القلق الذي يكاد أن يغير الموسيقى العربية | كميليا جبران

مكان مظلم وبالغ الروعة

معن أبو طالب ۲۲/۰۲/۲۰۱۳

في اسطوانة مكان، يشعر المستمع أن كميليا جبران تغني هواجسها. هي لا تبحث عما سيلاقي صدى، هي لا تفكر استراتيجياً. هي تقع في أسر هاجس، تعيشه، تعالجه ثم تعيد إخراجه إلينا. هي تبني في الأغنية مكاناً يدخل فيه المستمع ليرى الأشياء بضوء مختلف. حيث الكلمات تتمادى وتختلف عن معناها، والأصوات تحمّل بالمعاني. هو مكان لا مسلمات فيه، ولا أجوبة. هذا يتضح لنا جلياً في اسطوانة مكان. لا يمكن الاستماع لهذه الاسطوانة كمجرد متلق سلبي. هذا العمل لا يرغمك، بل يسحبك لتتعاطى معه وأن تدخل فيه. بعد سماعها عدة مرات، كانت نقطة دخولي الاسطوانة هي الأغنية الثانية رفيفوالتي تلحن فيها كميليا قصيدة الشاعر حسن نجمي:

أصبحت لي أحزان البط المدجن

يمر البط المهاجر مشفقا

وتهزأ بي الاجنحة

تغني كميليا هذه الكلمات فوق مقام تبدأه من منتصفه بإصرار وثقة كأن اللحن شظية تتمرد على الصحيح المتكامل، لكنها سرعان ما تنصاع وتصبح خافتة مترددة تعبر عن حتمية مأزق هذا الذي سنسمع عنه بعد لحظات، هذا الإنسان المدجن. بعد هبة الثقة يصبح اللحن متسرعاً ومتردداً، كمن يهبّ للنجاة بنفسه ولكنه يدرك بئس المحاولة بعد لحظة من بدايتها. الطبيعة تختلط هنا بالإنسان، ويرى الإنسان فيها ما يعبر عن مأزقه. مأزق كل عامل، أو موظف، أو متزوج/ة، أو أي انسان انصاع لمتطلبات المجتمع، أي مجتمع كان. ومن منا لم ينصاع ويتدجن؟ براعة كميليا تتجلى في إيصالها الحزن في القصيدة دون أن تلجأ إلى الدرامية، وهي بهذا تعطي هذا الحزن الذي لا مفر منه حقه وحقيقته.

في أغنية نبض، تغني جبران عن الموتى. موتى كميليا ليسوا من جنس معين أو لون معين. هم ليسوا عراقيين أو محجبات، أو شاب لبناني اختفى في الحرب الأهلية، موتى كميليا كانوا بشراً. جبران تخاطبنا عن المطلق. هي تطرح قضايا إنسانية لا قضايا محصورة زمنياً وجغرافياً. هي تتعمق في لغز الوجود والحياة وتدعونا للتأمل. تغني كميليا بصوت يخفت أحياناً ليصل الهمس ويبرز مرة أخرى الطبيعة من ورائه. تطرح كميليا بهذا تساؤلات عن الموت، والعائلة، والحشرات، والأرض. هي تأخذ هذه الأمور التي اعتدنا عليها ولا نفكر بها لأكثر من لحظة، وتعيد طرحها بحيث تظهر لنا من جديد وتتكشف لنا عن حقيقتها، حقيقتها الغامضة والمبهمة.

في مكانتطرح كميليا هاجس كل عمل فني جدي، وهو مأزق الانسان. لغز الوجود، معنى انسانية الانسان بغض النظر عن العرق والهوية والتجارب. هذا لا يعني ابتعاداً عن المنشأ أو اللغة أو رفض المكانات العربية مثلاً أو المحلية، بل هو استخدام هذه المكانات كنقطة انطلاق لاستكشاف معضلة الإنسان، وعدم الاكتفاء بخصوصية الهوية كغاية نهائية

هذا مكان مظلم بالغ الروعة، تضيئه لهبة خافتة ترينا قليلاً من ملامح جبران، وخيال عودها. اللهبة لا تضيء أكثر من هذا، ولا تفصح لنا عن ملامح المكان نفسه، أو لون الجدران، أو الأثاث في داخله. هي تحافظ على الإبهام وتسمح لهذا المكان بأن لا يفصح عن أسراره. هذه اللهبة تضيء فقط ما يكفي لترينا أنه مكان جميل وحزين ومظلم، وأنه يتسع للبشرية جمعاء.

المزيـــد علــى معـــازف