.
على الكورنيش الممتد من عين المريسة حتى رملة البيضاء في بيروت، بقي المشهد ثابتاً منذ نهاية الحرب الأهلية عام ١٩٩٠ حتى ٢٠٠٦ تقريباً: سيارات راكنة في داخل كل منها شاب وحيد، أو حبيب وحبيبة، يستمعان إلى جورج وسوف. هؤلاء كلهم معذّبون في الحب. أو هكذا يخيّل للناظر إليهم من بعيد.
كيف تحوّل جورج وسوف إلى أيقونة هؤلاء؟ كيف أطاح بهاني شاكر، وأغنيته الشهيرة نسيانك صعب أكيد، عند جيل كامل من الشباب اللبناني/الشامي (نسبة إلى بلاد الشام) أولاً ثم العربي؟ لا أجوبة دقيقة على هذه الاسئلة، كما أنّه لا أجوبة دقيقة على علامات الاستفهام التي ترتسم حول غموض حياة أبو وديع، هو القادم من مكان غريب، هو اللبناني وهو السوري، هو النجم، وهو الغاضب دائماً في الوقت نفسه على كل معايير النجومية العربية: لا وجه وسيم، ولا ملابس باهظة، ولا لسان مؤدّب، ولا حياة باذخة ترسّخ من نجوميّته والكثير من الأخبار عن خرقه كل الخطوط التي رسمها المجتمع: الإدمان على المخدرات، إلقاء القبض عليه، ملامسته الموت، الزواج السري. ومع ذلك هو كما هو، حالة لوحده. هذا المزيج، جعله الأكثر صدقاً في العقود الثلاثة الأخيرة على الساحة الفنية، والأقرب إلى جيل كامل من الشبان والشابات المحبطين والمحبطات من الحرب الأهلية، ومن علاقات الحب المستحيلة والتي امتدت على طول الوطن.
لعل السؤال الاهم هنا هو كيف كرّس نفسه أسطورة، مرافقاً باغانيه كل التحولات السياسية في لبنان، من إحباطات الحرب، وبداية “السلم”، إلى البهجة مع إطلاق مشروع إعادة الإعمار الحريريّ ــ نسبة إلى رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري- ــ ثمّ الإحباط من جديد؟
الإحباط السياسي في العالم العربي، وفي لبنان خلال الحرب وما بعدها، بدا متلازماً مع الإحباطات التي حملها وسّوف في صوته، وفي أغانيه. بينما كان اللبنانيون يدفنون أقارب وأحباء، ويبحثون عن مفقدوين خرجوا ذات يوم ولم يعودوا، كان أبو وديع ينعى حبّه الضائع، ينعى حبيبة خائنة، ومجتمعاً يعيش على الكذب والنفاق، هو الذي تصوّرناه آتياً من مكان يختزن وجع الكوكب، ويختزن قصة حب عاصفة انتهت بخيانة موجعة. مع كل أغنية، كان الوسوف يفتح الباب أمام خيال إضافي حول حياته العاطفية المعذبة، رغم أنه لم يكن من هؤلاء الفنانين الذي تلاحقهم الشائعات الغرامية.
تقول القصة الشعبية المتناقلة في أحياء بيروت إنه في منتصف الثمانينات، وعند حصول وقف لإطلاق النار، كانت ترتفع من الأزقة على مختلف انتماءاتها أغنية واحدة هي روحي يا نسمة، يغنيها صوت غريب. وكانت كلمات الأغنية التي كتبها ميشال جحا، ولحنها نور الملاح، بمثابة دليل على وقف المعارك. وعلى هدنة غالبا ما كانت ليلية. وتقول القصة أيضاً إن هؤلاء المتقاتلين كانوا متاشبهين في كل شيء، ولم يعرِّ واقعهم هذا إلا جورج وسوف: هم يعشقون بنفس الدرجة، ويتعذبون بنفس الدرجة ويشتاقون بنفس الدرجة، أما إحباطات الطوائف والأحزاب والايديولوجيات، فكانت فقط ضرورات المرحلة، ضرورات الوجود.
ثلاثون عاماً مرت على تلك المرحلة، ثلاثون عاماً كرّست جورج وسوف أباً، ولساناً وصوتاً لهؤلاء الذين أحبوا، فلم تأتهم إلا الطعنات، والخيانة. عرف جورج وسوف كيف يطيح بمنافسيه في هذه الساحة، عرف باللهجة المصرية التي غناها في أغلب أغانيه، كيف يدخل القاهرة، ويتفوّق على هؤلاء الذين بنوا شهرتهم ومجدهم على كآبة الحب وإحباطاته: هاني شاكر، محمد محيي، وحتى محرم فؤاد. من مدرسة أخرى جاء جورج وسوف.
في أغنية الحبايب التي تضمنها ألبومه الأول الهوى سلطان (١٩٨٤) والتي كتب كلماتها ولحنها زهير عيساوي، يقول بصوته الغريب إياه والذي لم يكن قد أخذ هويته الأخيرة بعد “الليالي تمرّ علينا، والسهر جرّح عنينا… باعوا فينا واشترونا وما حكينا… آه يا ريتهم بالمحبة ينصفونا”، بكل ما تحمله هذه العبارة من وجع نفسي وجسدي، يعود ليلحقها في المقطع الثاني يإحدى أكثر الجمل عشقاً: “غوالي غوالي علينا غوالي… أغلى منهم ما في عنّا، ما في يا ليالي”. تختصر هذه الثنائية وهذا التناقض في الكلام، ومعها المشاعر، الخطّ الذي رسمه أبووديع لنفسه، وفي الصورة التي رسمها بهدوء وتأنِّ طيلة أكثر من ثلاثة عقود. وهي العقود التي رافقت تغيّر وجه لبنان أكثر من مرة، من انتصاف الحرب الأهلية الكبيرة والحروب الصغيرة بداخلها، ثمّ دخول مرحلة السلم الأهلي المزيفّ، ووعود الحياة المترفة الآتية، ثمّ مرحلة انهيار هذه الأحلام، وتراكم الدين العام، وصولاً إلى مرحلة الاغتيالات السياسية، ودخول لبنان أزمته العقيمة المستمرة، بالتوازي مع الحراك الذي شهدته المنطقة، منذ انطلاق ثورات الربيع العربي.
متيّم أبو وديع حتى ولو تعذّب في غرامه، متسامح حتى لو تعرّض للخيانة، هو الصابر مهما بعدت المسافات. هي الثنئاية المتعارضة التي صورته كالضعيف في الحب، الصورة التي قرّبته اكثر من كل هؤلاء الشباب الذي تماثلوا معه إلى حدّ الذوبان التام، فانتشرت في منتصف التسعينات الوشوم التي تحمل كلمات أغانيه، والملصقات التي تزّين زجاج السيارات الخلفي، والتي تحمل عناوين أغانيه، وحتى صورته.
صورة المهزوم هذه كرّسها البومه الثاني روح الروح (١٩٩٢) والذي تضمّن سبع أغانٍ تمّت كتابة كلماتها كلها بتأنٍ لتكرّس الصورة التي اختارها لنفسه. وقد عرف شاكر الموجي الذي كان أقنوماً أساسياً في نجاح أبو وديع، كيف يلحّن هذا الكلام: جرحونا، روح يا روح الروح، لو نويت، بتعاتبني على كلمة، اسمعيني بكلمة، سلّمتك بيد الله، وأخيراً أوعديني التي لاقت الانتشار الأقلّ والجماهيرية الأقلّ، رغم أنها كانت المسار التصاعدي الطبيعي للعلاقة العاطفية المدمّرة في باقي أغاني الألبوم. كلمات الأغنية التي كتبها نبيل مهدي: “إوعديني إوعديني إوعديني/يللي إسمك كان يميني توعديني/لو قابلتك مره صدفه توعديني/إوعي تمشي وتسيبيني /إوعديني… إوعديني / إوعديني تمدي ايدك /تاخدي من ايدي السلام / وان لمحتي دموع في عيني / ما تجيبيش سيرة الخصام / ما تقوليش ليه افترقنا / ما تجيبيش سيرة فراقنا //خللي جرح القلب نايم /جوّا أحضان الليالي” هي مرحلة الاعتراف بالهزيمة، والانتقال إلى التعامل معها، جنباً إلى جنب مع شعور القسم الأكبر من اللبنانيين أن معاركهم كلها انتهت بهزيمة كبرى، كرّسها اتفاق الطائف، ودخول البلاد مرحلة التطبيع مع هذه الهزيمة والتعامل معها. هكذا فعل الوسوف مع حبيبته، هكذا فعل اللبنانيون مع خيبتهم.
في التسعينيات أيضاً، ومع ألبوم شيء غريب كانت مسيرة جورج وسوف، تتخذ مسارها متجهة نحو النجومية المطلقة. ونحو تكريسه سلطاناً للطرب، لتتحوّل أغنيته غلابة في الحب (كلمات إبراهيم الدوراني وألحان شاكر الموجي أيضاً) إلى ما يختصر مسيرته الغنائية قبلها، والمسيرة الآتية بعدها، لجهة الكلام الغنائي الذي اختاره. هو الخسران في الحب، مهما دارت الأيام، وهو “الغلبان اللي بخته قليل.”
لكن بينما كان صوت ابو وديع يحتل سيارات الشبان الذي يجوبون الأحياء، رافعين صوت الموسيقى، كان الوسوف ينقلنا تدريجياً إلى مكان آخر، إلى حب جميل، ومختلف. حصل ذلك تحديداً في العام ١٩٩٤ مع ألبوم كلام الناس. وهو العام نفسه الذي بدأت في الحريرية السياسية تبشرنا بـ”مستقبل مزدهر”، مع إعادة الإعمار، وقبلها طبعاً مع إطلاق تلفزيون المستقبل، قناة الازدهار والبهجة الآتيين لا محالة. وكان أبو وديع حاضراً أيضاً. تحديداً في الحلقة التلفزيونية الأشهر من برنامج الليل المفتوح. كان صوته قد اتخذ شكله المستقر والراسخ في أذن المستمع، وكان قليل من الفرح قد تسلسل إلى قصص الحب المستحيلة. فكانت حبيبي كده التي تحمل كل التأويلات الممكنة لكلمة كده المصرية المتعددة الاستعمالات. لكن في أغنيته نفسها التي كتبها وليد زريقة ولحنها (كما أغلب اغاني الألبوم صلاح الشرنوبي)، يذكرنا أبو وديع بمآسيه السابقة “تبقى جنبي بنسى روحي، برضاك برتوح جروحي، وانت يا أحزاني روحي، في الأحلام ما احنا يا دوب”. غناها أبو وديع بفرح، وبرقص، وبحركة نادرة لم نرها قبل، مباشرة في حلقة الليل المفتوح إياها. فكانت “البهجة القادمة إلى اللبنانيين” ترافق مع بهجة أخرى حملتها أغاني الوسوف.
وحتى في أغنية الحب الأولاني في الألبوم نفسه، ورغم صعوبة نسيان الحب الأول، أدى الوسوف الاغنية بنبرة مرحة. في الإطار نفسه تندرج أغنية انت غيرهم (كلمات فوزي إبراهيم. ألحان أمجد العطافي ٢٠٠٢) حيث يروي لحبيبه، كي نعرفه جميعنا عن عشيقاته السابقات “اللي خانوا في الهوى وباعوا ضميرهم”. وبالحب الجميل نفسه كانت حنينك حنيني وقلب العاشق دليله.
صياد الطيور
قصة أخرى تقول إنه في طائرته المتوجّهة من القاهرة إلى بيروت، وضع جورج وسوف يده في جيبه، ليجد ورقة كتبها له أحمد فؤاد نجم، عليها قصيدة صياد الطيور. القصيدة لم تكن جديدة وسبق وغناها الشيخ إمام، لكن نجم نفسه اعترف لاحقاً بأنّ النسخة التي غناها جورج وسوف أبهرته. أعطى وسوف القصيدة لشاكر الموجي الذي لحّنها، بشكل يليق بالكلام، الذي كان حقل ألغام لم يدخله الوسوف قبلاً، حدوتة الأغنياء والفقراء، حدوتة القوي والضعيف: “يا صياد الطيور يا خالي / بشوف الصقر فارد في الهوى باعه / اتباعه نشرهم في الفضا جاعوا / طيور ثانيين صُغار مساكين / جواعى لكن لا هم نايمين ولا صاحيين/ عشان نابه ومِخلابه تلاقي الكل احبابه / ودنيا تخاف من القوة”. الكلام واللحن وضعا في قالب مناسب للسوق وقتها مع توزيع موسيقى يشبه ما كان سائداً في التسعينيات. توزيع فرح يناسب التفاؤل الذي عمّ لبنان والمنطقة، مع وعود إعداة الإعمار والسلام الآتي، رغم قسوة الكلام، والتعب الذي يحمله.
مع نهاية التسعينيات عاد أبو وديع إلى مربّعه الأول، مربع الخيبات والهزائم العاطفية، بالتزامن والتوازي مع اتضاح فشل مشروع رفيق الحريري، وتحوّل وعود الانماء والازدهار والبهجة، إلى أزمة مالية وإلى فساد نخر كل زاوية من زوايا الدولة اللبنانية. هكذا استمعنا إلى البومات لسه الدنيا بخير، طبيب جراح ثمّ دول مش حبايب، زمن العجايب، سلف ودين، ليبلغ أوّجه مع ألبوم هي الأيام، وتحديداً أغينتي بستنى باليوم واليومين، وأغنية خسرت كل الناس. أربعة عقود تقريباً، غيّرت صوت جورج وسوف، غيّرت شكل الساحة الفنية، وغيرّت نوعية أغانيه.
كل شيء تغيّر، وبقي أبو وديع مهزوماً في الحب، وبقي صوته يخرج من سيارات عشاق خائبين كل ليلة في حي شعبي ما، هنا أو هناك، علّ الحبيبة الخائنة/الراحلة/المختفية تسمع.