح المرحلة الجديدة. ربما يكون المقصد من ذلك أن عربة التجديد لم يكن لها قائد واحد، لكنها واصلت شقّ طريقها بالرغم من معارضة المحافظين. لا بد من الإشارة هنا إلى بدايات مصطفى في المعهد العالي للموسيقى والمسرح، التي كانت البذرة الأولى في مشروعه ككل، حيث تتلمذ على يد أستاذ من كوريا الشمالية خلال منتصف السبعينات، وتمكّن من صقل صوته ورؤيته اللحنية. 

دافع مصطفى عن الهارموني والكونترابنط (تعارض النغمات) وتثويرهما لمشهد الأغنية الجديدة، رغم معارضة المحافظين واتهامهم بأن الأساتذة الكوريين الذي كانوا في المعهد قد أفسدوا الأغنية السودانية. كان لذلك أثر كبير في توجهه الموسيقي. تخلى مصطفى عن اللحن الميلودي الأحادي الذي ميّز أغنية الحقيبة، وأظهر توجهًا واضحًا إلى البناء الموسيقي ككل. كان هاجس مصطفى الوصول إلى “غناء يتخلص من الذاتية إلى الموضوعية”. ترجم ذلك أسلوبيًا من خلال البناء اللحني والهارموني، الذي اعتُبر ثورة في الأغنية السودانية وقتها. 

أظهر مصطفى ثيمات تجديدية مهمة في أغانٍ مثل طيبة والشجن الأليم والحزن النبيل والبت الحديقة، ونورة، التي مثّلت تعبيرًا فارقًا على اكتمال عناصر التجديد التي صقلها مصطفى، نصًا وتوزيعًا وأداءً. حضرت الوتريات والآلات النفخية في توزيع ملحمي في الأغنية، كما أظهر مصطفى طاقات أدائية فريدة، وطوّع صوته الشجي لخلق مساحات تطريبية بارزة من خلال محاكاة آلة الترومبيت في بعض المقاطع، حاشدًا زخمًا شعوريًا كثيفًا في أدائه؛ حتى أن حميّد ظهر في إحدى البرامج التليفزيونية وهو يذرف الدموع عند استماعه لأداء مصطفى الحي لـ نورة.

أوجد معهد الموسيقى والمسرح منهجية مغايرة للموسيقيين والمغنين الذين تشبعوا بالتراث الموسيقي في السودان، وتفتحت أدمغتهم على التكوين العلمي الذي وفّره المعهد مع وفود أكاديميين من الخارج. بدأت أفكار التوزيع تهيمن خلال المسارات اللاحقة التي شكّلت الأغنية السودانية. استنصر مصطفى بأحد أبناء المعهد، يوسف الموصلي، ووجد فيه مفتاح التوزيع الذي نذره. تعامل مصطفى مع يوسف الموصلي في توزيع العديد من ألبوماته وأغانيه، مثل ألبوم الحزن النبيل والبت الحديقة وأوبريت طفل العالم الثالث، التي شارك فيها مصطفى مع محمد وردي ويوسف الموصلي، وتغنت بطفل الإعانات الإفريقي. 

درس الموصلي في معهد المسرح والموسيقى، مثل مصطفى، وتأثر برياح التجديد التي حرّكها المدرسون الوافدون على المعهد وقتها، ثم انتقل بين مصر وأمريكا لإتمام دراساته الموسيقية. اهتم الموصلي بالبناء اللحني، وركز على الثيمات التجديدية التي دعا إليها مصطفى بالإضافة إلى مساهمته في وضع شكلٍ مختلف للتوزيعات الموسيقية. كانت أغنية الحقيبة سبّاقة في تغيير شكل الآلات المعتمدة في صناعة الأغنية باعتمادها على الكورس وإدخال الأكورديون والبيانو والكمنجة، في حين بدأ مصطفى والموصلي والبقية بتوسيع الاعتماد على آلات النفخ والأرجن والجيتار الكهربائي. ظهر ذلك في أغانٍ مثل رسمت في وجيها بسيمة ضوء والممشى العريض ويا بت يا نيل.

لم يقتصر التعامل بين مصطفى والموصلي على التلحين والتوزيع فقط. استعاد مصطفى أغنية الأماني السندسية ليوسف الموصلي، الذي صرّح في حوار معه بأن مصطفى تفوق عليه في أداء الأغنية، وكان يتمنى لو لم يسجلها بصوته بعد أن استمع إلى نسخة مصطفى. في أظنك عرفتي، وصلت تجربة الثنائي مرحلة نضجٍ متقدمة. استغل الموصلي علبة أدواته التجديدية لبناء عمل مختلف ومعقد. ركّز بشكل كبير على دور الأوركسترا لنقل الحالة الشعورية في النص على مستوى اللازمة وفي نهاية الأغنية خاصة، كما استعان بالوتريات لإبراز الكونترابنط من خلال مجموعة الكمنجات. 

بدت خاتمة أظنك عرفتي كتحشيدٍ للوتريات خلف صوت مصطفى الذي قطّع النص إلى وحدات إيقاعية بشكل بديع، وانتقل من لحظة ذروة أدائية تصعيدية في: “ﻣﺴﺮّﺡ ﺧﻴﺎﻟﻚ / ﺣﺼﺎﻧﻲ ﺍﻟﻘﺒﻴﻞ / ﻣﻌﺮﺑﺪ ﻏﺒﺎﺭﻩ / ﻭﺧﻠﻰ ﺍﻟﺼﻬﻴﻞ / ﻣﺴﺎﻓﺮ ﻣﺴﺎﻓﺮ / ﻭﻓﺎﻗﺪ ﺩﻟﻴﻞ”، إلى مستوى القرار عند: “أﻇﻨﻚ ﻋﺮﻓﺘﻲ / ﻫﻤﻮﻡ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞ”، مفرغًا حمولة من الشجن دفعة واحدة، ومسايرًا لحن الأغنية الذي انتقل من الشدة إلى اللين. كان الموصلي دائم الحماس في حديثه عن أظنك عرفتي كإحدى أكثر الأعمال تعبيرًا عن روح التجديد في الأغنية السودانية، ومرحلة الإتقان التي وصلتها على مستوى أداء العازفين وجودة اللحن: “استمعوا بالله بدقة للأداء الديناميكي لهؤلاء (يقصد عازفي الكمنجات) وانتبهوا إلى التوحد والانتقال من الشدة إلى اللين في سلاسة متناهية. في الجزء الأول من الأغنية يبدأ الموضوع عاديًا وحين الوصول إلى الكوبليه الأول وإلى النهاية تسمعون هذه المصاحبة الكاونتربوينتية، وفي الكوبليه قبل الأخير تصل دراما المصاحبة قمتها بالاتجاه الهارموني.”

رغم قيمة ما قدمه الثنائي، جوبهت أعمالهما بالكثير من الهجوم وقتها. لم يكن أغلب المتابعين للمشهد الموسيقي في السودان على استعداد لتقبل ذلك الحجم من التغييرات دفعة واحدة، لذا لم تحظَ أعمال مصطفى بالكثير من الرواج في الإذاعة والتلفزيون. عزا البعض السبب إلى مواقف مصطفى السياسية، لكن قصر ثورة مصطفى على الجانب السياسي يحجب عنا القيمة الحقيقية للتجديد الذي راده في الأغنية السودانية. يشير محمد أزهري علي إلى أن أغاني مصطفى قد دخلت إلى الإذاعة من الباب السري. حاول مصطفى تخطي التعتيم الإعلامي عن طريق جلسات الاستماع التي حوّلها إلى تجارب ترويجية مهمة، وكانت بمثابة شكل مقاومة خاضها بمعية آخرين لتخليص الأغنية السودانية من الارتهان لوسائل الإعلام. يمكن اعتبار تلك الجلسات امتدادًا لفكرة الورشة التي أسسها مصطفى لاختيار قصائده بمعية بقية الشعراء. 

كانت الجلسات تقام في مدارج الكليات والبيوت الخاصة، مثل بيت مصطفى الذي كان يجمع فيه أصدقائه وجمهور السميعة، ومكّنتهم من الاقتراب من الأسلوب الخام لعزف مصطفى وصوته القوي المليء بالشجن. تظهر أغنية الندامة كإحدى العلامات المضيئة لتلك الجلسات، بالإضافة إلى كوني النجمة التي كتبها له الشاعر قاسم أبو الزيد. اشترك قاسم مع حميّد في عدة ملامح كتابية، من خلال استعماله لمجازات من وحي الطبيعة المائية والزراعية: “وادي الفرح اتمد مساحة”.

بصحبة الشعراء الذين تعامل معهم وعلى رأسهم حميّد، والموزعين الموهوبين مثل الموصلي، حرّر مصطفى سيد أحمد جاموس الغناء السوداني من الوحل الذي تخبّط فيه لسنوات عديدة، ونجح في أن يكون شعبيًا دون وساطة أجهزة الإعلام التي سيطرت عليها حكومات السودان الانقلابية على امتداد سنوات عديدة. جعل مصطفى ومن حوله الأغنية السودانية أوسع من الحقيبة، التي سيطرت مجازيًا وفعليًا على مراحل طويلة من تاريخ الموسيقى في السودان، وأمسك بمفاتيح جديدة للأغنية السودانية، منطلقًا من انتقائه للأشعار على قاعدة السرد والحبكة الدرامية والرمزية.


١. هناك روايات متضاربة حول تاريخ الحفل، والبعض يرجعها إلى ١٩٢٠ أو ١٩٢١.

٢. يعرّف الفاتح حسين أحمد الطنابرة بالمغنين الرجال الذي يصاحبهم كورس يؤدي الطنبرة، وهو عبارة عن تصويت يصدر عن الحنجرة في محاكاة لصوت الإبل، ويعرف أيضًا باسم الحمبى أو الكرير.

٣. يربط البعض التسمية بالبرنامج الإذاعي بعنوان حقيبة الفن لصلاح أحمد. تميزت أغنية الحقيبة بإدخال اللازمة إلى الغناء والاستعانة بالأوركسترا، مع منح مساحة كبيرة للارتجال المصاحب للحن.

٤. الفاتح حسين أحمد، الارتجال والغناء في الموسيقى السودانية، صفحة ٥.

٥. كان مصطفى سيد أحمد يسمي خلوته بغرفة العنكبوت، التي كانت بمثابة ورشته الموسيقية حيث يعمل على ألحانه ويختار نصوصه، في جو من التنسّك الموسيقي. حوّل مصطفى غرفته إلى صالون أدبي، وبدأ يستقبل زوّاره ويحتضن جلسات السماع.

٦. نسبةً إلى اسم المشروع الذي تأسس تحت الاحتلال البريطاني للسودان، وتبلغ مساحته مليونين ومئتي ألف فدان، ويعد أكبر مزرعة مروية في العالم تحت إدارة واحدة.

المزيـــد علــى معـــازف