.
لعيسى بولص تجربة خاصة وغنيّة منذ الثمانينات. كان أحد المساهمين في وضع أسس المشهد الموسيقي في فلسطين آنذاك، وهو كاتب أغانٍ وملحّن شارك في تشكيل تيّار لا يزال حاضرًا، وينتظر من يلتفت إليه كنموذج بحث وطريقة تفكير واتجاهات تجريبية. لم يكن فنانو هذا التيار يعيشون على هامش الأحداث، أو فوقها، وشكّلت الانتفاضة علامة فارقة في وعيهم وفنّهم.
عاصر بولص مجموعة ملحنين ومؤلفين وشعراء ومسرحيين لا يمكن الحديث عن ثقافة فلسطينية اليوم دون ذكر أسمائهم، كما شاركهم صناعة عدة أعمال. يطلعنا بولص خلال الحوار على تجربته، ويشاركنا الهواجس التي رافقته على طول الطريق.
ولدت في القدس عام ١٩٦٨ لأب وأم فلسطينيين، وتربيت في بيتنا في حارة التحتا (قرب رام الله القديمة). كانت الموسيقى حاضرة يوميًا في العائلة. كان والدي مغنيًا شغوفًا بعبد الوهاب، وعمي اسكندر ملحنًا وكاتب أغانٍ وعازف كمان من الطراز الأول، ومثقفًا موسيقيًا يقرأ النوطة ويدوّن ألحانه. كان لدي عمٌّ آخر يرسم وينظم الشعر ويتقن الخطوط العربية. للأسف، كلهم توفوا قبل ولادتي، وبقيت حواديتهم من خلال والدي الذي رحل هو الآخر عندما كنت في الخامسة عشرة.
كوننا كنا نستمع إلى أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين، تشكلت لدي رغبة بأن أغني، وبدأت الغناء بالفعل في عمرٍ مبكر. لكنني كنت، وما زلت، خجولًا ولا أحب الظهور كثيرًا، بل أفضل البقاء في الخلفية. قبل بلوغي العشر سنوات بدأت بالعزف على البيانو في ظل أختي التي كانت تدرس الآلة مع الأستاذ جاك لحام أستاذ موسيقى حاصل على شهادة الدكتوراة من إيطاليا. افتتح معهد لتعليم الموسيقى في رام الله مع أمين الدجاني وقاسم عبد الهادي في نهاية السبعينات. آنذاك، وتقرأ لي كل دروسها لأتمرّن بناءً عليها. بعد ذلك، بدأتُ بالطنطنة على الجيتار أيضًا، وبعد فترة وجيزة أصريت أن أتعلم العود.
أول عود اشتريته هو عود طبريا (نسبة إلى بلدة طبريا في الداخل المحتل). كان يُصنع من قبل شركة إسرائيلية على ما أعتقد ويأتي بحجم واحد كبير وثقيل الوزن. لم أعرف ماذا أفعل بالأوتار وكيف أضبطها، فتوجهت إلى صديق العائلة المرحوم زياد جغب. كونه يعزف الجيتار، استطاع إيجاد طريقة لتدبر أساسيات العود وتعليمي سلم الدو ماجور. منذ تلك اللحظة بات العود رفيقي الدائم.
في عام ١٩٨٥ بدأت العمل مع بعض فرق الأعراس المحليّة، كالفرسان والكواكب، كعازف أورغ وأحيانًا عود، ثمّ أنشأت فرقتي الخاصة من أجل تقديم أعمالي. كنت أيضًا أحد مؤسسي فرقة سرية رام الله الأولى نادي كشفي تأسس عام ١٩٣٠. وعزفت العود معهم؛ أطلقنا ألبوم كاسيت العاشق عام ١٩٨٦. في تلك الأثناء، كنا نعمل على بعض الأغاني في فرقتي عندما توجه جميل السايح مغني وملحن وعازف عود من نابلس. إليّ عبر الصديق المشترك تحسين صبحي، الذي عرض على الفرقة الاندماج مع فرقة الرحّالة التي أسسها جميل. كان لجميل بعض الأغنيات التي حاول إنتاجها لسنوات، لكنه لم يجد العازفين المناسبين للقيام بذلك. وافقت الفرقة على الاندماج بشرط أن نعود إلى الرؤية الخاصة بنا ونقوم بالتلحين والتجريب كما كنا نفعل في فرقتي. رحّب جميل بالتوجه، وبدأنا العمل على ألبوم رصيف المدينة. كنت حينها قد توقفت عن العمل في فرق الأعراس منذ ديسمبر ١٩٨٦.
بدأت الرحالة بالأصل كفرقة مسرح من خلال المرحوم يعقوب إسماعيل مخرج وكاتب مسرحي لديه أكثر من ٢١ عملًا مسرحيًا. تميز بالجرأة والتجريب فيما يخص مفهوم المساحة. توفي عام ٢٠٠٨. ، حيث عمل مع جميل السايح في مسرحية المزبلة، والتي كانت معظم أغاني جميل السايح في تلك الفترة جزءًا منها. استأذن جميل من إسماعيل أن يقوم باستخدام الاسم للفرقة التي يعيد تشكيلها، والتي تُعنى بالموسيقى لا المسرح. اقتصرت فرقة الرحالة الأولى على جميل كمغنٍّ وعازف عود، يرافقه عدد كبير من الشبان الذين يعزفون على الطيران (المزاهر)؛ لكن تفتتت هذه المجموعة فتوجّه جميل إلى إنتاج هذا العمل مع مجموعة جديدة من الموسيقيين.
أُجريت تمارين فرقة الرحالة في بناية سكن فيها يعقوب إسماعيل، حيث تعدّت أمسياتنا هناك الموسيقى والشعر، وتطرقت إلى السياسة والثقافة ومفاهيم التجريب، والفلسفات المحيطة بالعمل الفني والفنان، والهوية، والوطن، والمال والنساء والكبت، والمعنى والتجريد، وما إلى ذلك من مواضيع تستدعي الكثير من المفاهيم وتثير العديد من التساؤلات عن جدوى كل هذا.
في هذه الفترة، أي ما قبل انتفاضة ١٩٨٧، ضمّت الرحالة جميل السايح وعيسى بولص ومحسن صبحي عازف بزق وعود وملحن من رام الله. عمل مع الرحالة ومع عيسى بولص. توفي عام ٢٠٠٩. وجمال المغربي عازف بزق من القدس. عمل مع فرقة صابرين ثم مع فرقة الرحالة. أسس فرقة الصبار. وجورج زيادة مغني وعازف عود من قرية بيرزيت قرب رام الله. عمل مع الرحالة لفترة وجيزة ثم هاجر إلى أمريكا. وسيمون خوري عازف عود من رام الله. عمل مع الرحالة كعازف قانون. .
غِنى التجارب الفنية على الألحان والكلمات والإيقاعات والأداء. كما استدعى الجو العام وقتها الرجوع إلى الأدوات التقليدية كالعود والبزق والقانون، والإيقاعات كالطبلة والدف والمزهر، لكن لم تكن المرجعيات الخاصة بتلك الآلات هي التي تتحكم بأسلوب الموسيقى. كان السبب وراء هذا التوجه ذو صلة بالحالة العامة في الثقافة، كاستخدام المرجعيات التقليدية مثل اللغة والشعر والتطريز والتراث والمنتجات الشعبية.
بدأت حركة الانبعاث الثقافي هذه منذ زمن، قبل ١٩٤٨، واستمرت بالنمو حتى السبعينات، حيث نشأ جيل بدأ يتعاطى مع المسألة على أنها طريق مهم وضروري في استنباط الهويّة والتأكيد عليها من خلال هذه الأدوات، خاصة مع وجود احتلال يسعى لإنكار أية هوية فلسطينية وارتباط تاريخي مع هذه الأرض؛ وكانت فرقة صابرين تأسست عام ١٩٨٠ في مدينة القدس وشكّلت منذ ظهورها حالة نوعية ومغايرة لما هو سائد من الناحية الموسيقية، فانتشرت أغاني الفرقة في فترة قصيرة وخاصة بين طلبة الجامعات، وبين جزء من النخب المثقفة. استخدمت صابرين كلمات لشعراء معاصرين فلسطينيين وعرب، مثل محمود درويش وسميح القاسم وحسين البرغوثي وسيد حجاب وطلال حيدر. سباقة في هذا المجال. لم يتّخذ معظم الفنانين والكتاب في تلك الفترة موقفًا سلبيًا من أية طرق غربية، لكن من الواضح أنه نشأت حالة من الانقسام ما بين متبعي الأساليب الغربية، وأولئك الذين يعتمدون على تداول الطرق التقليدية في التعبير؛ وذلك منذ الخمسينات وحتى الثمانينات.
كانت معظم أعمالي في تلك الفترة تُسجل على أجهزة منزليّة متواضعة وفي غرف غير ملائمة للتسجيل ولا حتى العزف من الناحية الصوتية Acoustics، كما أن تلك الفترة كانت تستدعي سرية العمل، لأن إنتاج هذه الأعمال يعني أن نتعرض إلى التوقيف والاعتقال من قبل سلطات الاحتلال، أو إلى مضايقات عملاء إسرائيل وتحرشاتهم.
في صيف ١٩٨٨، وبعد عدة أشهر من التمارين، كنا في استوديو منزلي يمتلكه سهيل خوري عازف كلارينيت وناي وملحن فلسطيني من القدس. في بلدة بيت حنينا لتسجيل ألبوم رصيف المدينة، والذي أطلقناه لاحقًا في خريف ٨٩. انتظرنا مدةً طويلة كي يصل سهيل إلى الاستوديو لكنه لم يحضر، وتبين لنا لاحقًا بأن الشرطة الإسرائيلية اعتقلته ذلك اليوم على خلفية ضبط نُسخ شريط شرار شريط كاسيت أطلقه عدد من الشبان الذين كانوا يعملون في فرقة الفنون: علي عواد، محمد يعقوب، سهيل خوري وأمجد عرار. كانت كلمات الأغاني جديدة لكن مكتوبة على صيغ نماذج فولكلورية. صاغ بعض الألحان أمجد عرار وعلي عواد، وأُخذ البعض الأخر من الألحان الفولكلورية او الشعبية، مع بعض التغييرات من أجل مناسبة الكلمات والغرض من الأداء. في سيارته.
كان لدينا في فرقة الرحالة أثناء الانتفاضة الأولى نشاطٌ موسيقي لا بأس به، وعروض في عدة مدن فلسطينية. بفعل الانتفاضة والإغلاقات، تقلص عدد أعضاء الفرقة إلى أربعة أفراد: جميل السايح وعيسى بولص ومحسن صبحي، وانضمت إلينا الراحلة ريم البنّا. لكن بعد عدم تمكننا من التسجيل في الاستوديو بسبب اعتقال سهيل خوري، غادرت ريم إلى الاتحاد السوفييتي لاستكمال تعليمها ومن ثم سافرت أنا إلى الولايات المتحدة لدراسة الموسيقى.
عدت إلى رام الله في أيار ١٩٨٩ بعد سنة دراسية واحدة، واجتمعنا مرة أخرى كفرقة الرحالة وانضمت إلينا ريم اللو كمغنية مرافقة. أطلقنا ألبوم رصيف المدينة في خريف ٨٩، وبعد ذلك بعدة أشهر تعرضتُ للاعتقال في أواخر يناير من عام ٩٠، بعد حوالي سنتين من كوني مطلوبًا للاحتلال. قضيت بسبب الشريط وقتًا طويلًا في غرف التحقيق وتحت الإقامة الجبرية، وذلك بعد سنة في السجون. كما تعرضت لتحرشات المخابرات الإسرائيلية لسنوات عديدة ما بعد إطلاق سراحي أواخر ذلك العام.
تميز التعبير الفني منذ عام ٦٧ بالرمزية، التي وصلت إلى معظم الأوساط من الفن التشكيلي إلى الشعر والموسيقى. فرضت نكسة عام ٦٧ واقعًا ثقيلًا، فرض معه الاحتلال كافة أشكال القمع والعنف في مجمل نواحي الحياة اليومية، فلجأ الفنانون إلى سبل تعبير غير المباشرة. في أحيانٍ كثيرة، كانت هناك مبالغة في هذه الرمزية وصعوبة في التخلص من أدواتها. أثّرت هذه المرحلة على التجارب اللاحقة، حيث باتت هذه الحالة من الغناء غير المباشر عن قضايا مهمة في حياة الفلسطينيين توجهًا ثقافيًا عامًا. لم نستطع برأيي حتى الآن الموازنة ما بين بساطة الكلمة وعمق المعنى، إلا في حالات قليلة.
في الضفة الغربية، ظهرت محاولات لإيجاد نوعية خاصة من الأغنية الفلسطينية. بدأت تلك المحاولات من مصطفى الكرد مغني وملحن فلسطيني من القدس. في السبعينات وفرقة البراعم أسسها بعض الشبان من القدس وبيت لحم. كانت في الأصل فرقة أعراس وحفلات وتحولت في فترة الانتفاضة الأولى إلى الأعمال ذات الصبغة الوطنية، بتوجهٍ موسيقي ملفت. ومن ثم أغاني جورج قرمز مغني وملحن وعازف جيتار فلسطيني من القدس. عمل مع فرقة البراعم في فترة السبعينات. . ضمت البراعم الإخوة إميل وسمير وإبراهيم عشراوي، بالإضافة إلى موسيقيين من القدس يجيدون العزف على آلات غربية مُختارة بحسب تركيبة فرق الروك الأجنبية. بدأت الفرقة في إنتاج أغانيها أوائل السبعينات، وتعاون إميل وسمير مع مصطفى الكرد في ألبوم أرض وطني، الذي أصدره في فرنسا عام ١٩٧٦. عمل جورج قرمز مع البراعم وقام بتلحين بعض أغانيهم، ثم توجه إلى الولايات المتحدة في أواخر السبعينات وتابع نشاطه الفني هناك.
في الثمانينات، كانت فرقة صابرين من الرائدين في تقديم أغنية فلسطينية فريدة. كما جاءت فرقة الرحالة لتضيف نوعًا آخر من الأغاني، تحاكي موجة المغني الذي يرافق نفسه على العود، والتي تميز بها مصطفى الكرد والشيخ إمام وبرع فيها مارسيل خليفة. اجتذبت هذه الأصناف الغنائية العديد من الناس، لكن معظم مريديها كانوا من نخبة المثقفين وطلبة الجامعات واليساريين والماركسيين والشيوعيين.
كان الهم الأساسي هو المقاومة بشكلٍ أو بآخر، بالإضافة إلى الحفاظ على الصفاء الروحي والإنساني. باعتقادي، كان مفهومًا لدى هذه الطليعة أن النضال من أجل الحفاظ على إنسانيتنا بات أصعب، خصوصًا في مرحلة تميزت بالهزائم السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى الفساد والانحدار تحت الاحتلال الإسرائيلي. لذا، كانت أغاني صابرين والرحالة، والتي كُتِبَت ولُحِّنَت ما قبل الانتفاضة، تحاكي هذه المفاهيم النضالية والإنسانية، وتوجه أسئلة وجودية مهمة فيما يخص مفهوم الهويّة والتحرّر والنضال وآليّاته. توجد عدة أمثلة على ذلك، منها أغنية أُعطي التي كتبها حسين البرغوثي ولحنها جميل السايح:
“أُعطي حبيبتي لنجمتي / ونجمتي للحالمين / والحالمين للحقيقة / والحقيقة للعاملين / والعاملين للثورة / والثورة للإنسان / الإنسان لمن يعطي / الإنسان للإنسان.”
تميزت تلك الحقبة باستخدام قصائد لشعراء فلسطينيين كنا نرددها قبل أن تصبح أغانيًا. رددنا قصائد محمود درويش وراشد حسين وإبراهيم طوقان وأبو القاسم الشابي وسميح القاسم وفوزي البكري، في بيوتنا وجلساتنا وحفلاتنا، وفي العديد من المناسبات الوطنية والاجتماعية. في تلك الفترة، لم تُعن منظمة التحرير الفلسطينية بأعمال هذه الفرق، بينما دعمت بعض الفصائل السياسية العديد منها، كانت بغالبيتها شعبية وفولكلورية كفرقة سرية رام الله الأولى، وفرقة الفنون الشعبية (الجبهة الشعبية) وفرقة شرف (فتح).
ما قبل الانتفاضة بسنوات قليلة، انتشرت الفرق الشعبية بسرعة، وحملت أغانيها نبرة سياسيّة ووطنية مباشرة وغير مباشرة، كما استخدمت قوالبًا لحنيّة فولكلوريّة يجري تحويرها من حيث البنى اللحنية والإضافة عليها أحيانًا، لإنتاج أغانٍ هدفها الأساسي تحفيز المستمع وشحنه. من الأمثلة على ذلك إصدارات العاشق وجبينة لفرقة سرية رام الله الأولى، ومشعل شخصية فلسطينية قد تكون حقيقية أو أـسطورية، تعددت الروايات حوله، وقدمت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية عام ١٩٨٦ عملًا فنيًا حمل اسمه. ومرج بن عامر هو مرج واسع بين منطقة الجليل وجنين في فلسطين، وهو معروف بأنه من أخصب الأراضي الزراعية في فلسطين. ألّفت عنه فرقة الفنون عملًا فنيًا بذات الاسم عام ١٩٨٩. لفرقة الفنون الشعبية.
لعبت الاختلافات في الفكر السياسي والنضالي دورًا هامًا وإن لم يكن واضحًا في تمييز هذه المشاريع الفنيّة عن بعضها. كانت مسألة الموقف من الكفاح المسلح مثلًا من القضايا الفارقة؛ ففي الوقت الذي دعت فيه بعض الأغاني إلى المقاومة الشعبية، دعت أخرى إلى المقاومة المسلحة.
بدأت هذه الفرق بالتعبير بشكلٍ أكثر مباشرةً عن الحالة النضالية الآنية وضرورة المقاومة. شكّلت قضيّة التعبير المباشر محور نقاش ومسألة كبرى في الموسيقى الفلسطينية منذ السبعينات، واحتدمت هذه النقاشات في ظلّ الانتفاضة. كان البعض مُصرًّا على الإتقان في الأداء والتفكير بعمق بالعمل الفني وكيفية إنتاجه، وسماته الفنية والإنسانية وفكرته الأساسية سواء كانت فلسفية أو نضالية؛ لكن لم يفضل الكثيرون هذا التوجه كونه يتأخر عن الحاجة التعبوية للأغنية المعنيّة باللحظة.
مع ذلك استمرت الرمزية إلى حدٍّ ما في الأغنية الفلسطينية. رجع ذلك جزئيّا إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي كان يلاحق كل من تحمل أعماله بشكلٍ مباشر أية مفاهيم تدل أو تحث على المقاومة، فبالتالي كانت الرمزيّة محاولة من فناني النخبة للبقاء خارج السجن والتمسك بالنضال في نفس الوقت؛ ورغم بروز الرمزية في أعمال فرق بوزن صابرين والرحالة، صعد تيار آخر يسعى إلى توسيع مساحة التعبير عن حالة الإنسان الفلسطيني بكل تناقضاتها وقضاياها الوجودية، مثل الفروقات الاجتماعية والمساواة والعدالة الاجتماعيّة، دون الاقتصار على التعبير عن رفض الاستعمار. انتقد هذا التيّار الرمزية، ونظر إليها كطريقة قد توحي بالتنازل عن التعبير المباشر فيما يتعلق بالمقاومة. برز هذا التوجّه في أغانٍ صادرة قبل وبعد الانتفاضة، مثل تهليلة أم التي كتبها حسين البرغوثي بالعامية الفلسطينية:
“نام يا حبة عيني عندي / هيك نام العندليب / نام يمّا نومة طرية / سنانك ميّة ولا حليب / ليش الصبر يا عين / فوق الشقا فينا؟ / وليش العما يا عين / والحق في إيدينا؟ / هالمدينة شو حزينة / فيها ذل وفيها نير (…) وأختك جاية معها حكاية / عادت الصف الأخير / علموها إن أبوها تيس وتنبل / والغني مثل الفقير.”
لا تبرز حالة القهر من خلال الاحتلال وضرورة مقاومته فقط، بل في ضرورة التعامل مع الفروق الطبقية التي أفرزت تناقضات باتت واضحة، منها فرص التعليم والعمل ومسألة المساواة والاغتراب والفئوية، وغيرها من القضايا التي تمس أي مجتمع. إلا أن هذه القضايا لم تكن ذات أهمية تذكر بالنسبة إلى معظم الفصائل السياسية الفلسطينية حينها، كون القضية الأهم هي التحرر السياسي وبناء الدولة. في معظم الأحيان، يوافق الكثيرون على أن تأجيل هذه القضايا إلى أجلٍ غير مسمى هو أسلم طريقة، “ومش رح نختلف”، كما كان يقول الكثيرون.
هناك كوكب آخر، عمل موسيقي من عشر مقطوعات شبه أوركسترالية يتحدث عن تجربة السجن التي خضتها في معتقلات الاحتلال، ويعاين حال الذات الفلسطينية وأثر الاحتلال على إنسانيتنا أكثر من أي شيء آخر. في تلك الفترة أيضًا تناولت إحدى قصائد محمود درويش التي تتحدث عن الشهداء، وحوّرتها إلى اللهجة العامية لتتحول إلى أغنية عالسفح عام ١٩٩٢.
كتبت ولحنت مئات الأغاني في تلك الفترة. منها ما قمت بنشره في ألبوم أكون سلامًا عام ٢٠١٠، ومنها ما نشرته حينها بتسجيلٍ منزليّ؛ ومنها ما لم أنشره إطلاقًا وبقي في إطار العائلة والبيئة الثقافية المحيطة. تتحدث معظم هذه الأغاني عن الإنسان وقضاياه وغربته في وطنه وخياراته وتجاربه، مثل أغنية خلص الحكي (١٩٩٢)، وأغنية في الحارة القديمة (١٩٩٢).
عندما تركتُ العمل في فرق الأعراس عام ١٩٨٦، كان السبب الرئيسي رغبتي بالعمل في قطاع أكثر جدية من الناحية الإبداعية، وضمن توجه قادر على التجريب والتطرق إلى مواضيع تختلف مفهوميًا عن الأغاني الشائعة، التي أتى معظمها من مصر ولبنان وسوريا والخليج. كانت الإذاعة الإسرائيلية آنذاك تبث هذه الأغاني دومًا، وتحتجب عن بث أية أغانٍ أخرى قد تعبر عن الصراع. كنا نفهم حينها أن إسرائيل تخاف من هذه الطليعة كوننا تحدثنا في أغانينا وأشعارنا عن وضعٍ الإنسان وسبل المقاومة، التي تبين لاحقًا أنها تُقلق السلطة الفلسطينية نفسها ما بعد أوسلو. لذا، في تلك الفترة، لم يكن للفصائل السياسية الفلسطينية أي دور في احتضان هذا النوع من الفن، بل التفت إلى التعبئة السياسية ودعم الإنتاج السريع والفوري للتأثير على الشارع بشكل آني، فأصبحت “الأغاني السريعة” مخصّصةً للشعارات والمفردات السياسية القائمة آنذاك. المفارقة أن بعض الفنانين المستقلين آمنوا بفكرة الإنتاج السريع حتى لو كان على حساب الجوانب الإبداعية والفنية، ولم يكن جميعهم بالضرورة على صلة مباشرة بالفصائل.
لفهم هذه المسألة أكثر، علينا العودة إلى الدور الأساسي للأغاني الشعبية والأهازيج في المجتمع الفلسطيني. كان الزجالون يؤدّون هذه الأغاني في المناسبات الوطنية والخاصة لتحفيز الناس وتوثيق صلتهم بأرضهم وتراثهم وتقاليدهم، وأيضًا من أجل تناقل الأخبار. إذًا، وكي نضع أقواسًا على كلمة التزام، يعني هذا النوع من الالتزام شيئًا آخر بالمقارنة مع الالتزام من وجهة نظر الطليعيين، وهي نظرة نخبوية إلى حدٍ كبير؛ بمعنى الاهتمام والتركيز على العمل الإنساني بحد ذاته من حيث الإتقان والتعبير والأداء، من أجل التواصل مع مرجعياتنا التاريخية المرتبطة بما هو قديم وملهم وأزلي في الثقافة المحلية، وفي معزل عن المفاهيم السائدة، التي من ضمنها عصر النهضة والأطر والأشكال التي باتت تُفرض علينا كأنه لا غبار عليها.
لم يفهم الطليعيون هذه الحيثيات في تلك الفترة، وباعتقادي يوجد لبس إلى هذه اللحظة ما بين الطليعية والاستعلائية. في المقابل، لم يهتم الزجالون تاريخيًا بالأداء الفني بمعناه النخبوي، بل كان همهم الرئيسي أن يكون الغناء جزءًا من الممارسات اليومية الضرورية من أجل استمرارية المجتمع وتقاليده وقيمه الإنسانية. أنا أبدأ من هنا.
عندما كتبت ولحنت أغنية حبيتك وإنت صغيرة مثلًا، كتبتها لأتحدث عن تجربة حصلت معي بالفعل، وهي قصة حب كانت لي مع صبيّة وكلانا في سن المراهقة. كنت حينها نشيطًا سياسيًا وفنيًا، ولا يمر يوم أو ساعة دون نقاش سياسي أو فلسفي من نوع ما. اعتقدت، لسوء تقديري، بأن هذه الميزات ستجعلني محبوبًا أكثر لدى فتاتي، فلم أتحدث معها إلا بالسياسة والفلسفة والوطن. لم أكن مدركًا حينها أن الإنسان بحاجة إلى أشياء وحاجات داخلية أخرى، وليست بالضرورة تلك الشعارات. تركتني فتاتي، واتضح لي لاحقًا بأن وجود هذا التوازن في حياتنا يجعلنا قادرين على الحب وقادرين على المعنى سوية، دون أن نخسر إنسانيتنا من أجل الوطن، حيث سيخسرنا الوطن إذا خسرنا أنفسنا بطبيعة الحال. من هنا بدأت تتضح الصورة فيما يتعلق بالحراك الثقافي الذي يأتي من خارجنا ومن خلال تفاعلنا مع ما يجري حولنا، فذلك يدفعنا للرد على ما يدور حولنا، في مقابل الحراك الذي يأتي من داخلنا ليحاكي ما فينا، والذي يدفعنا إلى الرد لكن في ظل إنسانيتنا وحماية أنفسنا من الفساد الروحي.
قد يستطيع مغنٍ متمكن أن يقدّم أغانيًا ذات قيمة فنية وإبداعية وإنسانية عالية، وقد يناسب ذلك النخبويين والمثقفين، لكن ذات المغني يستطيع أيضًا غناء أغانٍ عادية إلى متوسطة من المنطلق الإبداعي والفني، وتُستساغ من قبل عدد أكبر من الناس، بالغالب من غير النخبويين، بل من فئات الفلاحين والعمال والطبقات الاجتماعية والاقتصادية المتواضعة، وبالطبع من المؤسسة الرسمية التي تُعنى بهذه الأغاني من منطلقات سياسية وتعبوية. قد نفترض بأن هذه الأغاني تشكل حالة شعبية، لكنها بالمحصلة قد تؤدي إلى تكريس ممارسات وسطية تتعلق بالصناعة الموسيقية ونوع كلمات الأغاني والإنتاج، وقد تُستخدم لخدمة الجماعة تعبيرًا عن الرغبة السياسية أو الاجتماعية أو الدعائية الآنية.
برأيي، علينا التعامل مع هذه الأغاني كما هي، أغاني مباشرة تعبر عن حالة جماعية آنية؛ ولم يكن يومًا وجود منظمات أو هيئات سياسية أو دول تدعم أو لا تدعم وجود هذه الأصناف من الأغاني هو العامل الوحيد الذي ساعد على انتشارها، بل طبيعتها كأغانٍ تخاطب الجماعة خارج المنطلقات النخبوية.
كان الطرح الفني لكل من هذه الفرق يندرج تحت نفس العناوين، كالتجريب ومحاولة استخدام أية أساليب لإيجاد لغة موسيقية جديدة، تمتلك معطيات وصيغ مستحدثة لأغنية ذات هوية فلسطينية مميزة، مختلفة عن الأغاني الشعبية أو الفولكلورية التي تتميز بها المنطقة ككل، وليست بالضرورة فلسطين فقط.
كنا على وعيٍ كامل بأن هنالك ما يسمى الأغنية اللبنانية والمصرية والخليجية، ووددنا إيجاد لغة ما تضع أغنياتنا على الخارطة. كان اعتمادنا على عملية بناء من خلال استخدام مواد مألوفة لكن في إطار غير مألوف، كون المألوف أصبح رمزًا للرجعية.
من الناحية الموسيقية لم يكن لدينا العديد من الخيارات لإنتاج هذه النوعية من الأغاني، فقد كان عدد الموسيقيين محدودًا ومعظمهم يعزفون آلاتٍ غربية.
بالنسبة لفرقة صابرين مثلًا، برز تحولٌ في الموسيقى بعد ألبومهم الأول الذي غلب عليه استخدام آلات غربية. أدخلت صابرين لاحقًا آلات شرقية في ألبوم دخان البراكين (١٩٨٤) ثم موت النبي (١٩٨٧)، مع بقاء بعض الآلات الغربية مثل الجيتار والبايس؛ وكان هذا بمثابة توجه طبيعي كانت المرحلة كلها توحي به، وهو العودة إلى استخدام الآلات التقليدية كونها تعبر عن هويتنا العربية. بالنسبة لصابرين تحديدًا، كان وجود كميليا جبران كمغنية مقامية حافزًا كبيرًا لتبني الآلات التي تعبّر عنها، إضافة إلى أنها عازفة عود وقانون.
بالنسبة للرحالة، عمل جميل السايح مع مجموعة من عازفي الطيران (المزاهر) الهواة، وكان الوحيد الذي يعزف آلة لحنية هي العود. بعد تفكك الرحالة الأولى، عمل جميل السايح مع فرقة صابرين وكانوا على وشك تسجيل عملٍ في وسط الثمانينات، لكن تفككت صابرين وخرج جميل السايح وآخرون ليعملوا وحدهم، وكانت تلك الفترة التي اندمجت فيها فرقتي معه لنصبح الرحالة الثانية.
لم تكن الأطروحات السائدة ترتكز على التطورات التي حدثت في العالم العربي من الناحية الموسيقية في عصر النهضة، كما لم يلعب المقام ولا الإيقاعات التقليدية دورًا في توجيه العمل. كان التجريب هو الأساس، ولعب المعنى دور المحرك الأساسي لمستوى الدراما في الأغاني.
ابتكرت هذه الفرق طرقها الخاصة من خلط وخلق وتجريب دراما ومسرح وتصوير، واستخدمت كل ما كان متاحًا لها من مصادر للتعبير. فجرّبت صابرين دمج الآلات واستخدام صوت غنائي نسائي مقامي في سياقٍ تعبيري يختلف عن الطرب، وحاكت الرحالة تجربة فرقة جيل جلالة المغربية حين كانت تقدم عروضها على الطيران وتؤدي الأغاني الصوفية، واستخدمت البراعم آلاتٍ غربيّة دفعتهم نحو توجهٍ مختلف في الإنتاج، حيث وظّفت الهارموني المتعارف عليه في أغاني البوب والروك والجاز.
في الشتات، ساهمت فرقة أغاني العاشقين بخلق احتمالية الأخذ بزمام الأمور بأنفسنا. للمرة الأولى بعد ١٩٤٨، بات الفلسطيني يعبر عن صوته بصوته مستخدمًا كلامًا وألحانًا مألوفة. لم تكن تلك الحقبة التي اتسمت بالعودة إلى التراث سهلةً لفرق مثل صابرين والرحالة، وكان علينا أن نجد طريقة لموازنة هذه المسائل في أعمالنا وأغانينا. في المقابل كان يوجد تيار قوي يتبنى الآلات الغربية وطرق عملها ويدافع عنها، ويتعامل مع الآلات والنماذج التقليدية على أنها بدائية، بحاجة إلى تطوير، غير مجدية، وأن التراث والفولكلور لا يستطيعان التعبير عن أمور إنسانية بالغة التعقيد؛ وكان أيضًا علينا التعامل مع هؤلاء.
نشرت أغاني العاشقين فكرة البدء من التراث والتطوير فيه وتداوله لدى الفلسطينيين. كما روّجت لرموزٍ معينة كالدبكة والحطة واللباس الكاكي والقوة في الأداء، وإلى حدٍّ ما الصبغة الفنية المتقنة في بعض أغانيهم. تشبه قصة فرقة أغاني العاشقين الكثير من قصص الفرق الشعبية داخل فلسطين، إلا أن أغاني العاشقين تمركزت حول حسين نازك ملحن فلسطيني من قرية شعفاط قرب القدس. أسس فرقة أغاني العاشقين في دمشق عام ١٩٧٧. وقد أخذت أغانيهم شهرة واسعة وعبرت عن النضال الفلسطيني. وقد اعتبرت الفرقة في حينه ممثلًا لمنظمة التحرير الفلسطينية من الناحية الفنية. ، وهو ملحن وموزع مخضرم، وشعراء فلسطينيين مهمين كأحمد دحبور؛ بينما قامت فرق الضفة الغربية على هواة الدبكة وبعض الشعراء كوسيم الكردي، بتعاونه المستمر مع فرقتَي الفنون الشعبية وسرية رام الله والموسيقيين الهواة.
عملت معظم الفرق الشعبية ضمن أطر التراث وتناقل الزجل بالأساليب التقليدية، ولم تُعطِ الموسيقى تلك الأهمية. من أجل فهم هذه القضية، يمكن أخذ قصيدة نوف التي يرويها محارب ذيب على آلة الربابة مثالًا. الربابة هنا مجرد مساعد في خلق الأجواء المناسبة لتحقيق الدراما وتوصيل الرسالة؛ فإن أطال محارب ذيب التقاسيم على الربابة سيخسر معظم مستمعيه لأنهم جميعًا ينتظرون الكلمة لا المقطع الآلاتي، وينتظرون المعنى لا الإتقان الموسيقي. لا يعني هذا أن محارب ذيب لا يتقن عزف الربابة، بل يتقنها في سياق القصيدة، وليس في سياق حداثي، أو ما يطلق عليه عصر النهضة. لا أقول هذا لتبرير إخفاق الفرق الشعبية فيما يخص الاهتمام بالعمل الموسيقي، بل هو دلالة على أن التراث الفلسطيني الشعبي يتمحور حول الذاكرة الجماعية، والتي تخص حدثًا معينًا؛ بقية التفاصيل الفنية ليس لها وظيفة في هذه السياقات. إخفاق الفرق الشعبية، برأيي، كان أنهم افترضوا أن الانتقال من حالة التراث إلى حالة الإنتاج الفني يجري بذات المعايير؛ ويبرر ذلك في ذهنهم تجاهل الثقافة الموسيقية في تطبيق أعمالهم.
كانت النقاشات في هذه الفترة نقدية، أحيانًا إلى درجة الحدة، وكانت أيضًا شغوفة وباحثة ومنفتحة على كل شيء، ومتمردة إلى حدٍ ما على الأطر التقليدية كأغاني الطرب والحب. كما كان هناك إعجاب كبير بزياد الرحباني وتوجهه، على سبيل المثال تعاونه مع منى مرعشلي في أغنية دا فيلم أمريكي طويل، والتي لم تستهزئ بسوء الوضع السياسي فقط، بل بذوبان المعنى في رحايا الطرب. تجاوب معظم من اعتبروا أنفسهم من الطليعة مع زياد الرحباني، ومع تسخير قالب الأغنية للحديث عن مفاهيم سياسية جدية. ما كان إشكاليًا في ذات الوقت هو أن البعض أنتج أغانٍ وطنية ملتزمة، لكنها لا تطرح أية تساؤلات نقدية.
عنوان الرسالة: تجربة صناعة الموسيقى الفلسطينية في الضفة الغربية من العشرينيات إلى ١٩٥٩: القومية، الاستعمار، والهوية. تغوص الأبحاث التي قمت بها عميقًا في تاريخ المنطقة ككل، حيث أُعاين الموسيقات المختلفة في المنطقة وأقارن بينها وأصنفها. بعد ذلك أدرس المواد المسموعة والمرئية والمكتوبة والمدونة، مثل الشهادات الشخصية والرسائل وما إلى ذلك، لتكوين فكرة عن الهوية الفلسطينية في السياق الموسيقي، ومن أجل فهم أعمق لتاريخنا المعاصر كمجتمعات مارست الموسيقى لمدة طويلة، على الأقل لبضع مئات من السنين. الفترة التاريخية التي بحثت فيها هي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، وهي فترة طويلة جدًا وفيها الكثير من التحولات.
في البداية، كانت الرسالة تُعاين فترة ١٩٦٧ – ١٩٩٣، لكن عدد صفحات الرسالة بات كبيرًا جدًا، ما أدى إلى تعديل الحقبة الزمنية التي أتحدث عنها لأهميتها. لذا، في هذه الرسالة، أتناول الموسيقى في المجتمعات العربية وفي فلسطين منذ العشرينيات إلى ١٩٥٩، العام الذي انتقلت فيه إذاعة القدس إلى عمان. تسلط الرسالة الضوء على كيفية تعاطي الفلسطينيين مع الموسيقى واستخدامها للتعبير عن هويتهم العربية والوطنية من ناحية، ومن ناحية أخرى عن خصوصيتهم ودورهم ومساهمتهم في عصر النهضة.
أعاين هذه الأعمال وأضعها في سياق المحيط العربي، ثم أتطرق إلى دور إذاعة فلسطين التي أنشأتها حكومة الانتداب البريطاني عام ١٩٣٦، وتطور الموسيقى إلى عام ١٩٤٨. بعد تلك الفترة التي تطورت من خلالها العديد من الألوان الموسيقية التي لم تكن مألوفة في المنطقة، أُتابع خطوات كل من صبري الشريف، حليم الرومي، روحي الخماش، جميل العاص وغيرهم، وأُشير إلى حيثيات مساهماتهم في النهضة الموسيقية في المشرق العربي، وفي تطوير الأغنية المشرقية في لبنان والأردن وسوريا والعراق. هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تتابع الفنانين الفلسطينيين من الناحية الموسيقية لا الببليوجرافية، وتربط هذه التطورات مع المؤثرات الداخلية والخارجية التي شكلت ما نعرفه عن موسيقى المشرق.
سأبدأ من النهاية وأجيب بأنه نعم، حصلت شبه قطيعة مع جيلنا، أي جرى تهميشنا بمعنى آخر ولم تعد خدماتنا تهم أحدًا، بالتحديد المؤسسة الرسمية. هناك العديد من الموسيقيين الجادين، ومنهم من حصل على جوائز عالمية أو لحن لأوركسترات عالمية وعزف معهم ومع الكثير من أهم الموسيقيين في العالم، إلا أن مقطوعاتهم وأغانيهم لا تبث في الإذاعات أو القنوات الرسمية، وفي الغالب لا يعرف عنهم الكثير، رغم أن نشاطهم الموسيقي ما زال مستمرًا.
في كل الحالات، لم ينتهِ جيلنا، ولم ينتهِ عطاؤه، بل لم يعد هنالك إلا القليلون من الذين يبحثون بجدية عن رواية الموسيقى في فلسطين، أو من يبحثون في المسكوت عنه في هذا التاريخ. لا أعتبر أن هذا التجاهل بمثابة مسألة شخصية ضد عيسى بولص، على الرغم من أنه أحيانًا يبدو كذلك، لكنه في الغالب ينم عن عدم وجود سياسة ثقافية قادرة على إدراج المرجعيات في أطر المؤسسات التعليمية والثقافية. تدرّس جامعاتنا مثلًا تاريخ الموسيقى الغربية وتاريخ الموسيقى العربية وعصر النهضة من وجهة نظر المؤسسة الرسمية المصرية، وتدرّس مقطوعات لعازفين عرب وغير عرب، لكن دون الفلسطينيين.
أما وجود معاهد تعلم الموسيقى هو بالتأكيد شيء مهم وضروري، ووجود فرق ومؤسسات تدعم الأنشطة الموسيقية هو أيضًا مهم. لقد كنا على علم بالجاز والبلوز والراب والموسيقى الكلاسيكية في جيلنا، واستثمرنا في النظر إلى الشرق وما فعله الموسيقيون من إيران وأذربيجان والعراق والهند والباكستان وإسبانيا على سبيل المثال. كنا نستمع إلى الموسيقى لعشرات الساعات في الأسبوع ونجرب كل ما سمعناه على المستوى اليومي.
قضية المأسسة الموسيقية شائكة جدًا. فإذا كان هدف المأسسة السيطرة على السياسة الثقافية العامة من خلال إنشاء معهد موسيقى، فإن هذه المؤسسة ستلعب دورًا جيدًا في تعليم الموسيقى، ودورًا متواضعًا بالنسبة لمجرى الثقافة. لا يجب أن تحدد مؤسسة واحدة السياسة الثقافية، حتى لو كانت هذه المؤسسة هي الوحيدة التي تعمل في هذا القطاع. على سبيل المثال، بدأت الشعوب التي كانت مستعمرة من قبل القوى العظمى بالتخلص من الصفات الاستعمارية العالقة، وذلك عبر التمحيص في تاريخ البلد ومجتمعاته، وإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر ذلك الشعب والتعرف على كل الجوانب التي يمكن إصلاحها وتحسينها، أو حتى التخلص منها إن لزم الأمر في مجرى تطور هوية هذا الشعب، وهذا ما يعرف الآن بـ decolonization. لكن عندما بدأت هذه الخطوات تأخذ حيزًا منذ خمسينات القرن الماضي في المشرق العربي، ومن ضمنه مصر، أخذت المنحى الاقتصادي، حيث بدأت بالتخلص من السيطرة الاقتصادية على البلاد العربية، لكن لم يجرِ التعامل مع المسألة الثقافية والتاريخية. مثلًا، ما زال يعتقد الكثيرون بأن النموذج الغربي للثقافة الموسيقية هو بالضرورة أكثر رقيًا من الثقافة المقامية. بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى هذا الحال وهذا الفكر، لم يستطع المشرق تجاوز سلطوية الاستعمار حتى بعد انتهائه الرسمي.
في كتابه Provincializing Europe: Postcolonial Thought and Historical Difference، يستعرض الكاتب دبيش شاكرابارتي الظروف التي تنتهي بها الشعوب ما بعد الاستعمار، وما يلتصق بها من طرق وأدوات بعضها يلزم وبعضها لا يلزم، ويتابع بإسهاب مسألة تبني الشعوب طرق الغرب ليس بالتفكير فحسب، بل في تغريب بعضهم البعض، وذلك عبر استخدام الطرق الاستعمارية الاستعلائية التي تفترض بأن الشعوب المستعمرة بحاجة إلى تثقيف ورفع مستوى الإدراك لديهم.
جرى ويجري تعزيز هذا التوجه منذ أيام محمد علي في القرن التاسع في مصر إلى الآن، مرورًا بمؤتمر القاهرة عام ١٩٣٢. هنالك العديد من الثقافات في العالم، من ضمنها الهندية والإيرانية والأذربيجانية، حصلت على استقلالها الثقافي من الغرب وأصبحت ذات حضور ملفت وأهمية، في المقابل تستمر مؤسساتنا بالنظر إلى الغرب كمصدر أساسي ووحيد للحداثة والتطور.
أما إذا كانت المأسسة هي مسألة تتعلق بتنسيق واعٍ لكل المسائل التي تتعلق بالموسيقى، سواء كانت الحفاظ على التراث، استلهام التراث، ممارسة موسيقى عصر النهضة، الأغنية السياسية، التجريبية، أو العاطفية أو الوطنية، ومحاولة جادة للابتكار والتعبير عن الهوية، فسيكون دور المؤسسة إيجابيًا. على كلٍ، أعتقد بأن هناك سوء فهم وقراءات متباينة فيما يخص بنية الثقافة والفنون والموسيقى في فلسطين، يمكنني تلخيصها فيما يلي:
١- لا توجد نقابات تحمي الموسيقيين في وطنهم وخارجه.
٢- لا توجد اتفاقيات محلية وإقليمية قانونية تحمي حقوق المؤلفين والموسيقيين.
٣- يوجد اعتماد كبير على دعم الدول المانحة، والذي بالغالب لا يأتي دون ثمن.
٤- غيابٌ تام لسياسة ثقافية واضحة محلية أو إقليمية تستدعي احترام الإنسان على اختلافاته وعلى طرق تعبيره، بل تُكرس سياسة التعامل مع قطاع الفن على أنه شيء أقل أهمية.
٥- غياب المؤسسة الحكومية القادرة على التعامل مع تعقيدات هذه الأمور، التي تتداخل ما بين التعليم والتثقيف والقانون والتشريع وتطبيق القانون، ووجود هيئة عليا قادرة على النظر بشكل موضوعي وعميق في مسألة بناء الهوية الثقافية وضمان استمراريتها.
٦- انهيار البرنامج النخبوي – الطليعي – للثقافة ونمو البرنامج الإسلامي المبني على الدين.
٧- تحول القائمين على العديد من المؤسسات إلى مجرد موظفين يحاولون الحفاظ على مصادر رزقهم.
أعتقد أن الموسيقى في فلسطين ما زالت تتأرجح ما بين حالتي المعنى والانتشار. هنالك بعض الأمثلة كأعمالي مثلًا، وأعمال سامر طوطح وباسل زايد ويوسف زايد وأحمد الخطيب ونزار روحانا وونيس زعرور، والكثير غيرهم من الذين يحاولون أن يُبقوا على حالة المعنى المتقنة، والتي برأيي تميزت بها الموسيقى الفلسطينية النخبوية. لكن هذه الأعمال لا تحقق أرباحًا من أي نوع، لا سياسية ولا آنية بالمعنى المباشر.
يحاول البعض أن ينتجوا أعمالهم من أجل الانتشار التجاري، وبعض هذه الأعمال متقن من الناحية الفنية، لكن الصناعة الموسيقية العالمية قد تغيرت كثيرًا ولم يعد هنالك طرق كثيرة للاستفادة المالية باستثناء العروض. بالإضافة إلى أن قوانين العرض والطلب أصبحت تنطبق على الأعمال الموسيقية في معظم بلدان العالم، ولم يعد هناك حقوق ملكية وطباعة وبيع بث. تآكلت معظم البنى التحتية التي تحافظ على مساحة إنتاج يستطيع من خلالها الفنان أن يعيل نفسه، وينشر أعماله. من ناحية أخرى، أُلاحظ بأن الكثير مما يدور في الساحة الفلسطينية، على مستوى الإعلام المرئي والمسموع، يقدم أعمالًا تدور في حلقة ضيقة من التوجهات الفنية الشائعة. لا تنبع معظم هذه الأعمال من خلفية جدية ومدروسة للعمل، بل تخلط المفاهيم والألوان الموسيقية لمجرد الخلط.
بالنسبة لأدواتي، أو اللغة التي اخترتها كمؤلف، اخترت أن أستخدم هذه الأدوات وأسخّرها في خدمة المعنى، وليس الموسيقى من أجل الموسيقى (أو الفن من أجل الفن) فحسب كمفهوم مجرد. مثلًا، في أغنية عازز عليّ نفسي، قررت أن أستخدم العود والغناء فقط من أجل التعبير عن مسألة خاصة تتعلق بفقدان شخص عزيز. أيضًا كتبت مقطوعة من حركتين لأوركسترا فلسطين تتعلق بشارع معين في ذاكرتي القديمة والآنية.
لحنت أغنية احملني زي غصن زيتون في حزيران عام ٢٠٢٠، وكنت قد كتبتها قبل عدة أشهر وأعود لقرائتها ما بين الحين والآخر؛ وهي مهداة إلى منير وجورج، أولاد عمي اللذَين توفيا وأنا بعيدٌ عنهما. يكبرني منير وجورج سنًا، وكانا بمثابة أخوة لي أو حتى آباء. الأغنية أيضًا مهداة إلى أخي الكبير عادل، الذي قدم لي كل ما يستطيع لرعايتي بعد موت أبينا وكان بمثابة الشخص الذي كنت أهتدي به من حين إلى آخر. كذلك هناك أغنية جديدة عن تجربة الاعتقال باسم أنصار ٣.
كتبت كلمات هذه الأغنيات بالعامية الفلسطينية التي أتحدث بها، واستخدمت الموازين الشعرية التقليدية في قياسها. ابتعدت عن الرمزية التي ألصقناها بأنفسنا لفترة طويلة، والتي لم ترق لي من حيث إفراطها في التعابير المفذلكة والتشابيه التي تخدم المفاهيم الفلسفية أكثر مما تعبر عن حال الإنسان. في اللحن، استخدمت آلات الإيقاع مع توافيق موسيقية محددة ارتأيت استخدامها في هذا السياق. يأخذ الأكورديون الصدارة في التوزيع، ويجمع البايس كافة الآلات تحت سقفٍ واحد. توجد في اللحن قفزات متعددة، ويحاكي ألوانًا عديدة من أنواع الموسيقى التي تختلط سوية. في العادة، وعلى الرغم من توافر الإمكانيات التقنية المتقدمة لأقدم لحنًا ما في طراز ذو أسلوب محدد، إلا أنني أعتمد على التجربة وعلى هذه الأدوات هنا لأجد حلولًا قادرة على أن تعبر عن المعنى من ناحية، وتختلط سوية لتعبر عن صوتي وفكري الموسيقي والإنساني من ناحية أخرى.
في نهاية المطاف، يأخذني وقت طويل من الاختزان والتفكير الباطني في التجارب الانسانية قبل أن أبدأ في التعامل معها على المستوى الشعري أو الموسيقي. في بعض الأحيان تأخذ هذه الحالات مداها، وقد تستغرق عشرات السنين قبل أن أحس بأنها قد نضجت وتستحق الخروج.
في مقطوعة رام الله ٩٥ توجهت نحو حالة ما بعد الحداثة التي باتت رام الله تمر بها ما بعد أوسلو، حيث بدأت تظهر ملامح مختلفة جنبًا إلى جنب، على الرغم من تناقضاتها وبعد أو قرب مفاهيمها وأسباب وجودها.
أردت كذلك في أعمالي أن أعبر عن حالة الخوف والرهبة والتوتر في ظرفٍ معين، حيث نحاول جاهدين كبشر أن نسيطر على أحاسيسنا ولا نظهرها، فارتأيت إظهار هذه الحالة الحسية عبر الإيقاع المستمر والمتشتت أحيانًا، بينما استخدمت اللحن الأساسي عبر غناء همهمة بشكلٍ يعبّر عن الرغبة العقلانية بالسيطرة على هذه الأحاسيس، والظهور بمظهر المتحدي فيما يتناسق مع ضرورة المقاومة والسيطرة على الخوف. كان هذا التوجه سائدًا لدي في عمل كوكب آخر، وتحديدًا مقطوعة تفتيش.
الفكرة الأساسية وراء هذا التوجه تسليط الضوء على الوضع الحقيقي للإنسان، في حالة تتضمن الإحساس بالخوف والحب والقوة والضعف والعنفوان والألم والحذر والتعب، أحاسيسٌ متناقضة أحيانًا، خصوصًا في سياق النضال. كان، وأعتقد لا زال، على مفردات التعبير التي تخص المقاومة أن تتجنب أن تعطي انطباعًا بالخوف والضعف والحذر والتعب، بل كان في الغالب على هذه المفردات أن تُظهِر معالم القوة والعنفوان. بالنسبة لي، أردت أن أقول بأنني على الرغم من أنني أقاوم الاحتلال الإسرائيلي وكافة إسقاطاته، وبعنفوان شديد وبإصرار كبير، إلا أنني أيضًا خائف، وأعاني من التعب والألم والضعف. برأيي، هذه النقائض ليست سلبية، بل ضرورية كي نُبقي على صلتنا بذاتنا الإنسانية وأن نكون صادقين في التعبير. تعارضت هذه الوسيلة مع الأدوات التي كانت تروج لها طبقة المثقفين، كما تعارضت مع ما أراد الناس سماعه. من وجهة نظرهم، الاعتراف بالألم أو الخوف ضعف، لكن بالنسبة لي كان التعامل مع الألم والتعب والخوف دلالة على قوة.
لذلك باتت خياراتي كمؤلف تتناسق مع هذه الحالة أكثر فأكثر مع مرور الزمن. قدرتي على التأليف الأوركسترالي أو لموسيقى الجاز والموسيقى المقامية قدرةٌ اكتسبتها بالعلم، والعمل الجاد والتجربة. حتى عندما لحنت قصائد منصور الحلاج عام ٢٠٠٠ اتبعت طرقًا أخرى لها وقعٌ داخلي (أو روحي كما يصفها البعض)، عوضًا عن خارجية (بمعنى التأثر بالعالم الخارجي) أو مرتكزة على التقنية الموسيقية التي أمارسها. استخدمت العديد من المفاهيم والقوالب في تلحين قصائد الحلّاج، من الأمثلة على ذلك أغنية وما وجدت قلبي وأغنية أنا الذي.
إذًا، بالنسبة لي، يتحول الخيال إلى حقيقة من خلال المعرفة والتجربة، وعلى الرغم من قدرتي على استخدام أدوات معرفية عديدة في سياق موسيقي، لا يعتمد اختياري للأدوات على رأي نخبة المثقفين أو على رأي الجماهير، بل على سؤال بسيط: ما هي الأدوات التي يمكنني استخدامها في تحقيق أقرب تعبير ممكن عن موضوع الأغنية أو المقطوعة الموسيقية؟ ليس الموضوع هو الإمكانية التقنية لتوزيع أغنية زوروني كل سنة مرة مثلًا لأوركسترا، بل السؤال: ما جدوى ذلك؟
يعيش عيسى بولص اليوم في أمريكا، ويدير حاليًا مركز الموسيقى والفنون في جامعة هاربر.
أُجريت المقابلة بالمراسلة.