ملك الساحة – قصة

ميغيل إيدالغو برينس ۰۲/۰۱/۲۰۱۳

ترجمها عن الإسبانية شادي روحانا *

أُرقص للحن السون الذي يعزف لك

الشاعر الفنزويلي فيكتور باليرا مورا

في تلك الليلة تم إقصائي من سوق العمل مؤقتا. بالرغم من ذلك، لم يكن هناك أي سبب للتذمر من الوضع الجديد الذي أضحيتُ عليه، إذ أن وظيفتي كانت تتألف من غسل الصحون في مطعم ثلاث نجوم. لا يمكن القول أنني أدّيتها على نحو جيد؛ دعنا نزعم أن غسل الصحون لم تكن تلك المهنة التي ولدت من أجلها، وأن إدارة المطعم كانت تأتي إليّ بشتى أنواع الشكاوي بخصوص مستوى نظافة الأطباق. كما أنّني في كل ليلة واظبت على سرقة زجاجات من النبيذ المستورد من التشيلي لأفرغها أمام شاشة التلفاز بينما أشاهد، في الصباح الباكر فور عودتي إلى البيت، حلقات الإعادة لبرنامج لقاء مع كريستينا“. علاوة على كل ذلك، لم يعجبهم أسلوبي في التعامل مع الحياة عموما، أنا المتعجرف الذي يصطنع المشاكل في أيّ فرصة. ببساطة، كان مزاجي عكرًا في التعامل مع الجميع وأخلاقي، بالمجمل، لم تكن مصقولة كما المرآة. ولكن، تحرّشي المتكرر بالنادلات هو الذي أفقدهم صبرهم جرّاء وجودي بينهم في المطعم؛ هذا ما كان يزعجهم مطلقًا أكثر من أيّ شأن آخر. في الحقيقة إستلطفتني بعض النادلات، ولكن الأغلبية كانت تهابني. إذن، في تلك الليلة، دخل صاحب المطعم غرفة المطبخ حيث إعتدتُ غسل الصحون، وقد كان مصحوبا بالطاهي وإثنين من مساعديه، وقد بدا في حالة هستيرية. ألقى خطابا عنّي وعن أسلوبي في غسل الصحون، ومن ثمّ زعق معلنا طردي من العمل ليسمعه جميع من في المطعم. أمّا أنا، وفي الوقت الذي كان يطلق يديه في الهواء فيحمرّ وجهه غيظًا، قمت بخلع المريلة، طويتها وألقيت بها إلى الوراء، على كتفي، ثمّ تقدمت نحو الباب. فعلت ذلك بأناقة تامة، أمام الجميع. أعتقد أنني بهذا لقنتهم جميعا درسا لن ينسوه أبدا، إذ أن المدير قام بإستدعاء إثنين من حراس الأمن لكي يرافقاني إلى باب المطعم. أردت أن يعرف جميع من في المطعم، وكذلك أن أعرف أنا شخصيّا، من هو القبطان الذي بإستطاعته السيطرة على سفينته بقبضة حديدية. تمكّنت كذلك من الإستيلاء على زجاجة نبيذ أخرى وأن أحشو في فمي فخذة خروف كاملة متبّلة بالزعتر.

على الرغم من كل ما يتخلّله الأمر من دراماتيكية وإذلال، شعرت بحاجة ملحّة في الظهور والإحتفال. لقد فاز فريق الكاراكاس بالدوري للمرة السادسة عشرة. لم أشجّع هذا الفريق في حياتي قطّ، ولا أي فريق غيره، ولكن جوّ البهجة العام أصابني. لم يكد يكن هنالك ما يستطيع التشويش على مزاجي حتى ولو عن بعد كيلومتر جوّي واحد. كان بحوزتي رقم باتريسيا، إحدى النادلات التي تعمل في الزريبة التي إعتبرتها، إلى عهد قريب، بمثابة بيتي الثاني. كان لا بأس بها، أذكر خصوصا ساقيها وشخصيتها التي تعجّ بالحيوية والنشاط. أمّا عن وجهها، فقد كان يوحي لي بدندة أغنية لبروس سبرينغستين، تلك التي يتردّد فيها: You ain’t a beauty, but hey, you’re alright. Oh, and that’s alright with me. أي، أرى أنني إحتفظت لباتريسيا بما يكفي من الإعجاب. يداها صغيرتان وأصابعها قصيرة ورقيقة، وقد كانت تلدغ في نطق حرف الراء. جعلتني أذوب مرارًا. هاتفتها ودعوتها للخروج والرقص في مكان ما يدعى ال– “ماني“. أخبرتني، قبل أيام، أنها لم تزر المكان من قبل وأنه سبق وأخبروها عن الملهى الليلي ذاك بالذات، وبأنه رائع، وإلخ. هكذا قالت: “الملهى ذاك“. في بداية المكالمة، بدا ظاهرا أنها سعت إلى التلميح بأنها مشغولة، ولكنها وافقت في النهاية على عرضي وأخبرتني بأنها ستصل إلى هناك بعد بضع ساعات.

وجدت نفسي متسمرّا في مقعدي على البار منذ العاشرة منتظرا الكأس الأولى لكي تفكني ممّا أنا عليه. كان المكان باعثا للنشوة، يملأه صوت رجل يرتدي ملابسًا تشبه ملابس توني سوبرانو ويطربنا على أنغام معزوفات صادرة عن جهاز إلكترونيّ. لم يتواجد هناك سوى عدد قليل من الصعاليك تعلقوا على البار مثل أسماك اللشك التي تتطفل على أجساد القرش فتلتصق بها. إنتظرت.

رحت أتذوق طعم الهزيمة المرّ الذي لطالما سمعت عنه. مرّت الساعات وباتريسيا لم تأتِ بعد. توقفت عن إرسال الرسائل النصية لها وتخلّيت عن أي شكل من أشكال الأمل. لكنني صمدت وحافظت على مكوّنات الحياة وأنا في خطّ النار. إذ كما قلت، لم يكن بمقدور أي شيء أن يحبطني في تلك الليلة. أما عن الكؤوس، فقد كان التعاون بيننا قائما على أحسن صورة إذ أخذت تفعل فعلتها. في تلك اللحظة كنت قد تجّرعت أربعة كؤوس ونصف، وحملت بين يديّ كأسا أخرى. أخذ الناس يغمرون المكان، لكنني فقدتُ الإهتمام بما يجري من حولي مع إنقضاء كل دقيقة. في تلك اللحظة أدركت حقيقة وجود الكليشيهات. إعترفت بوجودها لأنني أنا بنفسي كنت كليشيهيا بكل ما تدلّ عليه الكلمة من معنى: كنت محاطا بمئات البشر ولا زلت قادرا على الشعور بالوحدة بشكل رهيب. بما أنني لم أكن مهتمّا بتصعيد الأمور لتصير أكثر وعورةً مما كانت عليه، أفرغت الكأس التي في يدي وبهذا وصلت إلى الخامسة رسميّا. كان مخططي أن أسكت الأصوات التي تحوم في ذهني. أردت التوقف عن التفكير. وفجأة أحسست أنّ هنالك طعما معدنيّا في فمي، كما لو كنت أمتصّ بطارية ذات تسع فولتات. حطّمت مكعبات الثلج بأسناني وهززت رأسي كي أستطيع متابعة ما حولي بوضوح. كنت بحاجة إلى التبوّل.

حين وقفت أمام المبولة، وأفرغت ما في ذكري، شرعت أفكر في الماضي. لم أحصل على الباكالوريا أبدا، وأعتقد أنني في حينها إنحرفت عن الطريق إلى الأبد. كلا، لم أكن أحمقا. إنما متقاعس، نعم. أحمق، أبدا. حرصت على قراءة بعض النصوص هنا وهناك وهكذا ودواليك. بدأت بالتصفير. عند التبوّل، تواتيني دائما الرغبة في التصفير. من خلال ذلك إستطعت تنظيف رأسي من كل الأفكار السلبية الممكنة. أصغيت إلى أعضاء الفرقة الموسيقية بينما إستعدّوا للعزف. خضضته جيّدا وتقدّمت نحو صالة الرقص.

أدهشتني أول أغنية إختاروا عزفها:Viva la vida hoy”، أي عِش حياتك اليوم، إحدى أغنيات فرانكي دانتي ولا فلامبويان الرائعة. تلتها أغنية “Emborráchame de amor، أي إجعلني أثملُ حُبّا، أغنية البوليرو الرقّاصة تلك والتي غنّاها هيكتور لافوي. كانت مجموعة الأغاني التي عزفوها من ذلك الصنف الذي يدفع إلى الكآبة؛ تلك الأغاني الفاخرة التي بوسعها تعكير أي مزاج. من بعدها قرّرت الفرقة أن تعزف Lluvia con nieve، أغنية المطر والثلج، رائعة مون ريبيرا. كان قرارًا حكيما. جنّ جنون الحاضرين وإندفعوا يصرخون بإنفعال. طالبوا بالمزيد. قدّم المغني بعض كلمات الشكر والتقدير، هنّأ إحدى الحاضرات بعيد ميلادها ومن ثم صرخ للجميع هاتفًا يلاّ هيّا بنا“. حينها بدأ عازف البيانو يرتجل في عزف مقدمّة أغنية Oye lo que te conviene، أي إسمع ما يناسبك، لبالمييري. أقصد إيدي بالمييري، تحسّبا من شكوك البعض. كنت على وشك الإنفجار. لطالما إعتبرت هذه الأغنية أغنيتي أنا. في الحفلات، عندما تعزف الفرق الموسيقية هذه المقطوعة على وجه الخصوص، يسترسل العازفون دائما بإرتجالات وحشية تمتدّ إلى دقائق لا تنتهي. من لا يهزّ عظامه في مثل هذه الحالات فهو ميّت؛ ميّت في باطنه.

لا أدري لماذا يجد المرء نفسه مسحورة في مثل هذه الحالات. لا بدّ أن يكون هنالك سبب ما. كنت سعيدا وأردت أن أرقص. تحمسّت لحضور صبية سمراء جالسة هناك. مددت يدي لها. عبّر وجهها عن الإشمئزاز ولكنها قبلت. هي بساقها اليمنى إلى الأمام، وأنا بساقي اليسرى إلى الوراء، مثلما علّموني الرقص في طفولتي. أما عنها، كانت تلك مجرّد تقدمة بالنسبة لها. أمسكت فجأة بإيقاع نصف ما كنّا عليه. سكنتها الموسيقى مثل الجانّ. أخذت تتلوى بسرعة كما لو كانت خلاطّا. كان لديها حركات تلقائية بارعة. إستطعت في البداية الحفاظ على وتيرة مناسبة لهرولاتها، ولكنها سرعان ما قررت تعقيد الأمور. وجدت نفسي في مأزق خطير. أخذت السمراء تبتكر حركات جديدة تتقنها بإحكام: دوران مزدوج وثلاثي دون الوقوع في أي خطأ. لبستْ وجه ذئبة وتطاير شعرها في الهواء. كانت تصفّق. كانت تصرخ. حامت حولي وأطلقت ذراعيها. كانت تمتحننني. الرقص. هذا هو الرقص بعينه.

كانت الأرض تتحرك تحت قدماي، وكان عليّ أن أقوم بمهمتي من فوقها.

أعطيت كل شيء عندي. إستنفذت كل الذخيرة في داخلي، كل واحدة منها. أهدرت كل ما كان لديّ من إحتياط. عصرت غددي العرقية كي تفرز ذلك النوع من الحيوية المسمّى بالـ aché. نفّذت الشقلبات التي تعلمتها عندما كنت طفلا يلعب في الحارة. قفزت كما يقفزون عند رقص السالسا في مدينة كالي في كولومبيا. غازلتها بحركات البوغالو، الأمانساغوابوس، الواوا ولكن بالإتجاه العكسي، البيلونغو، الكاسانوفا 90، المالانغا، الويرو، ترنّح الدجاجة، الحذاء القديم، الواتسو، خطوة الموتو راتون.

على مهلك يا بيلي إيليوت! – قالت لي السمراء وبهذا دمّرت إلهامي.

عندما أوشك عازف الطبلة على إختتام السولو، عدنا إلى الحركات الأساسية. الواحد، إثنان، واحد، إثنان، كالعادة؛ الثابت والرتيب. لم يكن بحوزتي أكثر من ذلك. بدأت السمراء تتثائب وتسخر مني. وضعتُ يدايَ حول خصرها كي تستدير فيتكئ عليها ذكري، ولكنها دفعتني عنها وصفعتني، ورسمت لي شكلا يوحي بـِلابسبّابتها. لوّحت به من جهة إلى أخرى مثل مسّاحات زجاج السيارة. دارت حول نفسها مرتين أو ثلاثة، أدارت ظهرها لي وعادت ترقص وهي تنظر نحو المنصة؛ كأنها بعيدة عن كل شيء، في عالمها الخاص. إنتهت الفرقة من عزف المقطوعة وحان وقت الإستراحة. أما أنا فلبثت واقفا في مكاني في إنتظار حدوث شيء آخر. أن يحدث أي شيء. إنتهى. وضع الدي جي مقطوعة مسجلة. ودّعتني السمراء ثمّ تلاشت بين الأزواج الراقصة في الساحة. يداي لا زالتا تعرقان. مسحت كليهما في قميصي وعدت إلى البار من أجل كأس أخرى.

وأنا جالس هناك، لوحدي، أفرغ الكأس رقم ستة وأفكّر في المهزلة الكبيرة التي حصلت لي للتوّ، جاء ليجلس بجانبي سائح من أمريكا الشمالية، أي غرينغو. كان يرتدي قميص هاواي برّاق ويرقص مثل رجال الماوري. لون بشرته كان كلون السلطعون. ذكّرني بديفيد كاروسو.

Wanna dance, party boy؟ قال الغرينغو.

كان ذلك كافيًا. أتذكّر لو كان فريد أستير في مكاني، ماذا عساهُ يفعل؟ نهضت من موضعي منتفضا مثل رجل المافيا المكسيكي وقبضت على قميص الهاواي. كنت أجهّز نفسي لكي أضربه حين إنتزعوني عنه يشدّون بذراعيّ إلى الوراء. كانا غرينغويين إثنين، قاماتهم أطول من ديفيد كاروسو ذاك ويرتديان قميص الهاواي أيضًا.

You better chill, cowboyقال لي أحدهما.

Yeah قال الثاني He’s just screwing with you.

Let’s merengue all night long, sugar daddy!، قال ديفيد كاروسو. وعيناه مغمضتين.

حاولت التخلّص منهما، ولكنني لم أقدر على ذلك. مرة أخرى، الظّلم يتآمر ضدي. هكذا قلت في سرّي. عندها تدخّل البارمان.

هل من مشكلة؟

No problemoقال الغرينغو.

Yeahقال الآخر We’re all good comrades here.

صوّب البارمان نظراته في إتجاهي. كانت عيناه تنتظر مني رأيا. أومضتُ له بعيني أنّ كل شيء على ما يرام، لكنه لم يقتنع بذلك. حينها حصل الأمر غير المتوقع. ظهرت فجأة الصبية السمراء التي شاركتني الرقص، من اللّاشيء جاءت، وكأننا في فيلم أكشن هوليوودي.

على مهلك يا روندون، الشاب حضر إلى هنا برفقتي أنا.

نظر البارمان إليّ. رمقني بنظرة ودّ ومحبة، كأنني نجوت للتوّ من فم الأسد، ثمّ تلاشى من أمامي. الغرينغويان أطلقا سراحي. جلست في مقعدي من جديد أحاول تهدئة أعصابي، تنفست عميقا وقلت مكرّرا لنفسي: إذهب إلى ذاك المكان السعيد، إذهب إلى ذاك المكان السعيد.

Easy, amigoقال الغرينغو.

Yeahقال الآخر Everything’s cool here.

Cheers, hot stuff!، قال جيري ساينفيلد، بينما سحباه الآخران بعيدا عني.

جلستْ بقربي. بدأت أتوتّر، مع أن أحدًا لن يلاحظ ذلك، مطلقًا. طلبت السمراء من البارمان زجاجة صودا وكأسا من الثلج.

أنقذت حياتك قالت لي، كأنه أمر عادي.

هززت كتفي.

هل ترى ذلك الباتمان خلف قناني النبيذ هناك؟

ألقيت نظرة نحو ذلك الباتمان. أومأت برأسي، غير مبالٍ. أطلقت السمراء قهقهة وسكبت الصودا على الثلج، ومن ثم ربطت شعرها بربطة حمراء.

كان روندون على وشك أن يناديه ليتخلص منك.

هززت كتفي من جديد. وفي الخلفية دوت أغنية Rumbón melónلجووي باسترانا.

روندون لا يحب المشاكل قالت.

من منا يحب المشاكل؟ أجبت.

تجهّم وجهها.

هذه هي المرة الأولى التي تأتي بها إلى هنا، أليس كذلك؟ قالت آتي إلى هنا دائما وهذه المرة الأولى التي أراك فيها.

لم أرغب أن أكون أنا من يدير الحديث. كان يكفيني أنا تنشغل هي بالثرثرة. ما حدث مع باتريسيا حفّزني على أن أتنبّه لما يجري من حولي، والآن أمامي هذه الفاسقة التي تريد أن تزعزع ما تبقّى في أحشائي من سكينة. بغتةً، دون أن أعرف من أين جاؤوا، إنضمّ إلينا بعض أصدقائها. في البداية تبادلوا أطراف حديث فارغ دون الإكتراث بوجودي، وبعد ذلك أرادت أن تقدّمني لهم. لم أرغب في النهوض من مقعدي. عرّفتني على أنني راقص بارع. أحدهم، وقد كان يضع نظارات كتلك التي كان يضعها بادي هولي، قارن بيني وبين نيجينسكي. كان من الواضح أن هذه المقارنة لم تضحكني. قرأت ذات مرة أنّ نيجينسكي أصيب بالجنون وكان يظن أنه يحادث الله. بالكاد نظرت في صوبه ورفعت يدي دون أن أبوح بحرف ثمّ عدت إلى الشرب. فهموا أنّ عليهم الإنصراف.

من أين لك كل هذه الشراسة؟ قالت السمراء.

هناك أيّام وهناك أيّام أخرى… – أجبت.

هزّت يدها وإرتشفت جرعة من الصودا المثلّج.

عندما رقصنا، لم يكن هذا إنطباعي عنك.

قلّبت أفكاري بحذر كي أستدلّ على إجابة.

يرى بعض العلماء أنه شتّان ما بين ساحة الرقص والحياة بشكل عام. بالإضافة، مزاجي اليوم جيّد، فتخيلي فيما لو كان سيئا.

قمعت السمراء إبتسامة في باطنها.

أنت شخص مضحك قالت.

الأغنية التي صدحت في الخلفية بلغت نهايتها وحلّ صمت تامّ لنصف ثانية في أرجاء المكان.

ما هذا الشيء على وجهك؟ سألتني بكل ثقة.

إلتفتُّ نحوها وأفرجت بنفسي عن نصف إبتسامة. أردت بذلك أن أحسم الموضوع، ولكنها ما زالت تنتظر مني ردّا. على ما يبدو، كانت تلك طريقتها الخاصة في الإصرار على تحقيق منالها. لم أستطع الصمود أمام هذا الضغط. كنت ضعيفا.

جُرحت بواسطة حجر شحذ. كان لديّ أربعة عشرة عاما لقد كذبت.

وهي، تنهّدت.

الذي على وجهك يجعلك تلمع قالت وهي تبحث عن عينيّ.

أومأت برأسي موافقا، رغم أنني لم أكن مقنعا بشدّة. إرتشفت ما في الكأس. أوكي. إنتهى الأمر من طرفي. وقفت على قدماي لأشير لها بذلك وأخرجت محفظتي من جيبي.

أنت ذاهب؟ سألت.

إعتذرت بوضع كفيّ على صدري. لقد رأيت أحدهم يفعل ذلك في فيلم إيطالي. كان فيلما بالأبيض والأسود وكل الشخصيات بدت أنيقة للغاية. اليوم، كل الممثلين في الفيلم قد واراهم التراب بالتأكيد. خُيّل لي في هذه اللحظة أنه من الأفضل ألاّ أقول شيئا.

بإمكانك على الأقل أن تشكرني، ألا تعتقد ذلك؟ قالت السمراء.

إرتسمت علامة إستفهام كبيرة على وجهي، كأنني لم أفهم شيئا. فعلا، لم أفهم أيّ شيء. من أين ظهر كل هذا الإهتمام بي فجأة؟

لأنني أنقذتُ حياتك قالت.

أيّ نعم. أنقذتِ حياتي. إنحنيتِ كما ينحني لاعب الكاراتيه قبل القتال.

شكرًا على كل شيء قلت.

حينها وضعت السمراء محرمة في يدي. كانت قد كتبت فيها رقم هاتفها وتحته إسمها، وخطّت نجمة فوق حرف الزاء. كان إسمها رايزا، إسم تحمله العاهرات.

متى تشاء، أيها الملك قالت، وأرسلت قبلة حارقة في الهواء إجتازت المسافة التي تفرّق بيننا بسرعة تصويرية بطيئة.

إنّ تسلسل الأحداث بعد ذلك لم يكن مثيرًا.

تركت المحل متعثرّا بنفسي ومشيت حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي. أوقفت سيارة أجرة. صعدت دون المفاصلة على السعر. كان السائق مهاجرا برتغاليا طاعن في السن، يشبه الشاعر التشيلي نيكانور بارا وعلى رأسه قبعة فريق البيسبول بيتروليروس دي كامبياس“. كان من أولئك الذين يبسطهم التحدث في هذه الساعات من الليل. يدير المقود بيد واحدة. أما اليد الثانية فكان يستعملها من أجل التشديد على ما يقول. إنها حتما تجربة مكتسبة بعد سنوات طويلة من العمل خلف المقود. لكن، والحق يقال، كان ينظر نحو الأمام، إلى الشارع، طول الطريق. يتحدث بهدوء. أعتقد أنه كان يتحدث عن أمور متعلقة بالسياسة. أعطيته الفرصة ليفصح عمّا يشاء. أما عني، فقد إكتفيت بإعلان موافقتي على كل ما يقوله أو إطلاق آهات من حين إلى آخر. إسمه كان فيرخيليو وقد إدّعى بأنه يحترف مهنة الهندسة.

والآن كما ترى بإمكانك الإطلاع على ما وصلتُ إليه قال وهو يشير بذقنه إلى مقود سيارة الأجرة.

عادي. في كل مكان تجد أشخاصا يمارسون مهنة ما بينما يتوقون إلى القيام بمهنة أخرى غيرها. السؤال الكبير هو ما الذي أريد القيام به في حياتي أنا؟ سأفكر في هذا الموضوع لاحقا. كان من المناسب حينها أن أترك الأمور تجري كما هي عليه. إذ أنه في تلك الأثناء كان فيرخيليو يقلني إلى البيت بسلامة بينما يحكي لي عن عائلته ويقصّ لي كيف أتوا به عبر البحر من ميناء فونشال وحتى بويرتو كابييو عام 1961.

لم أرجع إلى هناك منذ ذلك الحين قال فيرخيليو.

أومأت برأسي ونظرت عبر النافذة. كانت الشوارع خالية وقذرة. تخيلت السفينة تعبر المحيط الأطلسي. تراءى لي ما يشعر به المرء حين يغادر مكانا ما وهو يعرف أنه لن يعود أبدا.

الملك. وصفَتْني بالملك.

حسنًا، منذ فترة سمعت أحدهم يقول أنّ أشدّ ساعات الليل حلكة هي تلك التي تسبق طلوع الفجر. لذلك تشبّثت بآرائي دون أن أترك مجالا للتشكيك في مقدرتي على القتال. شعرت أنه لا يمكن لأي هزيمة أن تلمسني. أنا لا أُقهر أبدا، ولكن على طريقتي الخاصة. بطبيعة الحال، كنت أخشى أحيانا مما قد يحدث لي. في نهاية المطاف، قد يصطدم المرء بأشياء تسبح ضده. الزمن، وتهديده الأزلي، على سبيل المثال. أو حتى أنت، نفسك، وهذا قد يكون كافيًا. من الصعب التغلب على نفسك. لكنني بذلت قصارى جهدي في سبيل أن أزيح هذه المشاعر عن ذهني. على كل حال، كانت هذه ليلة رديئة. عندما وصلت إلى البيت، إنبطحت على السرير دون أن أخلع ملابسي وتسليّت بآخر زجاجة نبيذ مستوردة من التشيلي كانت لديّ. على الشاشة كانت كريستينا تجري لقاء مع المغني المكسيكي خوان غابرييل، ولم أكترث للأمر. بقيت هكذا، مستلقيا في هدوء سحيق، أنتظر طلوع فجر اليوم التالي.

كاراكاس، 2010

* شادي روحانا مترجم من فلسطين وصاحب مدونة إذن هات فرشاة ودلواً بلا قاع وقف إلى جانبي وإدهن.

المزيـــد علــى معـــازف