fbpx .
بحث | نقد | رأي

مليون | جدل

رفيق محفوظ ۲۰۱٦/۰۸/۱٦

اقترن اسم جدل لدى متابعيهم بأدائهم لأغنية التوبة لعبد الحليم حافظ في إصدارهم الأول الروك عربي، والذي احتوى على عدة محاولات لتجديد التراث العربي. تميزت موسيقى جدل وقتها بوضوح الجمل الموسيقية التي تمزج بين الآلات الغربية والأنماط الشرقية، كما ظهر مغني الفرقة الأسبق رامي دلشاد بأداءٍ يتماشى تمامًا مع موسيقى الفرقة، فلم تكن هنالك فجوات بين الغناء وتبدُّل الجمل اللحنية، لأن خامة صوت دلشاد سمحت له أن يعطي كل جملة مساحتها دون أن يبذل قصارى جهده. كان دلشاد يكرر النغمات لتتلقاها كل مرة مختلفة عن سابقتها، وكان أداؤه موفقًا دائمًا بفضل مساحته الصوتية. كانت الكلمات أيضًا تحاكي مواضيع مختلفة نسبيًا بمرادفات جديدة على المستمع العربي، حتى في السياق العاطفي.

رحل دلشاد لأسباب غامضة وعادت الفرقة بعد ثلاث سنوات بألبوم الماكينة مع الزعبي بأداء مختلف، وخامة جيدة رغم محدوديتها، خلقت شخصية أكثر تجارية للفرقة. بدأ أيضاً محمود ردايدة، مؤسس الفرقة، بالظهور بدور مؤدي خلفي وأول أحيانًا، وبرزت شخصيته في أعمال تحكي عن الحب بشكل أكثر مبالغةً وأقل إتقانًا. بعد أربعة أعوام على صدور الماكينة، أصدرت جدل ألبوم مليون.

يصل الألبوم الجديد إلى ذروته في أغنية مليون التي تظهر فيها عناصر مفقودة في باق الإصدار: موسيقى خلفية جيدة، إيقاع شيق ومرن، لحن جيد يذكرني بأعمال الفرقة المبكرة، وكلمات متسقة مع الحالة والمعنى. أعتقد أن جدل تقدم أغنية جيدة عندما تبدأ بجيتار الردايدة ثم كيبورد بدر هلالات ليتبعهم بايس يزن راشق وطبول حكم أبو سعود، ثم يظهر الغناء. هكذا كانت الأغاني الجيدة في الألبوم، تعطي مساحة تعريف بشخصية كل آلة قبل سرد القصة. ضربات الطبول مع الجيتار هنا تخلق مجال لموسيقى پانك، لكنها تتراجع سريعًا لتفسح مجالًا للجيتار وآلة النفخ التي مثَّلت الجملة اللحنية الأساسية التي تبعها الجيتار.

يمكن أن أكرر هذا الثناء على أغنية يومين وليلة. وهي الأغنية الأقدم على الإصدار؛ كتبت بعد عام من صدور ألبوم جدل الأول. تبدأ الأغنية باسترجاع مشهد الوداع بعزف على الجيتار قد يذكرنا بمثيله في بداية زاد الشيب من إصدارهم السابق، وبنفس الجملة اللحنية التي بدأت بياع الكستنا في إصدارهم الأول؛ يمكن القول إنها الجملة اللحنية الطاغية على خيال الردايدة لوصف حرقة حزن لحظة الوداع، يعود بعدها الردايدة بمرونة لماضي أبعد أدى للفراق “ضحيت فيها، قدمتها هدية”، فيغضب ويطلق صيحة طويلة وموفقة تمتد لخمسين ثانية بلا انقطاع أو تعديل، تلازمها الطبول والجيتار ويمتد كل شيء حتى اللازمة “قلت نام وقوم تنساها / أو عد عيوبها تكرهها / حتى العيوب بتحليها” فنعود إلى الحاضر ومحاولات التخطي البائسة أمام عيوب المحبوبة. السولو في الربع الأخير من الأغنية عادي، لم يحافظ على كونه امتدادًا لفشل محاولات النسيان، بل جاء متخبطًا، ومجردًا، باهتًا وزائدًا عن حاجة الأغنية، يوفق حين يُبطئ رتمه، ويزداد سوءًا كلما ازدادت السرعة في محاولات استعراض تقنية. بعد السماع المتكرر يتعزز الشعور بأن السولو لا يتجاوز كونه حشواَ لجعل الأغنية تتخطى حاجز السبع دقائق.

من باب الفضول، حدث أني تجاهلت الترتيب الرسمي لأغانِ الإصدار وبدأت بـ أشرار، وهي الرابعة من بين اثنتي عشر. عندما تسمع أشرار لأول مرة قد تقع رهن حماسة مؤقتة. تبدأ الأغنية بلا مقدمات صريحة وكأنها تكملة لأحد الفصول التي تم سردها غيابيًا، طبول متحفزة، يجاوبها الجيتار مماثلًا لنفس الجملة، ثم يلاحقها الردايدة بنبرات محتقنة ليمدد المقدمة الإيقاعية شوطًا آخر. في غياب أي عنصر قوي يشبك بمسمعك، تصبح التحولات الإيقاعية عنصر الحركة الوحيد في الأغنية، بينما يرد الردايدة كل مرة من نفس المنطقة بدون أي تنقلات لحنية. يتناقض طول أشرار مع حالة الركود الكامنة فيها؛ حيث الكلمات قصيرة، والمقاطع كلها تأتي على نفس الجملة الضيقة، جملة لحنية واحدة للآلات والصوت معًا، تنقلب لاحقًا لجملة لحنية مندفعة منها مع لازمة مكونة من مقطعين “يا بتنساني يا بنساك / يا بتخلي الناس تهواك”، حتى أن محاولة تبرير تطويل زمن الأغنية إلى سبع دقائق ونصف بصرخات المؤدي لكسر التكرار في خاتمة اللازمة لم تكن كافية، بل أضرت بالأغنية.

كنز هي نشيد الشاب المحافظ ابن الطبقة الوسطى مدعي التفتح. يلوم الفتاة على كونها بنت المجتمع الذي تربت فيه، ذلك المجتمع الذي يسلعها، يبيعها ويشتريها، ثم يلومها حين تبحث عن الأموال والقصور. مضمون الكلمات ونبرتها الذكورية تذكرني على الفور بالپوپ العربي، مضمون ضعيف ومكرر صدح به كافة المطربين الشباب لإثبات ولائهم لمتطلبات السوق وعادات المجتمع. لكن كنز على مستوى الموسيقى تُعتبر من القطع المتزنة القليلة في الإصدار، فهنالك تساوي في مساحات جمل الجيتار مع مساحات الصوت، مع تنقلات موفقة للطبول، فتُغلِّف الآلات لحناً قوياً ومتماسكاً ينتقل من جملة لأخرى بشكل جيد يُحسب له. تبدأ بجملة ملفتة للجيتار يخرج منها إيقاع الطبول ثم ردايدة، وتتكرر نفس الجملة حتى تنقلب الأغنية من موضع تقرير ما تفعله المحبوبة لنيل قلوب وجيوب الرجال، لموضع المواجهة والتذكرة “هذا الحكي إلك وانتي مش سامعة / هذا الحكي إلك وانتي مش قانعة / هذا الحكي إلك وانتي مش رادعة / انت خسرتي كنز والكنز هذا أنا / ولمّا خفتي مين حماكي؟ أنا / ولمّا ضعتي مين هداكي؟ أنا”، بجانب حُسن توظيف الغناء الثانوي، تنجح الموسيقى بالتماشي مع الردايدة الذي جاء أداؤه جيدًا رغم عدم سلاسة نطقه.

جدل

استكمالًا لفصول باب الذكورة تأتي مش مكتوبة غاضبة، مراهقة من حيث المضمون، لا تقدم أي شيء يجعلك تُكمل الأغنية إلى آخرها. لحن عادي وآلات تلعب فاصلاً موسيقيًا إيقاعياً طوال الأغنية. كذلك جاءت أنا وإنتِ في إيقاع سريع شديد الرتابة، متوقع رغم كثرة تحركاته، أداء أحادي بلا أبعاد صوتية، لا داع لسماعه أكثر من مرة. أكثر ما لفت انتباهي فيها محاولة مشبوهة لتحوير مخارج الألفاظ لمواكبة القافية عندما تتحول سلام إلى سالم في “أنا وإنتِ ممكن نغزو العالم / أنا وإنتِ ممكن نعمل سلام.”

تتجلى كافة العناصر التي سبق ذكرها منفردةً في باقي أغانِ الإصدار بدون استثناء، أغنية صوتكم أعلى من السماعات مثلاً، تبدأ بكلماتٍ لن يتبدل فيها غير سطر واحد، على لحنٍ باهت بلا معالم وإيقاع واحد. فيما قد يكون محاولة باهتة لإنقاذ الأغنية، تغيرت اللازمة وأصبحت “صوتكم أعلى من السماعات”، وما لبث أن قطعت لتصبح “صوتنا أعلى من السماعات.” في إذا إحنا رحنا اعتُمد التكرار ذاته مع كلمات أضعف: “المشكلة إذا إحنا رحنا / رح تفرق معكو يا ترى؟ / وإن فرقت معكو يا ترى / رح تفرق معنا هل ترى؟” هناك في الأغنيتين محاولات غريبة لخلق أهمية جماهيرية للفرقة تفترض وجود محاولات لمنعهم من الغناء، تبدو أكثر كأوهام عظمة منها مشكلة حقيقية للفرقة.

واحدة بتشبهك، التي ظهرت أول مرة في حلقة الفرقة على برنامج كوك ستوديو، هي أغنية تجارية حقة بكل ما تحمله من تكرار لتصورات الپوپ عن الحب واختزال الأداء الصوتي في جمل بسيطة لا لحن فيها ولا تنقلات، فالأغنية من البداية إلى النهاية تلازم ما يشبه اللحن بكلمات سمعناها كثيراً من قبل. أغنية بنحكي فيه بالحلم تؤكد بداهة التنقلات اللحنية التي لم تتحسن نسبيًا إلا عند تصاعد البنية نحو ما قبل النهاية. المربك كان محاولة عنيدة لتطويع جملة غير مناسبة وطويلة على اللحن في “وياما صار بيناتنا مشاكل ما لقينا حلولها / في بيناتنا ثلاث تالاف ميل كيف بدي أطولها.”

يُظهر الإصدار حجم الفراغ الذي يولده غياب صوت قوي ومصدر إلهام متجدد للفرقة، فبعد إصدارين، غابت الكلمات الجيدة وضلت الموسيقى، وظهرت سولوات عشوائية تطيل الأغاني دون أن تضيف لها فنياً، كما زاد افتعال الأداء ورتابته في نفس الوقت، واعتمدت الأغاني على جمل لحنية قصيرة جدًا تُمثل اللازمة، وتكررت الكلمات والأفكار في أكثر من أغنية، وأحيانًا نُقلت كما هي، ففي أشرار: “حرب بالشرق / وحرب بالغرب / ودم اللي بالنص هو اللي بنكب / انت الجاني / وانت القاضي / وانت المجني عليه كمان”، وفي مش هدول ناسك: “انت الجاني وانت القاضي / وانت المجني عليه ومش سائل / الشرق له رسالة / والغرب له رسالة / ودم اللي بالنص هو السايل.”

منذ رحيل دلشاد، لم تبذل جدل مجهودًا للاستمرار على الخط السابق والتمدد منه، بل انتقلت لنهج مختلف لحنيًا وأقل تطلبًا، خال من محاولات واعية أو جادة لخلق أغاني جيدة. الكلمات سطحية وأقل ذاتية، أكثر عمومًا، وكأنها تتبع معادلة ما لزيادة جماهيرية الفرقة. هنالك فرق بين الأغاني التي تبدو عشوائية لكنها مكتوبة بعناية، والأغاني السطحية العشوائية التي تدعي عمقًا غير موجود، وتفصح عن استخفاف بجمهور الروك العربي.

المزيـــد علــى معـــازف