.
بوصلتنا إحنا | معايير فرضها طوفان الأقصى
بحث | نقد | رأي

بوصلتنا إحنا | معايير فرضها طوفان الأقصى

يوسف رخا ۲۰۲٤/۰٦/۱۳

“وينك يا بلادنا؟ حبيناها بكاتنا

ناس باعتنا ما شراتنا ما يحبوش الإنسان” ~ بلطي

مش متأكد إن عندي حاجة أقولها عن الموسيقى في السياق لكن متأكد إن الموسيقى ينطبق عليها اللي عندي أقوله. الكبوة، والإحباط، والربيع اللي قلب زعابيب بعد ما كان نوّر وفرّحنا. 

معظم الناس طبعًا ما سألتش نفسها عن حقيقة الربيع دا ظهر إزاي وإيه اللي خلاه يطلع كدبة، ولا فكرت في احتمال إنه يكون واجهة مش صالحة إلا للاستهلاك التجاري يعني ما لهاش تأثير على قيمنا ولا مستقبل مجتمعاتنا في الحقيقة. والسبب في الشلل عن التفكير أظن أو جزء كبير من السبب هو إن انبطاحنا للإمبراطورية مخلينا مش قادرين نقيّم أو حتى نعرف إحنا عايزين إيه. عند الجماعة اللي أنا غصب عني وسطها مثلًا، أي حاجة بتحصل أو تتقال في أمريكا تبقى مش بس كويسة وإيجابية لكن واجب أخلاقي علينا نستنسخها زي ما هي من غير أي نقد أو سؤال عن معناها بالنسبالنا. فيه تعامل مع بروباجندا العالم الحر وبروتوكولات الووك باعتبارها مطلقات مُنَزّلة برة التاريخ، مع إن كل حاجة بتقول إنها جزء من حركة سياسية نتيجتها المنطقية انقراضنا كجماعة أو ثقافة عايزة أو قادرة يكونلها إرادة من أي نوع.

أنا طبعًا بتكلم عن حاجات زي برامج التلفزيون وترندات الأكل والقراية وتشريعات الصوابية والجندرة، لكن حتى مقومات الحياة السياسية المعاصرة – الدولة الوطنية، والانتخابات، والنشاط الاحتجاجي – ما حدش قادر يشوف إنها جوانب من نفس المنظومة الرأسمالية العنصرية اللي مطلعة دين كل البشرية تقريبًا من حوالي ٣٠٠ سنة، وإنها على الأقل من ناحية معينة موجودة عشان تداري على احتكار وسائل الهيمنة من فلوس وسلاح واستئثار بالتجارة في البشر.

مؤخرًا بقى مثير جدًا بالنسبالي في خطاب إسرائيل واللي بيدعموها فكرة إنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة والوحيدة اللي فيها الستات ومجتمع الميم متمتعين بحقوقهم كاملة، كإن الحقوق دي بتعريفها مشروطة بموت الفلسطينيين أو ع الأقل تشريدهم. كإن وجودنا في الدنيا من قبل ما نعمل أي حاجة عائق استراتيجي في وش الحرية. طبعًا اللي رجعني أفكر في المسائل دي هو إني بعد ٧ أكتوبر حسيت إن فيا حاجة اتغيرت. مش في أدائي المعلن بالذات، مش في علاقاتي أو شغلي اللي نُصه لسه في أمريكا عادي، لكن في إحساسي بالعالم نفسه.

أتصور الثورة الحقيقية ممكن ما يكونلهاش علاقة بالظواهر الموضوعية اللي برانا قد ما ليها علاقة بشكل العالم في عينينا. نجاحها مش معناه إن حكم سيء يُستبدل بحكم أسوأ منه قد ما معناه إنك تكون شفت حاجة غيّرتك لدرجة إنك لما ترجع تبص للدنيا تلاقي شكلها حقيقي اختلف. 

ودا اللي عَمَلِته فيا أحداث فلسطين. ممكن أكون لسه بتعامل زي ما كنت بتعامل قبلها وممكن العالم اللي بتعامل جواه يكون شكله زي ما هو لكن الحقيقة إنه ما بقاش هو خالص، ولا بقى ممكن أشوف نفسي فيه زي ما كنت شايفها قبل كده. في أول كم أسبوع كنت متخيل إنه بما إن الثورة بالمعنى دا أكيد نجحت عند ناس كتير من الجماعة اللي أنا وسطها – وبما إنه فات عشر سنين أو أكتر على كبوة الربيع الكبيرة اللي زعلتنا من بعض – فيمكن نكون بقينا جاهزين نتخطى خناقاتنا الهبلة حوالين الجيش والإخوان والمخلوق الخرافي اللي اسمه “القوى المدنية”، والإصرار المَرَضي عند كتير مننا على تقديس المظاهرة لمجرد إنها مظاهرة بغض النظر مش بس عن نتايجها لكن حتى عن أهدافها نفسها، والتكرار الأصولي لمسلمات النظام الديمقراطي الليبرالي من غير انتباه للي نفس النظام دا عامله فينا وهو عنده من البجاحة اللي يخليه يحاسبنا ويطلعنا إحنا اللي ساقطين أخلاقيًا كمان. 

يعني بعد ما شفنا أمريكا وأوروبا قد إيه جاهزين يعاملونا زي الدبان – وبعد ما شفنا المظاهرات في أمريكا وأوروبا الحقيقة: ما أظنش حد ممكن يتخيل إنهم هناك متضايقين من اللي بيحصل في غزة أكتر مننا إحنا هنا، لكن هُمَّ بيتظاهروا وإحنا لأ، وإنت أول ما تاخد بالك إن مظاهراتهم دي ما لهاش بتلاتة تعريفة تأثير على القرار السياسي تنتبه لإن النشاط اللي م النوع دا زيه زي الصحافة “الحرة” وحرية التعبير والمنظمات الحقوقية إلى آخر كل الكلام دا، الغاية الكبيرة من وجوده هو إنه يكون غلاف براق لمحتوى استعماري وعنصري واستغلالي: ناس يقتلولك أبوك وبعدين يبيعولك جثته عشان تدفنها وهُمَّ بيتعالوا عليك أخلاقيًا، ولما تحاول تعترض يحبسوك ويعذبوك بدعوى إنك إرهابي … وتعرف إن مش معنى اللي حاصل إن هُمَّ عندهم حرية ومشاركة سياسية وإحنا عندنا قمع واستبداد أو ع الأقل مش معناه كدا بس – كان عندي طموح بس نبدأ ندوّر على مساحة حوار إحنا اللي نحدد شروطها من مكانا وخبرتنا. حوار يحصل بمنطقنا ومرجعياتنا وبوصلتنا إحنا، مش اللي يحددلنا نطاقه مستعمر أو مهيمن ما هواش متخيل إننا ممكن نكون بنيآدمين من غير ما نبقى زيه وفي نفس الوقت مش قادر يصدق إننا ممكن نبقى زيه أبدًا فمقرر إننا مش بنيآدمين. وحوار يطلع منه خطاب متماسك وحقيقي يعبر عننا. 

يعني لما يبقى فيه مجال حوار مستقل – ومستقل مش معناها أصولي ولا قومي ولا أيديولوجي خالص، ولا معناها إنه فاقد الصلة بمعطيات العصر وتفاصيل الحياة اللي الغرب فرضها برضه، لإن دي بقت معطياتنا وتفاصيلنا كمان – ممكن نلاقي طريقة نخرج من الدايرة المفرغة بتاعت إننا عايزين نبقى زي الخواجات فنبقى مضطرين نقبل بشروط تخلي أوضاعنا أسوأ، ويعني الحاجة المفترض إنها حلوة هناك عبال ما توصل عندنا تكون اتحولت لكابوس، نقوم نرجع نحس إن الخواجات أحسن مننا وإحنا عايزين نبقى زي الخواجات وهكذا دواليك.

يعني سيبك من إن أهم كاتب عندك اكتسب أهميته من إن جماعة سوايدة قرروا ييجوا على نفسهم ويعترفوا إن فيه حد بيكتب بالعربي في سنة من السنين. سيبك من إن تلتربع مسلسلاتك وأفلامك منقولة من شغل أمريكاني واقع وحتى أما تيجي تعمل برنامج “تقدمي” وغير مسبوق تبقى بتفتخر إنك بتعيد إنتاج برنامج تلفزيون أمريكاني ماينستريم. وبتعيد إنتاجه بحذافيره، بكل افتراضاته عن الحق والخير والجمال، وبكل إنكاره لوجودك إنت شخصيًا. وبتعيد إنتاجه من غير ما تطرح ربع سؤال حقيقي عن “الثوابت الوطنية” اللي عاملالك شلل. تخيل إن اعتراضك على اللي بيحصل في فلسطين ما يبقاش جاي من غريزة بقاءك كعربي ومسلم شايف عرب ومسلمين بيُبادوا قد ما هو جاي من إنه حسب قواعد المنظومة الغربية ما يصحش جيش يموّت مدنيين! أو إن كون المسلمين أقلية مضطهدة في أوروبا يبقى معناه إن معارضة تيار أقل ما يقارن بيه في الغرب هو النازية الجديدة في مجتمع غالبيته مسلمة تبقى إسلاموفوبيا! 

فاكر في التسعينات شاب من جماعة أدبية خرج وهو لابس تي شيرت عبارة عن علم إسرائيل عشان يستفز الناس في الشوارع. كانت أجواء تجاوز وتمرد على الثوابت بقى. بعد كدا بكتير، سنة ٢٠١٠ أظن، فيه حد وهو قاعد معايا ع القهوة بدأ يدافع عن قرار إن كتابه يتنشر بالعِبري على أساس إن اللي بيقروا في إسرائيل أكتر بكتير من اللي بيقروا في العالم العربي. حد تقدمي واشتراكي وكل حاجة. دلوقتي لما بفتكر الأريحية اللي كان بيتكلم بيها حقيقي ما ببقاش مصدق. هل فعلًا الناس دي – وأنا معاهم يعني – ما كناش واخدين بالنا إسرائيل دي إيه وليه؟ هل كنا متصالحين مع انقراضنا؟ هل تصورنا إن الخرا اللي عندنا من فاشية دينية وقمع أمني وغياب تام لآليات الكفاءة والمساءلة سببه إننا مش موطيين كفاية للإمبراطورية اللي مش شايفالنا لازمة أساسًا؟ والأهم من دا كله: إزاي صدقنا إن الحزب الديمقراطي الأمريكي أو الاتحاد الأوروبي  أو الأمم المتحدة أو محمد البرادعي ممكن بجد ينصفونا؟ 

بعد ٧ أكتوبر فكرت إننا كـ”قوى ثورية” أو “نخبة ليبرالية” أو “طلائع يسار” – سمّينا زي ما تسمينا مش مهم – يمكن بقينا جاهزين ننتبه لقد إيه إحنا مخترقين ومتناقضين ومفرّغين من محتوانا، وفكرت إننا وإحنا بنتحول لشهود على جريمة غير مسبوقة في حياتنا – حكامنا إحنا كمان شركاء مباشرين فيها – ممكن نبدأ نكلم بعض بشكل تاني، بشروط ومرجعيات غير شروط ومرجعيات الدونية اللي وجهتها الغرب، شروط ومرجعيات تخلي الأولوية لبقاءنا إحنا ومزاجنا إحنا ومصلحتنا إحنا. إننا نلاقي لغة جديدة تعبر عننا، ونطور مفاهيم عضوية لخبراتنا والأوضاع اللي بنلاقي نفسنا فيها. طبعًا ما فيش مانع أبدًا المفاهيم دي تتقاطع أو تمتزج مع مفاهيم “حديثة” أو “معاصرة” برضه بس بشرط إن اللي يخصنا فيها ما يتحيدش ويختفي، إننا ما نبقاش بنبيع نفسنا ببلاش. لكن بأمانة في الآخر ما لقيتش حد أكلمه. 

التفاعل الوحيد اللي حصل مع أهل بلدي هو إني عملت بلوك لعيل خول (هو كاتب وناشط مش مثلي لكن دا وصفه الموضوعي فعلًا: عيل خول). وبين الحنجرة التقليدية اللي معمية عن حقيقة قدراتنا والتلاحة “الواقعية” اللي معمية عن إن سكوتنا ع اللي بيحصل انتحار، مسحت كل تغريداتي عن غزة واكتفيت بالمقالات اللي كتبتها وسكت. 

لكن كمان العزلة بتحبطني وتهبّطني حتى لو كنت، في سياق مجهودات القبول بالأمر الواقع، قررت أبطل أتابع الأخبار والتايملاينز من كتر ما بتعملي رعب وغضب وفجيعة ومن كتر ما بتحرق دمي التجارة باللي بيحصل مش بس من جانب الإسلاميين لكن كمان المنايك اللي خرجوا من البلد خالص وبقوا يكتبوا في السي-في “سجين سياسي” و”مناضل برخصة”، وبقت شغلتهم إنهم ينظّروا علينا من جوة العالم الحر بفوقية وتدليس ما لهمش أي فايدة غير إنهم يطلعوهم هُمَّ أبطال ويجيبولهم لايكات وفولورز وفندات عشان يبقوا بيغيروا العالم على طريقة لو اتأخر الفند نأجل الثورة، واللي بدعوى النقاء الثوري ما عندهمش مشكلة يخوزقوا ويجرسوا حتى أصحابهم ورفاق سلاحهم من غير أي إحساس بالغلط، واللي هُمَّ بقوا بالنسبالي مش بس عاملين زي عملاء مخابرات غربية غير مدفوعي الأجر لكن كمان زي المخبر المحلي اللي كان بيكتب تقارير في زمايله وصحابه وساعات حتى أهل بيته.

المهم إني وأنا بكتشف ممكن للمرة التالتة أو الرابعة في حياتي قد إيه صدفة ولادتي في المكان دا في الوقت دا مخلياني رخيص وعاجز رِجِعلي إحساس قديم وعميق إن أنا – حتى وأنا عايش في نفس الحي اللي اتولدت فيه – برة بلدي. إني زي الفلسطينيين اللي خرجوا من بيوتهم وما قدروش يرجعوا عشان يبقى فيه دولة عالم أول فيها انتخابات نزيهة وحكم مدني حر وعَلَم رينبو ومجاهرة بالإلحاد … يعني منفي من غير ما أبقى منفي. 

أنا بصراحة ما عدتش متأكد من شكل الحوار اللي تصورته في بداية الأحداث ولا الخطاب اللي حيطلع منه دا ممكن يبقى إيه أو يتقاطع ازاي مع الخطابات التانية المسيطرة بحيث إنه يكونله ترجمات عملية وحتى مع الوقت سياسية. لكن الحقيقة إن أكتر حاجة بتحسسني باليأس هي الشك في إن الجماعة اللي أنا في وسطها غصب عني دي لسه مش جاهزة تتخلى عن إحساسها بالدونية قدام الخواجات. ولا قادرة تشوف نفسها برة الأقفاص الحقيرة اللي هُمَّ حطونا فيها. 

ومع ذلك – يمكن لأول مرة في حياتي بالوضوح دا – حاسس إن الكورة بقت فعلًا في ملعبنا.

المزيـــد علــى معـــازف