.
أحسب أنني من القراء المنتظمين لمقالات فادي العبد الله في النقد الموسيقي منذ عدة سنوات، لكن حين بدأت في قراءة كتابه الصادر حديثًا عن دار الكتب خان في مصر: في إثر الغواية – عن الموسيقى والنقد، وجدتني أتتبع رحلة – مدتها ربع قرن تقريبًا – شكّل خلالها العبد الله معمارًا فكريًا وأدبيًا هائلًا، تفكيكًا وتركيبًا لمعظم ما تأسست عليه أفكارنا ومشاعرنا تجاه موسيقى منطقتنا، خصوصًا موسيقى مصر والشام، من روايات تاريخية وأساطير هوياتية ومسلّمات موسيقية ونقدية.
لا مبالغة في القول إن العبد الله صاحب مدرسة نقدية لها منطلقاتها ومفرداتها الأصيلة – حسب تعريفه هو للأصالة. مدرسة جدلية لا تنصرف للجدل بغرض التقويض ولا توزيع الأحكام، لكنه مستوى من الجدل الذي يجاهد صاحبه أفكاره نفسها وأحكامه المسبقة كما يشتبك مع محيط من المجادلين والمفكرين من كل العالم. في مجاهدته الممتدة يُفلسف ويؤشكل جريان الموسيقى في الزمن، وأضداد النقد العربي الزائفة، ويُحقق في الصور الاجتماعية والتاريخية المنسوبة لمشاهير وأساطير، ومُتخيَلات خطابات الهوية، ومعاني الطرب وشذراته، وعلائق الماضي والحاضر وآثارها في الموسيقى والغناء وأداءاتهما وأصواتهما.
هذا الحوار الطويل تساؤلات طرأت لي، ضمن بعضٍ ضئيل مما يثيره هذا السِفر المرجعي، وسعي لتفاعل مع أفكار الكتاب ومحاوره الوثّابة، وتحية امتنان لمرحلة وجزء من رحلة من التقصّي والإخلاص، قضاها فادي العبد الله في إثر الغواية ومُنحنا رحيقها.
فادي: أفترض أن جمع كتابات مر عليها عقدان ونيف في كتاب واحد مجازفة بكشف ما كان محوه مفضلًا: تناقضات، وسهو وأفكار لم تكن ناضجة بعد وتسرع. لكن تلك المجازفة، في رأيي، مقبولة لقاء سير القارئ والقارئة معي في رحلة لم أكن أعرف مسبقًا مآلاتها، ومتابعتهما تطور الأفكار وانفراد ما كان عابرًا سابقًا بمقالة تامة أو حتى بفصل في مكان لاحق، أي بإذعاني وإيضاحي له ولها أن الأفكار لا تسقط ناجزةً وأن لها سياقًا لإنتاجها، وتغذية مستمرة ما بين النظري فيها وبين تطبيقاتها على أعمال أو على فنانين محددين، وأنها على أية حال أفكار وليست أحكامًا مطلقة ومنزّلة.
أما في شأن أم كلثوم تحديدًا، فإن الإضاءات على جوانب مختلفة من تاريخها وأعمالها لهي من أعمال النقد الضرورية لإنصافها وإبعادها عن مصاف الأسطورة التي لا تمس (المقدسة ومن ثم المهملة). وإذا ما شئنا جمع بعض هذه الملامح في فقرة واحدة لربما كان الناتج باختصار أشبه بقصة من ثلاث مراحل:
نالت الصبية تدريبًا صوتيًا ذكوريًا مشيخيًا، على خلاف مغنيات عصرها، ففاقتهن جميعًا بالجمع بين قدراتها وذكائها، إلا أن النصر عليهن، خصوصًا في ظل منافسة شرسة لأسطوات المسارح الغنائية وانتشار الطقاطيق، تطلب الإتيان بجديدٍ خاص يتماشى مع ذوقٍ صاعد اجتماعيًا، ومع خروج النساء من الحرملك والتحرج تاليًا من بعض كلام الطقاطيق. هكذا كان إنتاجها التجديدي، كلامًا مع أحمد رامي على الأخص ولحنًا مع القصبجي وأيضًا مع النجريدي المظلوم، سلاحها الأهم حتى قبل احتلالها صدارة طلائع السينما الغنائية.
في المرحلة التالية، كان جعل التجديد مقبولًا مسألة أساسية، وسياسية في ظل محاولات المصريين التخلص من الاستعمار ومن خطاب الدونية تجاه حضارته. أنتج هذا مسارين: مسار التباهي بالتجديد الذي اختاره عبد الوهاب، ومسار إخضاع التجديد الفعلي لخطاب متقنع بالأصالة، وهو ما قامت به أم كلثوم لا سيما مع السنباطي.
تحت شعار الأصالة استمرت أم كلثوم بتجديد موسيقاها (وهي ما يهم وليس كلمات الأغنيات العاطفية المتشابهة عمومًا عندنا منذ أن خسرنا المسرح الغنائي): انتقالًا من التخت إلى الأوركسترا، وتنويعًا في القوالب الغنائية ومزجًا لها، ومواءمة حيثما كان ضروريًا مع السياق السينمائي ومن ثم مع إتاحة الإذاعة للتسجيلات الطويلة.
كان لنجاحها الساحق هذا، بالإضافة إلى نجاح عبد الوهاب التجديدي الساحق، أن اكتسحا تقريبًا المجال الموسيقي المصري (ثم وإلى حد بعيد العربي)، وأدى ذلك بالتدريج إلى محو العصر الأسبق بتقاليده وقوالبه وأساليبه وأصواته.
لما استقرت السيدة الآن على القمة باتت وحيدة، معاكسة للتيار الأوسع. حريصة على أداء أغنيات طويلة (أسموها بالوصلات صدًى لوصلات القرون السابقة التي تجتمع فيها قوالب وأنواع موسيقية شتى)، وعلى إغنائها بملامح مما اكتسبته من تدريبها الأول من مقدرة على الزخرفة والارتجال، وهي اللحظات التي تختفي فيها الأوركسترا من خلفها ويعود التخت بعدد ضئيل من العازفين لمصاحبتها صدًى للغناء الذي ورثته واختارت، بذوقها، منه ما اختارت.
باتت أم كلثوم الوحيدة هذه، رغم نجوميتها الساحقة، رجعية بالمقارنة؛ ورغم محاولاتها في الستينيات لتجديد ملحنيها، لأن مسيرة التجديد (قصر الأغنية، قلة مساحة الارتجال، تزايد محاولات دمج آلات جديدة بما فيها الأورغ بأصوات الكترونية ناشئة آنذاك) كانت قد ذهبت بعيدًا عما كانت تحبه وتريده، ولأن خطاب الأصالة وتمثيل الهوية كان قد ابتلع حتى قدرتها على الخروج عليه.
لهذا انطبق هذا الخطاب عليها، معليًا إياها نموذجًا فريدًا على الطرب، لكنه النموذج الأخير، الأعلى المُعجز، وبالتالي أصبحت وظيفتها فيه قمعية ورجعية، ربما على الرغم منها هي شخصيًا.
كما ذكرتِ، كان عبد الوهاب دائمًا يرفع صراحةً راية التجديد والتطوير باستمرار، وفي كل لقاءاته كان يتفادى حتى إبداء الإعجاب بأعماله الأقدم. يتبدّى إعجاز عبد الوهاب البالغ عند النظر في مواكبته، بل في سبقه، لكل الأجيال اللاحقة، إذ ما إن يستبين نكهة جديدة في التلحين حتى ترينه سباقًا في دفعها إلى حدودها القصوى التي لم يكن أصحابها أنفسهم يرونها. يبدو هذا جليًا مثلًا في تعامله مع جيل الموجي والطويل، في مرحلة الخمسينيات، وكذلك في تعامله مع أم كلثوم إذا قارناه بشغل بليغ حمدي معها وكيف ساعد عبد الوهاب بشكل غير مباشر في تطوير أسلوب تلحين بليغ حمدي للست.
قد يختلف كثيرون على الموقف المبدئي من تجديد عبد الوهاب، لا سيما لجهة عدم احترامه للمقامات في صيغتها المدرسية المفترضة، وإدخاله آلات غربية واهتمامه باستقطاب الموزعين الدارسين خدمةً لأعماله. إلا أن عبد الوهاب كان في الآن عينه مجددًا حتى في الخلايا النغمية التي يستعملها (بما في ذلك استعمال الكروماتيك، وكذلك المتتاليات النغمية بشكل أوسع بكثير من السابق) وفي إدخال إيقاعات جديدة واقتراح نقلات مقامية مفاجئة، إلا أنه في ظني كان أيضًا مستوعبًا وهاضمًا للتراث السابق عليه، فهو أنبغ تلامذة أستاذ الموشحات درويش الحريري (وإن غضب الشيخ على تلميذه عندما زادت جرعة التغريب عما تحتمله ذائقته) فهمًا لأهمية الإيقاعات عندنا، وللحرية المتضمنة داخل السياق النغمي العربي الذي لا يأسره “سير مقامي مسبق”، ووعيًا بتركيب جملٍ ملحنة غير مرتجلة لا تتطاول كجمل الأدوار بل تتتالى كما في الموشحات بشكل شبه محتوم. يضاف إلى ذلك ذائقة عبد الوهاب الصوتية التي اختارت، مثل اختيار أم كلثوم، الابتعاد عن الإكثار من العفق الصوتي والترجيف والزخرفة متيحًا بذلك المجال لمضاعفة تأثير مثل هذه التقنيات عندما يستعملها فعلًا. الحق إننا لا نكاد نعرف من بعدهم مطربين أو مطربات استطاعوا الخروج على اختياراتهما الصوتية.
أظن أن عبد الوهاب، في الرواية العامة، يحتل موقع التجديد المستمر بجدارة. فهو منفتح على الموسيقات العربية (استعار من الألحان الليبية، ولحَّن بنكهة لبنانية، ولكثيرين من كل البلدان) وعلى الموسيقى الغربية دون عُقدٍ. أذكر مثالًا على الموقف الفكري لعبد الوهاب أنه كتب مقدمة لكتاب نُشر في الخمسينيات عن تذوق الموسيقى الغربية معتبرًا أنها قد أصبحت جزءًا من هويتنا ما دمنا استمعنا إليها (في الإذاعة والأفلام والأسطوانات). فهو يعتبر أن كل ما طرق سمعه جزء من هويته (وهذا ربما تعريف الأصالة الذي سنعود إليه أدناه). لكن هالة التجديد العارم برأيي تظلم أيضًا الجانب الواعي والمستبطن للإرث المحلي لدى عبد الوهاب. في نهاية الأمر، فإن مكانة عبد الوهاب كمثل أم كلثوم ما كانت لتترسخ لو كانت انقطاعًا تامًا عن المألوف واغترابًا مطلقًا عن الموروث.
حديثي عن تيه زياد الرحباني إنما كان في سياق الإشارة إلى تفكك العناصر المكونة للهوية الموسيقية التي حاول الأخوان رحباني صياغتها للبنان. وهو ما جرى بالتوازي والتزامن مع عودة الأغنيات ذات الطابع الجبلي أو المصري أو البدوي أو الفرانكو-أراب إلى صدارة المشهد اللبناني في السبعينيات من القرن المنصرم، فهو لم يكن وحيدًا في ذلك التفكك.
أظن رحلة زياد الرحباني نموذجًا على خيبة الأمل من الهوية الرحبانية المقترحة، كما عن فشل محاولات الاعتراض عليها وصولًا إلى العيّ الذي أشار إليه أحمد بيضون مرةً، علامةً على مسرح زياد الرحباني. فعلى الرغم من موهبة أكيدة، وذكاء موسيقي حاد، وقدرة على التوزيع واللعب بين أشكال وأنواع موسيقية مختلفة يتمتع بها، إلا أن رحلته هي في نهاية الأمر رحلة اعتراض على عمل الأخوين رحباني: بالسخرية المسرحية، وإخراج فيروز من صورتها المتعالية، واللعب الضاحك في الكلمات التي كتبها لجوزيف صقر مثلًا، والتوزيع اللاهي لا سيما باستعمال النحاسيات، وبإدماج الجاز، وتفكيك الخطاب الغرامي الرحباني في الأغاني. لكنها رحلة تنتهي، في ظني، في لحظة الصُلح في ألبوم إلى عاصي الذي، على اختلاف توزيعه عن توزيعات الأخوين، يظل مُحافظًا في التوزيع، ذكيًا في اختيار الأغنيات الدالة على أنماط الأغنية الرحبانية، ويظل رسالة حب إلى الأب بعد سنوات من محاولات قتله وقتل أعماله رمزيًا.
مع تفكك الهوية الرحبانية للبنان ومع استنفاد محاولات الاعتراض عليها عند بروز غياب أي بديل جدي لها، في رأيي، تنتهي رحلة زياد الرحباني. بعد ذلك، كانت في لبنان محاولات أخرى لاقتراحات موسيقية مغايرة، ربما كان أشهرها مشروع ليلى والسوب كيلز، لكن هذا حديث آخر.
لا شك أن توسع دور الملحن تزامن أيضًا مع تغير في النسيج الصوتي للأغنية (المصرية بادئ ذي بدء). فبعد عقد تقريبًا على نهاية الحرب العالمية الأولى، نجد بدايات تغيير بنية التخت نفسه بإدخال آلات جديدة بالتدريج (البيانو والفيولونسيل وسواهما)، في نفس الوقت الذي بات الملحنون (كالقصبجي وعبد الوهاب) يلعبون أدوارًا أوسع في صياغة الصورة النهائية للألحان المعدّة بعناية. ثم، بعد ذلك بقليل في الثلاثينيات، سيبدأ التوزيع الموسيقي يحتل مساحة أوسع وأغنى لا سيما مع ضرورات السينما الغنائية واستبطانها الموسيقى التصويرية الغربية إما نقلًا مباشرًا أو استيحاءً.
في المقابل، ما خسرناه هو مساحة الحرية الواسعة في التصرف والارتجال من جانب المطربين والمطربات (باستثناء أم كلثوم، فإن هذه المساحة ضاقت بالغ الضيق على الآخرين)، وكذلك من جانب الموسيقيين إذ من المستحيل السماح لأوركسترا كبيرة بأن يكون لأفرادها الحرية في التنويع والزخرفة دون تنظيم، حتى وصل الأمر في النهاية إلى تثبيت الصولوهات التي يؤديها موسيقي فرد بعد أن كان من المتاح لعبده صالح أو للقصبجي أو للحفناوي أن يؤدوا تقاسيم ارتجالية حقيقية من إبداعهم في حفلات الست.
صوتيًا، كانت هذه الحرية تؤدي إلى نسيج هتروفوني، متعدد الأصوات دون تنسيق مسبق، فهو إذًا ليس بوليفونيًا ولا هارمونيًا. هذه الهتروفونية، وإن كانت بعض الآذان اليوم عاجزة عن استساغتها لأول وهلة، إلا أنها تضفي على النسيج الصوتي حيوية وعمقًا لا يستنفد، ففي كل مرة نعيد فيها الاستماع إلى تخت في أسطوانة قديمة سنلاحظ أمورًا قد أغفلناها: ابتعاد هذا العازف أو ذاك عن أقرانه، اقتراحاته النغمية والزخرفية الخاصة، والأسلوب الفريد لكل كبيرٍ منهم في اللعب مع الإيقاع وفي تناول المادة الخام وتحويلها إلى موسيقى حية.
لعل من المؤسف خسارة هذه الهتروفونية، بمقابل ضئيل آخر الأمر إذ لم يتطور التوزيع بشكل عام كفايةً، عدا أعمال قليلة جدًا، لمنحنا مثل هذه الحيوية والتعدد داخل النسيج الصوتي المسموع.
لا أحبذ بشكل عام تخييل ما كان ليحصل لو أن الواقع لم يقع. لكن في المقابل أحلم بحاضر يتعامل مع الواقع ومع مصادر الماضي بشكل أكثر انفتاحًا، أي أكثر قدرة على التعلم والانتفاع من هذا الماضي.
ربما بإمكاننا اليوم مثلًا أن نشجع، لا على عودة المسرح الغنائي بالضرورة ولا عودة التخت بالضبط، لكن على تشكيلات أصغر من الفرق، وعلى مساحات أوسع من الحرية لأفرادها، ومن الارتجال، وأيضًا من العودة إلى تعلم أساليب إصدار الصوت والزخرفة، ومبادئ التنويع التي كانت متضمنة ضمن التراث الممتد من عصر الحامولي وعثمان إلى عصر أم كلثوم، والاستفادة من تراث المسرح الغنائي في تنويع اهتمامات الأغنية نفسها ومضامينها.
بل أيضًا لا تمتنع علينا العودة إلى عصر أقدم، عصر الموشحات حين كان الدور الأعظم للملحن، لكن لملحن كان يمنح في كل عمل قدرًا كبيرًا من الحيوية والمفاجآت واللعب الإيقاعي والميلودي والمقامي مع ضمان مساحة هتروفونية عند الأداء. كل هذا غير ممتنع، نظريًا، في السياق الحالي الذي يبتعد عن الأوركسترات ويبتعد عن دور حاسم لملحن واحد، لأن بإمكان الجميع أن يتعلم منه (أي من الموروث) كيف يمكن للأذن العربية استقبال الهتروفونية وحيويتها (والبوليفونية أيضًا لو اقترحت بشكل جدي عليها)، والتفاعل مع مستويات مختلفة من التنويع والتلاعب داخل نسيج الموسيقى وايقاعها.
إذا ما قارنّا جمل عبد الوهاب والسنباطي الموسيقية بجمل سيد درويش رأيناها عمومًا بعيدة كل البعد عن طقاطيقه، وذلك بسبب ابتعادهما عن التلحين للمسرح عمومًا، كما عن أدواره. فجملهما لا تنتمي عمومًا إلى تراث جمل الأدوار المتطاولة دون تكرار داخلي كثير، ولا هي في خفة طقاطيقه، وبساطة مكوناتها (أو خلاياها النغمية).
لنستمع مثلًا إلى البساطة والتكرار الداخلي للنغم في أشهر طقاطيقه، مثل الوارثين أو اقرأ يا سي قفاعة أو الرشايدة أو طلعت يا محلا نورها، ومحسوبكو انداس، واستيحائها موسيقات الطوائف والأقوام. باستثناء زكريا أحمد، ومصادره الموسيقية لا تقتصر على صداقته مع سيد درويش بل تشمل المجال الديني تلاوةً وتواشيح وموالد، وكذلك الأدوار، والموشحات التي درسها مع عديله الشيخ درويش الحريري، وطقاطيق داود حسني وسواه، فإن الملحنَيْن الأبرز منذ الثلاثينيات كانا بشكل مباشر تلاميذ للقصبجي، وبعض أعمال السنباطي الأولى لا يكاد يكون من الممكن تمييزها عن شغل القصبجي الذي افتتح مسيرة جمل موسيقية فيها تعقيد بالغ وتأثُّر بالغرب واستبطان للدراما وابتعاد عن أجواء الموسيقى الأسبق، ما فتح أمام عبد الوهاب ثم السنباطي لاحقًا مجالات التلحين والمقدمات الموسيقية المميزة.
لا شك أن أساليب ما تسمينه بأجيال الأغنية القصيرة اختلفت عن ذلك، فهي في الحقيقة انطلقت من عملية تبسيط هائلة لكل المنتج السابق عليها بنحو ثلاثة أرباع القرن. لكنني لست أدري إلى أية حد هي في الحقيقة منبتة الصلة بالطقاطيق الدرويشية. ليست لدي القدرة لأحكم مثلًا: هل عمرو دياب وملحني جيله لم يستمعوا إلى طقاطيق سيد درويش (وهذا مستبعد في الواقع، على الأقل بالنسبة لأشهرها وبالنظر إلى استعادة إيمان البحر درويش لعدد منها)؟
على مستوى البساطة والتكرار أرى في أعمال هذا الجيل ملامح كثيرة تتشابه مع الجملة الدرويشية، لكن ما ينقصها في رأيي تجذُّر الجملة الدرويشية في دراية أعمق بالغناء المشرقي وأنماطه وأجناس أنغامه، ما يسمح بتنويع أكبر، وكذلك وعي سيد درويش بأن الطقاطيق مصنوعة ليغنيها من لا يملكون أصواتًا عظيمة للغناء لا لتكون هي المشهد الغنائي كله، وأخيرًا انفتاح سيد درويش على جمل موسيقية مستوردة أو مستوحاة من أقوام مختلفين للإشارة إليهم، لا للتماهي معهم ومع غنائهم كمثالٍ أعلى.
لا شك أن سؤال الموسيقى هو أولًا سؤال الزمن. فالموسيقى هي في ذاتها “الأزمنة المحصورة بين النقرات” على ما كان القدامى يقولون في الإيقاع، وهي الزمن الباقي على أسطوانات نعود إليه ما إن تنطق، وهي ما يلفنا بعباءته الزمنية ويجعلنا خالدين خارج الزمن على ما رأى ليفي شتراوس، وهي إقامتنا ما بين تذكر النغمة المنصرمة وتوقع تلك الآتية (ويقول العلماء في أبحاثهم الحديثة أن لتوقع النغمات المقبلة مسارات خاصة في دماغنا مستقلة حتى عن تلك التي تحلل ارتفاع النغمات ودرجاتها ومستقلة عن معالجة اللغة). الموسيقى أيضًا بحسب أطروحة جاك أتالي سبّاقة في طرح التغييرات المجتمعية والتقنية والاقتصادية والتأثر بها قبل أن تتضح في سائر مناحي الحياة، ناهيك عن دورها في الأيديولوجيات القومية وخدمة صورة الدولة عن ذاتها وإن على حساب تراثها الفعلي.
لذا لا يشذ النقد عن سؤال الزمن هذا، أي عن سؤال أثره في الموسيقى وأثر متغيراته، كما عن سؤال ما يبقى وما ينصرم. وبهذا المعنى فهو فصامي لأنه يؤكد حتمية التغيير والانصرام، وفي الآن نفسه يدافع عما ينقضي محاولًا الإبقاء على هذا الزائل من الجمال. من هنا أيضًا ينفتح سؤال الترميم الذي تناولته في الحديث مع هيثم الورداني (وهو منشور في الكتاب)، وعن المعاني الممكنة للعودة إلى موسيقى ماضية وترميمها والتغذي منها أو الوقوع في أسر الماضي إن لم نُجد مفاوضته.
إذا ما تناولنا الأمر من هذه الزاوية فإن حضور الأرشيف لا يغير في الأمر شيئًا. فصحيح أننا الآن، بسبب الإنترنت أساسًا، أكثر قدرة على استحضار ما نشاء من موسيقى الماضي، ومن موسيقى الأقوام الأخرى، إلا أن هذا يعني أننا لسنا فقط أمام قدر هائل من المنتوجات، لكن أيضًا أمام تشظٍ هائل لما كان “تقليدًا” منتشرًا ومتسقًا ومتناسقًا داخليًا. بإمكان شباب اليوم أن ينتجوا في القاهرة أو في بيروت أو أي مكان موسيقى تنتمي لأي نوعٍ يشاؤون، سواء كان من ماضينا القريب أو البعيد، أو من ماضي أوروبا أو من حاضر أمريكا اللاتينية أو غرب إفريقيا.
فالسؤال إذًا هو عن قدرة المبدعين اليوم على التفاعل مع هذا القدر الهائل من المؤثرات، ومن ضمنها أرشيف ماضينا الموسيقي، والخروج من كل ذلك بمنتج جديد، هجين بالضرورة، وهذا مدح في اعتقادي ومصطلحي وليس ذمًا، ليكون ذلك علامة على زمننا وفي صدارة مشهده (إن جاز لي أن أستعير بعضًا من مقاربتك في كتابك كل دا كان ليه)، في حين تستمر تيارات كثيرة في تغذية هذا المشهد وإن لم تتصدره.
ربما كانت هذه فضيلة عصرنا الكبرى إذا ما أحسنّا استغلالها، أي إمكانية تعايش أساليب بل وعصور كثيرة في مساحة واحدة، فليس ما يمنع من استمرار أداء الموشحات والأدوار، جنبًا إلى جنب مع فرق روك وجاز، وكورال، ومع إنتاج موسيقى معاصرة متأثرة بما شاءت. ذلك أن أدوات الهيمنة والاحتكار وبالتالي فرض نمط واحد تبدو لي قد انتهت أو هي على وشك الاندثار، مفسحة المجال لمثل هذا التنوع الأوسع.
هل يمكن أن يكون ذلك على ما تقول “جديد يرمي القديم في ماضٍ لا قرار له”؟ هذه المرة الماضي هو ما تلا موسيقى النهضة التي ستصبح موسيقى مفقودة مع الوقت؟
لنتذكر أن بدايات الاهتمام بالموسيقى الشعبية في مصر كانت برعاية الدولة نفسها، وكانت تاليًا موسيقى تصطنع الشعبية أيًا يكن مدى صدق أصحابها وصانعيها.
لا أظن الوضع الحالي إذًا شبيهًا بتلك المرحلة. يمكن الآن تناول موسيقى شعبية من منابتها، في الأرياف وفي الصعيد وفي ضواحي القاهرة، والوصول إليها بضغطة زر دون توسط مؤسسات الدولة وإذاعتها وتلفزيوناتها. بل إنني أرى الوضع الحالي توسعًا للمرحلة التي بدأت مع انتشار الكاسيت، وتاليًا تفلُّت الإنتاج الموسيقي من مؤسسات الدولة المصرية، وهذا ما سمح بظهور تيارات عديدة وبدمجها (الفرق الغربية، الغناء النوبي، عدوية، … إلخ).
تتسم هذه المرحلة في رأيي بخسارة السلطات المركزية التي كانت في زمن معين معبرة عن البرجوازية، ثم عن البرجوازية الصغيرة، للأدوات التي كانت بها تحكم سيطرتها على المجال الموسيقي (ما عدا بعض الحفلات الحية والموالد) وكانت بها تتمتع بسلطة تحديد المتصدر في هذا المجال آنذاك.
بالمقابل، تتعدد اليوم إمكانيات الإنتاج، كما إمكانيات التأثر والتفاعل (بما في ذلك مع الأرشيف على ما أسلفنا)، وإن كان من الملاحظ باستمرار (وهذا أشار إليه أدورنو قديمًا) سعي رأس المال الكبير إلى وضع اليد على الأنماط الموسيقية الجديدة وإدماجها في الحركة التجارية، وعنوانها في أيامنا الإعلانات والسينما والاحتفالات الكبرى، التي تتيح دخلًا كبيرًا لمن يقبل بالدخول إلى جنتها، في مقابل التخلي عن الحيوية والحرية والانطلاق الذي كانت موسيقاه مشحونة بها بادئ الأمر وأيًا كان رأينا النقدي بها.
العلاقة بين الموسيقى واللغة بالغة التعقيد، لا سيما عند قوم يرون في اللغة معجزتهم الكبرى ومصدر فخرهم الأعظم. ولا شك أن علاقة الدين الإسلامي بالموسيقى أيضًا بالغة التعقيد، فهو مثل كل دينٍ لا يخلو من الطقوس المموسقة (الأذان، التلاوة، المديح والمولد والابتهالات) غير إنه اعتبر الموسيقى لا سيما الآلية لهوًا ولغوًا، هذا في حال لم يعتبرها البعض من فقهائه حرامًا محضًا.
لقرونٍ كانت مسألة تحريم قراءة القرآن بالألحان مسألة خلافية، ومن ضمن هذا الخلاف تحديد المقصود بالألحان، ولعلها كانت تشير في العصور القديمة إلى استيحاء ألحان المجوس واليهود والمسيحيين عند الحديث عنهم في القرآن، أو تشير بشكل أوسع إلى تلاوة أكثر عناية بالنغم منها بالتعبد والتفكر في النص)
نلاحظ عمومًا إنه باستثناء إشارات عابرة إلى “طرائق” أي مقدمات موسيقية بسيطة تُشبه أو تُطابق اللحن المغنَّى، فإن العرب، بخلاف الترك والفرس المسلمين أيضًا، لم يطوروا قوالب موسيقية آلية وظل مناط الموسيقى عندهم أساسًا هو الصوت البشري، وتجاوزًا مصاحبته. ولعل لذلك أسبابًا متعددة منها الأهمية الضخمة الممنوحة للّغة وللشعر عند العرب، ولكن أيضًا ثراء العواصم الإمبراطورية الفارسية والعثمانية، بعد انهيار الخلافة العباسية (وقد كان للخلفاء الأوائل فيها فرق كبيرة خصوصًا من الجواري المغنيات والضاربات بالآلات)، وتَمكُّنها من الصرف على فرق موسيقية ضخمة لفترات طويلة من الزمن.
وفي إطار الخوف من انسحاق النص، أو تشويه فهمه، أمام ضرورات التلحين، يمكن فهم الإصرار على أن تكون التلاوة القرآنية مشروطة بعدد ضخم من الشروط الخاصة بها سواء لنواحي اللفظ أو المدود أو الوقف وسوى ذلك، وأهم تلك الشروط هو الارتجال (وهو لا يمنع التهيئة المسبقة ولا ترسب جمل معينة لدى القارئ وثباتها في الممارسة عبر السنوات)، أي ضرورة الانفتاح على استقبال النص في لحظة إلقائه دون أن يكون واقعًا تحت سطوة لحن ثابت حتى ولو راعى تلك الشروط.
يمكن أن نرى بعض آثار هذه العلاقة المعقدة بين اللغة والموسيقى في بعض المصطلحات، حيث كان “السناد” أحد أبرز أنواع الغناء في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهو في الآن عينه مصطلح يدل على أحد العيوب في علم العروض، ومن ذلك القبيل أيضًا اختيار اسم اللحن والألحان للأعمال الموسيقية بينما اللحن في اللغة هو الخطأ. ويبدو لي أن سبب ذلك أساسًا هو أن ضرورات التلحين تُملي مد المقاطع اللفظية أو إطالتها بغض النظر عن طولها أو قصرها في اللغة، بل أحيانًا بعكس ذلك أو إلى حد أبعد مما تتيحه اللغة. وقد رأى العرب عمومًا في ذلك تشويهًا للغة والنصوص ولضرورات فهمها، إلى حد أن بعضهم حرَّمها أو نهى عنها منذ أيام الصحابة.
كانت مركزية اللغة والنص ـ لا سيما القرآني ـ إذًا تتعارض باستمرار مع متطلبات فن موسيقي يزداد تعقيدًا وتطلبًا وتفننًا. ولعل من البيِّن عندنا غياب أي محاولات جدية (باستثناءات نادرة جدًا) لتلحين القصائد الكبرى القديمة (من امرئ القيس إلى المعري مرورًا بالمتنبي وأبي تمام وغيرهم) والحديثة. ولفترة طويلة اقتصر التلحين على الموشحات وهي نصوص مكتوبة غالبًا لتغنى وهي أقل جودة من الناحية الأدبية وأكثر خفة ولهوًا، بينما كان التعامل الموسيقي مع القصائد يتم على أساس إلقائها بشكل ارتجالي بالدرجة الأولى بما لا يتيح مجالًا لتلحين مخصوص لها ولا للتمييز العميق بينها على أساس المضامين. ثم انتهينا إلى مرحلة، من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من إنتاج أدبي جديد مخصص بالدرجة الأولى، أو موائم على الأقل، للتلحين الحديث مع ما استتبعه ذلك من تغيير في الفلسفة الجمالية.
أظن أن هذا التحول كان في نهايات القرن التاسع عشر، في مرحلة “ترقية” الغناء والأدب، في مصر والشام أساسًا.
لنقارن بالوضع الأسبق: كانت الموشحات هي النوع الملحَّن الأبرز، بالغة التعقيد على صعيد النغم والإيقاع، أما على صعيد الكلمات فهي عمومًا متشابهة المضامين، وفي مراحلها الأخيرة كانت قد أصبحت مختلطة المستويات اللغوية تجمع العامي والفصيح والمتوسط بينهما، وكان يمكن لمن يشاء أن يضيف إلى كلمات الموشح أو يعدلها أو يعيد تلحينه، وكانت القصائد الملقاة في الإنشاد غالبًا قديمة إلى حد ما، على الأقل الأشهر منها وأقربها زمنًا قصائد الشيخ الشبراوي (المتوفى أواسط القرن الثامن عشر).
لكن في نهايات القرن التاسع عشر كانت حركة تجديدية للشعر والأدب قد ظهرت في مصر، من بين أعلامها المشهورين البارودي ومطران وإسماعيل باشا صبري والمفتي عبد الرحمن قراعة، وبعض هؤلاء ارتبط بعلاقات وثيقة مع أهل الطرب في عصرهم (ثم اشتهر عبد الوهاب مع أعمال شوقي) فنظموا لهم قصائد ومواويل وأدوارًا بالعامية أيضًا.
ويلاحظ فريدريك لاغرانج أن أهل الطرب لم يتركوا شيئًا يدل على توجههم الفكري ونظرتهم إلى “النهضة” التي يقومون بها (وهو مصطلح يمكن لنا الاعتراض على وجاهته من الناحية الموسيقية على الأقل)، ولعل ذلك لأن معظمهم لم يكن يملك التأهيل الفكري والعلمي الذي يسمح له بصياغة ذلك، فقام بدلًا منهم أهل الأدب باحتلال المشهد كاملًا وكانوا هم أيضًا من كتب عن الطرب وأهله ـ ولا سيما في رثائهم.
كانت هذه الحركة التجديدية في الأدب جزءًا من تجدُّد حضاري في المنطقة ومن دخول أساليب حياة وتقنيات ومعارف وعلوم وفنون جديدة بالتفاعل مع أوروبا وأحيانًا تحت وطأة الاستعمار المباشر. لكنها إذ نظرت إلى العصر السابق على أنه عصر انحطاط ـ وهو ما لا نزال للأسف نصم به عمومًا العصر المملوكي والعثماني عامةً وظلمًا ودون تمييز ـ فإن ذلك شمل أدبه بما نُظر إليه على أنه تكلف وصنعة وركاكة وخواء. فكان التجديد الشعري في المضامين كما الأسلوب الدال الأبرز عندهم على الخروج من هذا الانحطاط. ولما كانوا قد أسهموا، بمكانتهم الاجتماعية كما الفنية، في ترقية وضع الفنانين اجتماعيًا كما في إنتاج كلام الأغنيات، فإن كفة الأدب معيارًا للنظر إلى العمل الغنائي قد ثقلت كثيرًا.
لا نزال عمومًا نعاني من هذه الوطأة، فكثيرًا ما نرى الناس والنقاد تحاسب كلام الأغنية، مدحًا أو ذمًا، ولا تكاد تتناول موسيقاها وأداءها إلا من زاوية “التعبير عن الكلمة” وليس من زاوية الموسيقى نفسها. ناهيك عن كون المعرفة بالكلام، أو ظن المرء بمعرفته به، أشيع بكثير لا شك من المعرفة بالنغم والغناء ودقائق الفن، وأسهل بالتالي على من يريد تناول العمل الغنائي أو الموسيقي أن يتناوله من هذا الجانب المبذول للجميع.
أحسب أن عمل اللغة في تمثيل الموسيقى لا يقف عند حد، فعلينا أن نظل نقترح لغويًا كلما تبين لنا وجه جديد من أوجه الموسيقى والإيقاع وتقنياتهما. فمثلًا الومضة هو مصطلح اقترحه كتاب المنيلاوي الصادر عن مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية، وأحسبه من اقتراح محسن صوة من بين كتَّابه الثلاثة، ويُقصد به إن لم تخني الذاكرة الإشارة السريعة إلى جنس أو مقام مغاير لما كان عليه العمل، تمهيداً للعودة إليه بتوسع في وقت لاحق.
أما النبض فأقصد به وتيرة الإيقاع الداخلي، وهو ليس بالضرورة الإيقاع الظاهري ولا هو السرعة (التمبو)، بل هو الخيط الإيقاعي الناظم وراء كل ذلك، ويظل مستمرًا حتى في حالات الصمت أحيانًا كما بين جمل التقاسيم عند بعض العازفين.
أما الشذرات فهي الأجزاء القصيرة على ما يدل اسمها، وقد تكون جملًا قصيرة أو أجزاء من جمل. وأما الخلايا فهي عمومًا المكونات التي ينقسم إليها شيء ما وتتسم بالتكرار، ففي حال ذكر الخلايا اللحنية أو النغمية أو الايقاعية قد يكون المقصود الأجزاء المتكررة داخل الجملة النغمية كمثل تكرار تركيبة أو تتابع نغمي معين أكثر من مرة على درجات متعددة من السلم النغمي المعتمد (كأن نقول، مثالًا، لا صول فا مي، ثم صول فا مي ري، ثم فا مي ري دو، غالبًا مع الاحتفاظ بمدد متشابهة زمنًا داخل هذه الأجزاء المتكررة). وأرى إمكان استعمالها أيضًا عند الحديث عن الإيقاعات الطويلة لتحديد المجموعات الداخلية التي تنقسم إليها هذه الإيقاعات.
من الضروري هنا إيضاح أن الحديث عن جمل لحنية لا يعني أن الألحان تنتمي إلى عالم اللغة، مثلما أن الحديث عن خلايا لحنية أو إيقاعية لا يعني أن الألحان يجب أن تدرّس في كليات البيولوجيا. إنما هي تشبيهات نقرّب بها فهمنا للموسيقى مما نحن به أكثر ألفة.
بطبيعة الحال، تنتمي الموسيقى إلى عالم خاص، مثلها مثل الطعوم أو الروائح، واللغة ليست دائمًا جاهزة سلفًا لتناول خصائص كل هذه العوالم، فتستعير من بعضها لبعض كأن نقول عن صوت “حلو وعذب” أو نقول عن رائحة إنها “حرّيفة”. لعل في أصل كل استعارة من هذه بعض من عمل الشعر على توسيع مجالات اللغة.
رسم كثيرون، لا سيما في مصر ومن بينهم كمال النجمي وفتحي الخميسي وآخرون كثر، صورة تزدري الغناء القديم، فتم وصفه بقصد التحقير بالغجري والعثماني والتركي. وهذه مقدمة ضرورية لرسم صورة لمسيرة التحرر منه، وإهماله، من أجل الشروع في بناء ما ظُن أنه “هوية مصرية حقة خالصة”، أو العودة إليها قفزًا فوق القرون، على أيدي أبطال محددين. بالمقابل لا يتفق الجميع على هوية هؤلاء الأبطال، فبالنسبة للبعض تبتدئ المسيرة التحريرية المظفرة من الشيخ شهاب الدين وسفينته الحاوية للموشحات في عصره (ويظن الكثيرون أن هذا الجهد فريد من نوعه في حين أن سفن الموشحات كثيرة نسبيًا قبل وحتى بعد الشيخ الشهاب لكنها كانت أول المطبوع من مثل هذه السفائن)، وبالنسبة لآخرين فهي تبدأ من عصر النهضة الحامولية تحت الرعاية الخديوية التي احتفى بها كثيرون قبل سقوط الملكية في مصر، أما بعد ذلك فيكاد سيد درويش يحتكر الدور التأسيسي في التخلص من إرث سابقيه المفترضين، أي من إرث الأبطال الآخرين في نفس المسيرة.
وعندما يقفزون عبر العصور بزعم العودة إلى هوية أصلية حقة فإنهم غالبًا ما يعودون إما إلى بغداد أو إلى الأندلس أو إلى الاثنين معًا.
أما الحقيقة في ظني وبحسب ما كتبته ونشرته مؤخرًا مثلًا في شأن العلاقة مع الموسيقى العثمانية (في موقع الجمهورية)، فإن مسار الموسيقى التاريخي مغاير تمامًا لكل المذكور أعلاه.
فموسيقى بغداد أو الأندلس لم تكن عربية خالصة بل خضعت لتأثيرات كثيرة (من الجانب الأوروبي في الأندلس، ومن الجانب النظري اليوناني والعملي الفارسي والخراساني في بغداد)، فلم تكن يومًا موسيقى خالصة من أي تأثير. واستمر هذا التفاعل بلا شك لاحقًا مع حالات من المد والجزر، وأيضًا بالتفاعل مع التراث المحلي في بلاد الشام ومصر واليمن والمغرب، وكل منها منفتح على بلاد أخرى، وبالتلاقح لا سيما مع حالات التهجير (كتدمير بغداد) أو رحلات الحج. لكن باستثناء إشارات قليلة وتدوين بالغ الندرة وصعب التأويل بدقة لبضعة أعمال، فإننا لا نملك معرفة سمعية حقًا بالموسيقى البغدادية أو الأندلسية القديمة على ما كانت عليه، ولا حتى الموسيقى في العصر المملوكي في مصر والشام.
أقدم ما نملكه ووصلنا مسموعًا هو عدد من الموشحات، وقد يكون بينها نزر يسير من العصر المملوكي لكن لا سبيل إلى التثبت فعلًا من أن لحنها يعود إلى ذلك العصر. هذه الموشحات، وأقدم الثابت منها يعود إلى نهايات القرن السابع عشر للميلاد، لا تدل على “انحطاط” من الناحية الموسيقية، بل على العكس من ذلك فهي تشهد على حيوية نغمية وقدرة على الابتكار والمفاجأة، وكذلك على تفنن كبير في التعامل مع الايقاعات. ويبدو لي أنها تطورت بمعزل كبير عن موسيقى البلاط العثماني، وقد توسعت في شرح ذلك في مقالي الآنف الذكر. فأين هي إذًا الموسيقات الغجرية والعثمانية؟
الحق، في ظني، إن الأثر العثماني دخل متأخرًا على الموسيقى المصرية (وقبل ذلك بقليل إلى بلاد الشام)، وإن كنا قد أخذنا ببعض المقامات الجديدة فإن الأثر الأبرز فعلًا لم يكن في الغناء بل في الموسيقى الآلية (البشارف والسماعيات واللونجات) التي يبدو أنها مأخوذة برمتها من الموسيقى العثمانية وتكاد تكون منعدمة لدينا قبل عهد الخديوي إسماعيل.
لا شك عندي أن الموسيقى التي بنيت عليها الموشحات كانت في حد ذاتها متلاقحة مع سواها في القديم الأسبق (في العصر المملوكي) وإلى حد أضيق مع الموسيقى العثمانية قبل عهد إسماعيل (ظهور بعض الإيقاعات الجديدة آنذاك مثلًا وعدد قليل جدًا من الأعمال المكتوبة بالعربية على “قد” لحن تركي)، لكن معظم المقامات والإيقاعات كانت موجودة من قبل العهد العثماني، وتطورت عندنا بشكل مختلف عن تطورها في إسطنبول، لكنها – أي الموشحات – على أي حال تظل أثبت ما يمكن الوصول إليه دليلًا على الممارسة الموسيقية بالغة التفنن في مصر والشام قبل العصر الحديث.
بالمقابل، فإن “أبطالًا” مثل الحامولي وسيد درويش وسلامة حجازي وعبد الوهاب والقصبجي، هم جميعًا متأثرون ومتفاعلون مع موسيقات أجنبية (عثمانية وأوروبية) ومع وسائط تقنية أوروبية ومع أجواء مستوردة وأماكن مستحدثة لاستهلاك الموسيقى (الحفلة، الأوبرا، المسرح الغنائي). أي إن أبطال “الهوية الحقة الخالصة” ليسوا خالصي الهوية لحسن الحظ!
لذا ليس من مبرر “هوياتي”، إذا ما شئنا اتباع الحقيقة التاريخية لا الأساطير، للتشويه اللاحق بسمعة الغناء الأقدم (الموشحات الجماعية، والأداء المنفرد في مدرسة الحامولي وعثمان) ولا بأساليبه. وينسحب ذلك على التثبيت المقيت لأداء الأدوار في صيغة ثابتة (ابتداءً من مؤتمر ١٩٣٢ على ما يبدو في سبيل البحث عن “الصيغة الأصلية” للعمل) أي عدم فهم جدلية العلاقة في الأدوار بين الملحن والمؤدي، كما ينسحب على ما نعاينه من إبطاء قاتل في أداء فرق الموسيقى العربية للموشحات (بزعم أندلسيتها وهي من ذلك براء براءتها من الإبطاء والإملال).
من الأمثلة على مثل هذا التشويه ما سمعته مؤخرًا من أداء لموشح ليالي الوصل (مثالًا لا حصرًا) يشوه جماله تمامًا، ليس فقط بالإبطاء بل أيضًا بحذف الزخارف الصوتية بحثًا عن أداء جماعي ساذج، ممل التطابق بين جميع أفراد الكورال، وكذلك حذف الترنمات التي تلعب أدوارًا مفصلية فيه (أه ويا ليل، مثلما حذف أخرون ترنمات جانم وأمان في موشحات أخرى) وكذلك برفض المد الحاصل في هذا الموشح وغيره للمقاطع اللفظية القصيرة واستبداله بمد مطوَّل وفائض لأحرف العلة وحدها، في ما يدل على عدم فهم لجماليات الموشح كفنٍ لعوب.
فللإجابة على الجزء الأخير من سؤالك، سأقول إن أعجب ما رأيته هو كل هذا التاريخ الموهوم والزائف خدمة لأغراض أيديولوجية. أما أجمل ما فاجأني فهو ثراء الموشحات الجمالي الهائل وابتعادها التام عن الجمود المدرسي والأطر الضيقة التي يتم تدريسها حول الإيقاعات والمقامات عندنا. فالموشحات، وهذا مدار بحثنا الحالي، عمرو البرجيسي وأنا، كفيلة بخلخلة هذه الأطر تمامًا لو جرت دراستها بدقة وبعيدًا عن إسقاط نظريات لاحقة أو مستوردة من العاصمة العثمانية عليها.
تطلبين مني تلخيص حلقة من برنامج أضداد الذي سجلته لمعازف قبل بضع سنين! سأحاول.
الفكرة السائدة تعتبر أن للجماعة (وأقصد هنا المجموعة السكانية المتماسكة حول خطابات أو رموز أو ممارسات معينة تعتبرها ضامنًا لتماسكها ووحدتها) هوية جوهرية يُسمّى المتصل بها أصيلًا. وتعتبر الفكرة السائدة أن المُجدِّد هو فرد عبقري يخرج على القواعد الثابتة حتى زمنه.
تتولد عن هذه الفكرة مشاكل غير قابلة للحل: متى ثبتت هذه الهوية وصارت بالتالي سجنًا؟ وكيف ثبتت إن لم يكن بالخروج على قواعد أسبق، أي أكثر أصالة؟ وكيف يكون فرد عبقري إن لم تمنحه الجماعة إمكانية التطور بداخلها ومن بعد قبول إنتاجه وإدخاله في فنونها ومعارفها؟ ومن ثم كيف يكون التجديد، إن تجاوز مجرد الزخرفة السطحية على الموروث، إن لم يكن خيانة للأصالة. وكيف يكون قبوله مختلفًا عن نسيان الموروث؟
لهذا اقترحت النظر بمنظار مخالف لها: التجديد عملية جماعية، بل وضرورة لكل جماعة تسعى إلى الحياة، وعليها بالتالي أن تشجعها وتحض عليها وتهيئ الإمكانيات للمبدعين للقيام بها. أما الأصالة فهي عملية فردية، بل هي العملية الوحيدة التي تتيح للفرد أن يكون منتِجًا فعلًا لفن حقيقي غير متصنع، فأصالة الفرد (معكوس الزيف، وصدق الأصالة عن نفسه) هي أن يكون ابن زمانه وتعدد المؤثرات التي تفاعل معها (فنيًا، واجتماعيًا، وتقنيًا، ونفسيًا … الخ)، بما فيها الموروث الأسبق، بحيث يكون لفنه قدرة على اجتراح قواعد حديثة ترسخ مقاربات فنية متجددة ولا تكتفي فقط بالاعتراض على ما سبق. بهذا يكون جديده دائمًا جديدًا.
حاولت قدر الإمكان ألا أعدل في المقالات المنشورة إلا حيث كان ذلك ضروريًا لتصحيح خطأ مثلًا أو لتوضيح جملة غامضة الصياغة، غير إني لم ألتزم بالترتيب الزمني للمقالات عمدًا، في محاولة لبناء محاور متقاطعة تنتظم الكتاب.
أما الحذف والاستبعاد فكثيران، وكما كتبت في المقدمة:
“لا يبتغي هذا الكتاب ولا في وسعه أن يثبت جميع المقالات التي نشرها صاحبها عن الموسيقى ونقدها، بل العكس، ربما يبتغي هذا الصاحب أن تُنسى المقالات الأخرى وتُمحى من صفحته، وربما بعد عقدٍ من الزمان يعود فيمحو المزيد مما أثبته هاهنا. وحركة المحو والإثبات تشبه أيضًا صنيع الزمن في الصوت، فلا الإثبات يدوم، ولا المحو ينفي أثر الماضي على الحاضر، كيف يمكن أن نسمع الأصوات لولا أن بعضها يمضي ويترك فينا مساحة للحدس بالآتي.”
وحتى اللحظات الأخيرة، ساعدتني الكتب خان (الصديقتان كرم يوسف وهدى عمران مشكورتين) في حذف المزيد من المقالات التي لم تكن بالضرورة لتضفي أفكارًا أو عمقًا على الكتاب، وإن أضافت له بضع مئات من الصفحات ووزنًا فائضًا، بل كان تعلقي بها عاطفيًا محضًا أو صدى رغبة قديمة بالجدال والمماحكات.
أما ما أثبته فهو ما أرى (الآن، مؤقتًا) أنه كان ناضجًا أو كان بذارًا لنضج لاحقٍ وحدسًا لا زلت مقتنعًا بصوابه بعد مزيد من البحث. فالحذف هو نقدي الذاتي، وليس بالضرورة تراجعًا عما كنت أورده بل ربما فقط عن أسلوب صياغته أو مقاربة موضوعه. والإثبات هو تقصٍ وإبانة في آن معًا لما كان بعضه يغذي بعضه الأخر من مقاربات. ففي نهاية الأمر، لا أظن أن فصلًا مثل إنصاف الأساطير مخصصًا لشخصيات شهيرة هو بمعزل فعلًا عن فصل النقد ونقده حيث أتناول الخطاب النظري الذي أسس لمثل تلك الأسطرة، مثلما أن فصل الهوية والنسيان ليس بمعزل عن تناول حكاية الهوية الموسيقية للبنان او لمصر من خلال شخصيات من أسسوها.
بعد أكثر من ربع قرن من الكتابة في مجال الموسيقى والنقد، أشعر بامتنان لكثيرين ممن ساعدوا وأرشدوا ونشروا هذه المقالات، وساعدوا في الدفاع عن فكرة مخلصة عن النقد الموسيقي ليكون، على ما أزعم، عملًا خلّاقًا لا وصفيًا ولا قضائيًا.
لفراشة العزلات هذه عشاق كثر رغم وحدة كل منهم ساعيًا في إثر غوايتها.