.
عام ١٩٧٣ أُقيم حفل إذاعة صوت العرب العشرين، ودُعي طلال مداح، صاحب المعجبين الكُثر من الموسيقيين المصريين، كأول خليجي يشارك في هذه الحفلات. لدى قدومه، عرض بليغ حمدي على طلال أن يُنحّي ما جهّزه للحفل ويُفاجئ الجمهور بغناء لحن جديد لبليغ. تحمس طلال وباشر بالبروفات مع الفرقة، لكن في آخر لحظة عدّل بليغ اللحن وحفظه طلال بصيغته الجديدة، لكن الفرقة احتاجت وقتًا أطول، لذا جاء إطلاق الأغنية متعثرًا، إذ كثرت التفاتات طلال الخجولة إلى الفرقة مع كل خطأ، وإن عوّضت مواويله البديعة جُلَّ القصور.
كانت تداعيات مقلب بليغ غير المقصود كارثية على نفسية طلال، بتحوّل فتحه العظيم إلى موقف محرج، واستقباله في السعودية بهجوم صحفي شرس واتهامه بسوء تمثيل بلده رغم أن الجمهور المصري نفسه لم يعِب على طلال شيء واحتفى بأدائه. يُحكى أن طلال آنذاك كان على حافة الاعتزال، فتلقفه كلٌ من الشاعرّين الأمير محمد العبد الله الفيصل والأمير بدر بن عبد المحسن والملحن سراج عُمَر لتحضير عودة تلقَف كل ما يأفِكون. كتب الفيصل لا تقول ولحنها سراج عمر، وكتب بن عبد المحسن يا صاحبي ولحنها عبد الله محمد، ليُقدّما في القاهرة؛ لكن الضربة الحاسمة كانت في الأغنية الثالثة، مقادير، من كلمات الفيصل وألحان سراج.
في حفل صوت العرب عام ١٩٧٤، أطلق طلال مداح مقادير صرخةً غنائية مجلجلة ما تزال الأشهر حتى اليوم، غيّرت مسار الأغنية الخليجية وحطّمت كل الحواجز التي حدّت مدى انتشارها من قبل. كانت وقتها إذاعة صوت العرب الموجهة إلى الشعوب العربية بكاملها أكثر ألقًا وانتشارًا من أي وقت مضى، بفعل تأثير انتصار أكتوبر في إحساس العرب بوحدتهم، ما جعل صدى صرخة طلال يطبّق الآفاق. يمكن للإذاعة أن تمنح الأغنية هذا القدر من الانتشار، لكن خلود مقادير اليوم أكبر من الإذاعة.
جاءت مقادير بعد عقد ونصف من تغيير طلال شكل الأغنية السعودية بـ وردك يا زارع الورد، إذ نقلها من الأغنية ذات اللحن والقافية الموحّدين إلى الأغنية منوعة القوافي والأوزان والألحان، وفتح بابًا تاريخيًا لتلحين الأعمال الغنائية الكبيرة بإبداعٍ خالص بعد أن كانت معتمدة بمعظمها على إعادة تدوير الألحان التراثية. هناك من وجدوا في فتح طلال فرصة لمنافسة الأعمال المصرية بالنفَس التلحيني الطويل، مثل عدنان خوج وعمر كدرس وتلميذه محمد عبده في أغانٍ مثل الرسايل ووهم وصوتك يناديني والمعازيم، ملتحقين بتقليد مصري في الوقت الذي يغادره فيه المصريّون، وهناك من وجدوا فيها فرصة لصنع ألحان لا تقل ثراءً واختلافًا وتطلُّبًا في الأداء، لكنها أسهل تعلقًا بالذاكرة وترديدًا في الإيقاع والبُنية. من أهم أصحاب التوجه الأخير طلال مداح نفسه وسراج عُمَر.
على عادة الأمير محمد العبد الله الفيصل، كلمات مقادير لهجة أقرب إلى البيضاء من السعوديّة، تتناول الموضوع الأكثر شعبية تناولًا أمرائيًا. بعد الدخول بإلقاء اللوم على الأقدار وباستخدام مفردة كانت جديدة على غير الخليجي وقتها وجذابة الوقع، مقادير، تتراجع نبرة اللوم إلى عتبٍ وحسرة رقيقَين مع مفردات مثل قلب العنا ومشاوير والنوى. مع الظروف القاسية التي كان يعيشها سراج عُمَر وقتها لم تحتج قريحته أكثر من ذلك.
تميّز سراج عُمَر بسعة اطلاعه، على الصعيد المحلي من ناحية الغوص في التراث، وعلى الصعيد العربي والعالمي كسمّيع نهِم وذوّّاق. أهلّه ذلك ليكون أحد اثنين، مستفيد ماكر من خلفيته الضخمة بنسج الجديد من توليف أجزاء من هنا وهناك، أو من يوظف اطلاعه في الخروج على كل ما عرفه، وكان سراج الثاني. لذا، سجّل سراج أعماله بثقة في جمعية المؤلفين والملحنين في باريس ورحّب بأية مساءلة في حالة تواجد شبهة انتحاله لحنًا لغيره. كذلك كان سراج موزعًا مخضرمًا استُعين به في إعادة توزيع النشيد الوطني السعودي وغيره. هذا من الناحية الاحترافية، من الناحية الشخصية كان سراج شجنًا، وبنى أكبر محطات ثنائيته التاريخية مع طلال مداح من تأريخ الحسرات، بين ما تقول لنا صاحب واغراب والموعد الثاني والله يرد خطاك.
أثمر كل ذلك اللحن المثالي والفريد لمقادير، بدخلتها الأيقونية ثم تلاهث الإيقاع وراء ما ضاع بينما الغناء متهادٍ مودّع في كوبليه على ميعاد ثم منفعل متشبث في كوبليه كيف المحبة تهون، مع لوازم بديعة تطفو بك بين الدخول والكوبليه الأول، ثم تجرفك نحو الثاني. هذا مع توزيع قاص من سراج، بالناي الذي يوْسس لمحلية الأغنية، والوتريات الدرامية العاصفة.
ساهم كل ما سبق في أثر الأغنية، لكن يبقى طلال صاحب الفضل الأكبر، ليس لنجوميته، وإنما لأنه يعرف كيف يُعطي للأغنية شخصيتها. مع كم الأصوات المهمة التي غنت مقادير، من وردة إلى لطفي بوشناق وذكرى وجنات وخالد عبد الرحمن ودنيا بطمة وصابر الرباعي، وغيرهم، لم يستطع أيٌّ منهم حتى الاقتراب من أداء طلال. أغفل جميعهم تقريبًا ما منح صرخة مقادير الطلالية مكانتها، رغم قلة تنويعه عليها على امتداد مسيرته، عدا عن من نزع عن الأغنية محليتها مثل وردة التي شبّعتها بحليات أدائية مصرية صميمة، وهو فخ يسهل الوقوع فيه مع لحن سراج الأليف عربيًا.
“بعد ما تعرفت على طلال، وبعدين بعد كدا بقى دخلنا في الموجي وكمال الطويل وعبد الوهاب وفريد الأطرش. ألاقي ما فيش حد يقعد معاه ويمسك العود ويغني إلا امّا يصمت وتحس ان ترن الإبرة ترن. يعني كان فعلًا ليه جرس وليه … ربنا مديله موهبة الغناء ببساطة، ما فيش فتونة، عروقه ما بتطلعش من زوره، يعني إنسان متمكن لدرجة إن هو بيطوي النغمة والنغمة تبقى تحت أمره.” هكذا وصف بليغ حمدي صوت طلال مداح. فعلًا، قدرة طلال على الفتونة فرد العضلات الأدائي.، وعدم انسياقه وراء تلك القدرة هو ما أثمر أداءاته الخالدة، كما في حالة مقادير. هنا تبدأ الأغنية بداية موّاليّة، لكن بدل أن يجد طلال في ذلك فرصة ليصول ويجول، يبقي البداية كاملةًً دومًا مضبوطة باللحن الأساسي وقفلاته الغامرة، ولا يموّل إلا في الكوبليه الأخير، بعد انغماس الجمهور في جو الأغنية. يفيد طلال العمل بخبرته، ليعود عليه العمل بصدًى للتاريخ.
كل من غناها بعده أخذ من مقادير قوة الدخلة، ولم يُحسن الإصغاء إلى قفلة طلال التي تعبر من القوة إلى قلة الحيلة بحساسية انتهت معه، مع أصالة خامة الصوت والأداء اللذَين يمنحانه وصاية قاص يستحق الثقة، خاصةً مع جلجلة الكلمات التي كانت جديدة وقتها على الأذن العربية خارج الخليج، وساهمت في صياغة صورة ذهنية فخمة للهجات الجزيرة.
يُحكى أن صدفة كانت وراء انتقال الأغنية من أدراج محمد عبده إلى حنجرة طلال، لكنني أميل إلى أنها الـ”مقادير”. نادت الأغنية مطربها، وسرت بصوته عبر الإذاعات العربية والعالمية وعبر صدور مستمعيها على مدار نصف قرن، لتبقى حتى اليوم ممثلة لكل معنى جميل يتوارد إلى الذهن لدى الحديث عن الأغنية الخليجية.