.
لملحم بركات (١٩٤٥- ٢٠١٦) مسيرة في الغناء والتلحين والأداء لم يعرفها سواه. هو الذي استقلّ عن الرحبانية باكراً وانطلق يشق مسيرته عبر التغني برومانسية فائضة وذكورة تقليدية في اللهجة اللبنانية التي بقي يدافع عنها حتى الرمق الأخير.
بدأ ملحم بركات مسيرته، مثلما بدأها غيره في لبنان، مع الرحبانية. اشتهر في عدة أعمال من كلمات وتلحين الأخوين الرحباني منها البرنامج التلفزيوني دفاتر الليل وأعمال مسرحية غنائية عدة ألفها ولحنها الأخوان كان آخرها مسرحية الربيع السابع -١٩٨٤- والتي أدى فيها بركات أغنية شباك حبيبي. فهم بركات باكراً أنه لن يتطوّر مع الأخوين الرحباني، وبناء على نصيحة الملحّن فيلمون وهبة الذي رافقه وتمثل به منذ بداياته، قام بأكبر رهان في حياته وبدأ يلحن لكبار أسماء تلك الفترة كـ وديع الصافي وصباح وسميرة توفيق.
https://www.youtube.com/watch?v=_ctPt1cdN3I
قرر بركات التعمق في تجربة الغناء على ألحانٍ من تأليفه هو، تجربة كان قد خاضها مبكراً في ديو بلغي كل مواعيدي مع جورجيت الصايغ والذي لاقى نجاحاً باهراً. جاءت مرتي حلوة وكبوش التوتة ضمن سلسلة من الأغاني الشعبية التي أدى فيها دور الرجل اللبناني التقليدي. لكنه شاء أن يأخذ الرومانسية الرحبانية إلى عوالم جديدة، فابتعد عن جماليات الريف وصقل في أغنيةٍ تلو الأخرى شخصية الرجل المعاصر والتقليدي معاً، يغضب ويحزن لكنه يحافظ على شهامته. في حبيتك وبحبك يحاكي أغنية بركات عبد المطلب في العنوان ذاته ولكن في رومانسية مطلقة يرافقها الأكورديون في أداء ينضح بمرارة ورومانسية. وجاءت أغنيات مثل حبيبي انت وعلى بابي واقف قمرين لتكرسه كألمع من بقي يؤدي الأغنية اللبنانية لحناً وكلاماً.
لملحم بركات تجربة في السينما اللبنانية في أحلك مراحلها. مثّل في ثلاث أفلام غنائية منها آخر الصيف –١٩٨٠– وحبي الذي لا يموت -١٩٨٤- والمرمورة -١٩٨٥ – كلها ظهرت في الحرب الأهلية وتناولت عناصر الميلودراما اللبنانية بين الحب والقتل والصراع الطبقي. أقلّ ما يقال عن هذه الأفلام انها انتست سريعاً ولكن بقي منها أغنيات مثل وحدي أنا وبعيدك يا الانتي العيد ويا حبي اللي غاب التي أعاد بركات توزيعها مؤخراً مُعطياً البيانو والجيتار الكهربائي الكلمة الأخيرة.
شهدت سنة ٢٠٠٦ عودة ملحم بركات القوية إلى ساحة التلحين. فعمل على ألبوم ماجدة الرومي في أغنية اعتزلت الغرام التي اختلط فيها صوت الرومي الأوبرالي بأسلوب الكباريه والأوركسترا الشرقية. في الفترة ذاتها التي يمكن أن يقال إنها حاولت أن تنفخ روحاً جديدة في مسيرته وتحديداً في قدرته على مخاطبة تجارب معاصرة جاءت أغنية دقة قلبك لكارول صقر والتي أدخل فيها البزق الذي ميز بداياته في إيقاع رومانسي مرح سريع. لكن بركات لم يكتف بتلحين الأغنية بل سخر من رومانسيتها الفائضة في ترداده “بارام بارام بارام” في اللازمة واجتياحه الفكاهي للفيديو كمن يحاول أن يبقى داخل المشهد الموسيقي، حرفياً، رغماً عن روتانا والجميع.
لا يتوانى ملحم بركات عن التعبير عن حبه للعسكر. ففيما كان النظام الأمني السوري-اللبناني في أوجه وصل الجنرال إميل لحود إلى سدة الرئاسة على ايقاع أغنية جيت بوقتك فرفح قلبي وبعد عقدين على هذه الأغنية تحول ملحم بركات مؤخراً إلى متحدث باسم حملة الجنرال ميشال عون الرئاسية. لعلّ موقف بركات لا ينمّ عن محبته للشخصيات العسكرية، بل عن تمسكه بمؤسستي الرئاسة والجيش، آخر معقل الهوية المسيحية اللبنانية التي نصّب نفسه حارساً لها طوال حياته.
في مقابلاته التلفزيونية يبهر ملحم بركات المشاهد بحدة كلامه. يخوّن أولئك الذين بدأوا مسيرتهم باللهجة اللبنانية وما لبثوا أن هجروها طمعاً بالجماهيرية والمال وبعدها يهاجم بـ انفعالية شديدة قلة وفاء الأصدقاء فيعود وينعي فراغ الساحة من الموسيقى والموسيقيين، تلك الساحة التي لا تليق على ما يبدو، إلا به وبأغنيته. غرور وشعور بالمظلومية لا يوازيهما إلاّ روح نكتة وحضور على المسرح يذكراننا بفيلمون وهبة، ملحّن الأغنية اللبنانية الشعبية الذي غيّر حياته.
استقلّ ملحم بركات بأغنيته عن الرحابنة وأخذها إلى أماكن موسيقية وأدائية مختلفة. دافع صاحب الـ “٣٠٠٠ لحن” عنها حتى النهاية. وكما مشى في فيديو وحدي أنا على سكة القطار اللبناني المهجور، مشى أيضاً على سكة الأغنية اللبنانية المهجورة، على ما بقي يذكر بماضيها، يدير ظهره إلى الكاميرا بتحدّ لا يشبه سواه وبلهجة جبل لبنان التي لم تفارقه يقول: “وحدي انا باقي لوحدي | باقي هاون مهما العمر يطول”.
https://www.youtube.com/watch?v=OwScEggYM44