.
مهدي حدّاب: غريب وسط القوالب الجاهزة
كتابة: صلاح باديس
نقرأ على موقع شركة “ريل وورلد“ معلومات عن فرقة “سبيد كارافان“: تأسيسها وتاريخها الفنّي وقائدها مهدي حدّاب الفرنكو–جزائري، وعن مشواره والفرق التي أنشأها وتطويره لآلة العود. في آخر فقرة بالمعلومات التقديميّة، نقرأ توصيفاً كليشيهيّاً لمهدي على أنّه “جيمي هندريكس العود“. عندما نتساءل عن سرّ هذه التوصيف، على الرّغم من خلفيّة حدّاب الكلاسيكيّة على العود، نرجع إلى تاريخه الفنّي لنفهم أصل التسمية التي ستظهر لاحقاً على شكل: إلكترو–عود.
ولد حدّاب في الجزائر العام 73 لأب جزائري وأم فرنسيّة. وفي الثمانينيّات، وككل المراهقين في تلك الفترة، كان يستمع لفرق روك عالمية مثل “الرولينغ ستونز” و“AC/DC” والبيتلز وغيرهم. وفي هذه الفترة أيضاً، كانت قد بدأت فرق الروك المحليّة بالظهور، مثل مثل “راينا راي” و“الأبرانيس“، و“T34” و“خنجر“. بعدها عاش مدة مع أهله في البوروندي بجنوب شرق أفريقيا. وعندما نصحه عازف غيتار فرقة خنجر بشراء عود وتعلّم العزف عليه بدلاً من الغيتار الذي كان آلته، عمل بالنصيحة، وتعلّم العود في “كونسرفتوار تونس” على يد محمد الماجري.
“لماذا العود“؟، سأله الإعلامي عبد الحكيم سكّار– في برنامج كان يعرض على القناة الوطنيّة يتتبّع خطوات موسيقيين جزائريين في الخارج– مجيباً: “لأنّني لا أعرف شيئا خلافه، لا أعرف القيادة حتى. تصوّر؟“. وفي حوار آخر يقول: “العود يشبه قطرة ماء، والماء أعزّ شيء في الصحراء، تماماً مثل نغمة عودي“. وفي تصريحات أخرى يقول أنّه “يسعى لتحديث العود من تجربة إلى أخرى، وجعله راهناً وحاضراً في زمنه، وإعادة ترتيبه واكتشاف أنّه آلة مفتوحة تستوعب تجارب أخرى“.
في باريس منتصف التسعينيّات، شكّل حدّاب فرقة مع مغنية من أصل أميركي وعازف إيقاع ايراني أسموها: “إيكوفا“. أصدرت الفرقة 3 اسطوانات كان آخرها العام 2001.
كانت توليفة الفرقة شرقيّة مع تنويعات غربيّة. حيث يجلس مهدي جلسة عازف التقليديّة وهو منكبٌّ على عوده. ثم انتقل بعدها إلى تجربة أخرى مشكّلاً مع عازف العود الفرانكو–تونسي “سْمَادجْ” ثنائيّاً تحت اسم “دِيوُدْ” (duoud)، ليبدأ بالعمل على إنتاج الصوت بشكل رقمي، مضيفاً مكبّرات الصوت والإلكترونيّات. هنا، صار مهدي يقف من حين لآخر، ويحدث أن يقف والعود على أكتافه (كتمثال الحمّال المقابل للبحر في ساحة تافورة بمدينة الجزائر) ويكمل العزف قبل أن يعود لمقعده.
لكن المميّز خلال التجربتين أن العمل على جعل العود آلة كهربائيّة كان مستمراً ومتدرّجاً. إذ كان يتم ما يمكننا تسميته بـ“مشاركة المحسوس“، أو إيجاد مناطق وسطى بين الخبرات والتجارب، درجة بدرجة. عبر المراكمة أيضاً، مشاركة المحسوس عند مهدي حدّاب أمر فريد، كآلته: عود–كهربائي. فمن الواضح أن الصوت الناتج غير الأصوات الناتجة عن العوادين العرب الكبار التي تخضع لتقاليد، منفتحاً بذلك على ألوان موسيقيّة أخرى ذات جذور شرقيّة أو أفريقيّة أو متوسطيّة، كالجاز والفادو البرتغالي، مثل ربيع أبو خليل وأنور براهم، أو أن يشتغل على الموروث الصوفي بطريقة رقميّة، واصفاً بعض مقطوعاته، كظافر يوسف، إلكتريك صوفي.
مهدي حدّاب روك–مان، عازف غيتار في الأصل استبدل آلته بآلة أخرى بعيدة عن منطقة لعب الروك، لكنّه بالصدفة نفسها التي جعلته يحمل آلة مماثلة، قام بصنع مناخ خاص ولون مختلط من الموسيقى. إذ لم يسعى إلى أقرب لون موسيقي لإيجاد منطقة سهلة” إمّا الروك أو العود. هذا ما يتجلّى أيضاً حتّى في اختيار اسم فرقة “سبيد كارافان التي أسّسها العام 2005 متجنّباً تسميتها بتسمية غرائبيّة (إكزوتيك)، أو على اسم مدينة من مدن آسيا الوسطى، أو حتى “طريق الحرير“.
لا يمكن وصف فرقة “سبيد كارافان” بأنّها ملتزمة بالمعنى السياسي، فـ“الالتزام بالنسبة لنا هو الحريّة، ولا شيء غير الحريّة: أن نقول ما نريد“. يقول مهدي قبل أن يحمل عوده ليريه للكاميرا، نفس خطوط العود العادي لكنه مسطح وبه فراغات يعلّق عليه تمائم كثيرة، واضعاً مسنداً صغيراً من الخلف. وعندما سأله الصحافي إذا ما كان من أجل الصوت أم الراحة؟ أجاب: “من أجل أن ينام جيداً“.
لكن على غلاف اسطوانة الفرقة الأولى “كَلاشينكـ–لوف“، نجد صورة للنصف العلوي للعود الكهربائي، ومن الأسفل أضيفت قبضة تجعله يبدو ككلاشينكوف على رمز حركة الأناركيّة. فهل هي آلة مقاومة؟ يقتبس مهدي من مغني الكانتري الأميركي وودي غوثري: “هذه الآلة تقتل الفاشيين“.
مع سبيد كارافان وكل العروض التي قدمتها، ومع فرق كبيرة مثل: The Cure وChemical Brothers ورشيد طه، ومشاركته العزف مع أعضاء سابقين من فرق مثل The Clash وLed Zepplin وغيرهم، صار مهدي يقف بعوده المعلّق في رقبته خالقاً مزيجاً من أداء الروك–مان الهائج وهدوء عازف العود المنتشي. منحنياً بجذعه نحو الجمهور، مغمض العينين، ويضرب على العود كأنّه يريد سرقة الصوت وتقديمه وحده. وسط آلات ذات الصوت “الكبير“، وجد الإلكترو–عود مكانه، ليخرج صوتاً ضخماً ومختلفاً، كاسراً الإيقاع ومغيّراً مجراه: صوت ينغّمُ المقطوعة ويمنحها صوتاً جديداً.
العود الكهربائي، أو الإلكترو–عود ، ليس إلا مرحلة جديدة في “مشاركة المحسوس” الذي يعكف عليه مهدي حدّاب منذ بدأ مسيرته بين العود كآلة ذات تقاليد شرقيّة، وتمسّكه بصورته كروك–مان (وهذا ما نراه من خلال عزفه على المسرح بحركاته و طريقة إمساكه بالعود وقوفاً). لكن عندما ينهمك ويدخل مهدي في أقصى حالات التركيز وهو يعزف، يعتريه اهتزاز ورعشة، الجذبة التي تتملّكه والتي يشيعها في السامعين تعتبر ذروة مشاركة المحسوس تقصي غرائبيّة آلته وحركاته الغرائبيّة أيضاً عليها. ليدخل في “الدْرْدْبَه” مثلما يقول الصحراويون، حالة من الانفعال تسبق النشوة، وتتمثل في كل الألوان الموسيقيّة التي شكلت خلفيته. تلتقي مشكلة تلك الذروة، بتقاطع “الهارد روك” مع الشرقي البدوي، الأندلسي مع البانك، والتدويخي (Psychedelic) مع “الهدّي“ في الشعبي الجزائري، وهو آخر جزء في الأغنية: حيث يتسارع العزف ويتصاعد وينتشي الحضور فيرقصون بطريقة استعراضيّة تستمد حركاتها من الفلامنكو والموسيقى الأمازيغيّة البربريّة، وهما نوعان تشاركا في المحسوس مع ألوان أخرى حتى تشكّل الشعبي. كل هذا يتقاطع في ذلك الروك–مان الذي يصّر على حمل آلة غريبة، كغربته وسط القوالب الجاهزة.
هذا الفيديو من انتاج مدرار.تي في وينشر بالتعاون مع معازف.