لماذا لم تغير منصات البث واقع الموسيقى في العالم العربي، بعد

كتابةمعازف - July 14, 2020

ظهر المقال الأصلي لكاتبه بيير فرانس في مجلة Orient XXI، وهو أول جزء من ثلاث مقالات عن صناعة الموسيقى في العالم العربي. ترجم المقال عمّار منلا حسن ودققه عبد الهادي بازرباشي، بالتنسيق مع الكاتب والمجلة.


عادت الوجوه المبتسمة إلى صناعة الموسيقى التي تعيش ازدهارًا جديدًا في العالم العربي: إحدى أكبر شركات التسجيل في العالم، وارنر، أعادت فتح مكتبها في المنطقة في ٢٠١٨، تبعتها بفترة قصيرة منصات البث سبوتيفاي وديزر. للمرة الأولى، واجهت أنغامي، التي كانت منصة البث الوحيدة في المنطقة منذ تأسيسها في ٢٠١٢، المنافسة. ما سبب هذه العودة، ولم الآن؟ يعود ذلك بشكل رئيسي إلى تطورين حديثين: أولًا، الانتشار الواسع للهواتف الذكية. انتشرت الهواتف، التي تعد التكنولوجيا الرئيسية لمنصات البث، بوتيرةٍ مذهلة خلال الأعوام الماضية في العالم العربي. في مصر، قفز عدد ممتلكي الهواتف الذكية بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٩ من ٥٧٪ إلى ٨٠٪ من السكّان، مقتربين من نسبة دول الخليج [٩٥٪].

تعثر هذه الشركات على حافز محمّس آخر يتمثل في هيمنة الشباب [ديموجرافيًا]. يبلغ العمر المتوسط في المنطقة ٢٣ سنة، تحديدًا العمر الذي يستمر الناس بسماع الموسيقى بكثافة حتى بلوغه. أو بصياغة أخرى، عثرت الشركات على التوافق المثالي بين الوسط [التكنولوجي] المفضّل والجمهور المستهدف. بالنسبة لـ كريس آنكليف، مدير مكتب تسجيلات وارنر في المنطقة حتى وقتٍ قريب، “لو جمعت كل هذه العوامل سويةً، سيبدو فعلًا أن هذا هو الوقت الملائم كي نعمل على مشاريع مماثلة بأنفسنا في منطقتنا.”

الآمال الخائبة لصناعة الموسيقى

ألقت هذه الحزمة من الآفاق المحمسة بظلها على حقيقة إحصائية أخرى، الحقيقة الإحصائية الوحيدة التي كانت مهمة لسنوات، القرصنة. رغم غياب إحصائيات من الممكن الاعتماد عليها، إلا أن [خسائر] هذه الظاهرة لا تزال تقدر بمئات ملايين الدولارات في العالم العربي لوحده. رغم ذلك، فإن هذا الواقع لا يقارن بما كانت عليه الأمور قبل ١٥ عامًا، حيث كانت ٧٥٪ من مبيعات الموسيقى في لبنان وتقريبًا ١٠٠٪ منها في المغرب تعتبر متأثرةً بالقرصنة. على كلٍ، لا يتعلق الأمر اليوم بتقدير خسائر صناعة الموسيقى في المنطقة، بقدر ما يتعلق بنظرة هذه الصناعة إلى المستقبل القريب، حيث ستحقق عائدات الموسيقى أرقامًا قياسية جديدة. “في ٢٠١٩ كنّا نتوقع بلوغ ٢١ بليون دولار، وكنا نتوقع بلوغ ٢٧ بليون دولار في ٢٠٢٢” يقول غسّان شرتوني، مدير شركة وتري، إحدى شركات تسجيل البوب العربي القليلة النشطة في السوق منذ سنوات. “الآن بدأت الإمكانيات الحقيقية بالظهور. خلال ٢٠٢٠ – ٢٠٢٢، سنختبر تغيرًا عظيمًا. أصبح الحلم أقرب.”

لا تزال الجائحة التي ضربت العالم هذا العام بعيدةً عن شطب كافة هذه الآمال، خاصةً أن خدمات البث لا تزال تشكل قطاعًا حيويًا من صناعة الموسيقى، على خلاف الموسيقى الحيّة. رغم ذلك، فإن “الجميع حذر، الجميع يترقب وينتظر. من المبكر للغاية أن نتأقلم أو نعيد اختراع ذواتنا” كما أكّد لي إدي مارون، المؤسس المشارك لأنغامي.

غلاف إحدى قوائم سبوتيفاي العربية

غلاف إحدى قوائم سبوتيفاي العربية

لكن، لِمَ لَم يشهد هذا القطاع التفجّر الكبير الموعود قبل تفشي الوباء؟ لم يطابق الواقع التوقعات: لم ينتشر نجم عربي أو أغانٍ ضاربة عربية حول العالم، وعانت صناعة الموسيقى من الصعوبات خلال تأقلمها مع هذا السوق الجديد. خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، واجهت كافة هذه الشركات الحقيقة المباغتة بأن للمنطقة العربية أنماطًا اقتصادية واجتماعية خاصةً بها، تمتد إلى جماهيرها المحليّة المتفرّقة.

انطلاقة متفاوتة

في خريف ٢٠١٨، كانت منصتا سبوتيفاي وديزر قد أعلنتا للتو إطلاق خدماتهما في المنطقة، لتخلقا توقعاتٍ حول نقطة تغير كبرى. في حالة ديزر، تصاحب إطلاق المنصة مع عقد هائل مع شركة التسجيل الأكبر في المنطقة، روتانا. بالنسبة للعديد، كان من المتوقع أن تؤدي هذه الحركة إلى تدمير المنافسة، خاصةً أنغامي. رغمًا عن ذلك، لم تتحقق هذه التنبؤات.

في المقام الأوّل، لم تحضّر هذه الشركات العالمية لعملياتها في المنطقة على نحوٍ ملائم، بل دخلت السوق باستعجال، مع استراتيجيات عمل ضيقة الأفق، وتحت ضغط المستثمرين: رغم كون سبوتيفاي المنصّة الأولى في سوق البث، إلا أن بداية تحقيقها للأرباح حدثت ببطئ بالغ؛ في حالة ديزر، توصلت المنصّة إلى اتفاقية مع روتانا تقتضي الاستحواذ على أرشيف الشركة، مقابل استثمار بقيمة ١٨٥ مليون دولار … من صندوق استثمار أميرٍ سعودي يمتلك روتانا. في حركة تبدو قريبةً من الاحتكار الإبداعي.

لم تكن هذه الحركات تمهد للانتقال إلى العالم العربي تحديدًا، أو إلى تحضير هذه النقلة ببراعة. عوضًا عن ذلك، كان التركيز على غزو كافة الأسواق الناشئة بأسرع ما يمكن، في سباقٍ نحو تحويل تركيز هذه الشركات بعيدًا عن أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث أصبح لخدمات البث ثقافة ذات أساس قوي بالفعل. رغمًا عن ذلك، وبينما يبدو سوق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمًا على الورق، إلا أن هذه الشركات تعاملت معه على أنه شيء ثانوي. في ٢٠١٨، أطلقت سبوتيفاي خدماتها في أسواق أخرى أكثر تحقيقًا للأرباح: أفريقيا والهند، بما يحتويانه من ٤٠٠ مليون مستخدم للهواتف الذكية. إذًا، فإن هذا التوجه العالمي لشركات البث، رغم أنه يتضمن العالم العربي، إلا أن أنه لا يتعامل معه باعتباره نواة جمهوره المستهدف.

إضافةً إلى ذلك، وعلى مستوًى عملي، فإن تحدي التوجه إلى المنطقة وقع على عاتق فرق عمل صغيرة، مسؤولة في ذات الوقت عن العالم العربي وقارة أفريقيا بأكملها. لا يمتلك يوتيوب، بصفته طرفًا رائدًا وضخمًا في مجال الموسيقى في العالم العربي وعالميًا، سوى فريقٍ صغير في دبي للتصدي لهذه المهمّة. آيتونز لديها موظّف واحد فقط. كان تشكيل الفرق في ديزر وسبوتيفاي ووارنر متخبطًا،  بما في ذلك أخطاء صارخة في التعيينات.

بالطبع، من الصعب اختيار فريق في منطقة معروفة لافتقارها للمختصين والبنية التحتية [في صناعة الموسيقى] لسنوات. أخبرني مدير يعمل في هذا السوق بطرفة يسخر بها من هذه التعيينات الغرائبية: “في إحدى هذه الشركات وبعد أن وظفوا أحدهم، اكتشفوا أن هذا الشخص لا يتحدث العربية. هل بإمكانك تخيل المشاكل التي ستواجهك يوميًا عندما يُتوقع منك أن تدير محتوًى [بالعربية]؟”

سوء فهم ثقافي ووساطات محلية

باتت هذه الانطلاقات المتزعزعة مكشوفة. “لم يكن دخول ديزر وسبوتيفاي موفقًا (…) كانت لديهم نظرة عمومية للغاية عن المنطقة،” أفاد مديرٌ ما مؤخرًا في معرضٍ مهني. تعثرت كلا المنصتين بإسقاطاتهما الساذجة. خلال حفل إطلاق ديزر في بيروت، خريف ٢٠١٨، كشف أحد المدراء التنفيذيون عن آماله بأن يساعد أرشيف روتانا ديزر على الوصول إلى المجتمع العربي في فرنسا. لكن هذا الأرشيف، المكوّن بالإجمال من موسيقيين شرق أوسطيين، من النادر ما يشد اهتمام المغاربة أو الجاليات العربية الشمال أفريقية التي تعيش في فرنسا. بالتالي، كانت ديزر تكتشف اختلافاتٍ ثقافية هامة بين المناطق العربية – المغرب والشرق الأوسط والخليج – وسط انهماكها في العمل.

لو وضعنا الاختلافات المناطقية جانبًا، فقد اكتشفت هذه الشركات أيضًا أن العالم العربي مكوّن من حوالي عشرين دولة، تحكمها علاقات مختلفة. يعمل حبيب عاشور في جمعية SACEM، المختصة بإدارة حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين والكتّاب في فرنسا. يحمل عاشور مهمة تطوير مجتمعات المؤلفين في العالم العربي، وزيادة الوعي فيما يتعلق بمسائل حقوق النشر. يقول عاشور: “عبر المقارنة، تبدو برازيل كمثالٍ مفيد، دولة من ٣٠٠ مليون ساكن، دولة واحدة تضم سبعة جمعيات مؤلفين وشبكة قوية من المحترفين. في العالم العربي، لديك ٤٥٠ مليون ساكن، ١٩ دولة بتشريعات مختلفة، وفقط خمسة جمعيّات مماثلة.”

هذه الصورة المعقدة دفعت المنصتين [سبوتيفاي وديزر] إلى تبني موقف أكثر تواضعًا إزاء “فهم الأسواق المحلية”. يشرح طارق منير، المسؤول عن سوق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ديزر، الموضوعَ كالتالي: “عند النظر إلى دول مختلفة بإمكاننا رؤية أن العديد من الدول لديها عادات استماع مميزة، تؤثر عليها ترندات فائقة المحليّة (…) لهذا لدينا مدخل مميز وفائق المحلية لقوائمنا واختياراتنا للموسيقى، والتي نتوصل إليها عبر فريقنا من محرري القوائم المحليين المحترفين. لدينا محرر في الإمارات مختص بالخليج، محرر آخر في المغرب، محرر ثالث في مصر وهكذا.”

على الخلاف، تستفيد منصة بث واحدة من معرفتها [بالسوق المحلية]: أنغامي، المنصة الأولى في المنطقة. “قبل أنغامي، لم يكن هناك منصات متاحة في المنطقة، وحتى الآن، نحن من نعتبر منصة البث. المنصة التي يأتي إليها الناس تلقائيًا، المنصة التي لم يتخلوا عنها لصالح ديزر أو سبوتيفاي. ننحو منحًى محليًا في خبرتنا، محتوانا وشراكاتنا. لدينا موطئ قدم في كل مدينة في المنطقة.”

تدعي الشركة امتلاكها أكثر من مليون مشترك في نظام اشتراكهم المدفوع، ومعرفة طويلة الأمد، تكاد تكون أنثروبولوجية، بالمنطقة، تمكنهم من تقديم خدمات متخصصة مثل “فيلتر خاص برمضان”: “خلال رمضان كان هناك فيلتر جديد، إلى جانب فلاتر العالمي والعربي المعتادة، كان بإمكانك التمتع بتجربة تركز على رمضان.”

سوق فتي

لا تنوي أنغامي الوقوف في مكانها، خاصةً مع بدء سبوتيفاي وديزر بإجراء تعديلات [على نمط عملهم]. يقول إدي مارون في هذا الصدد: “لا أعتقد أن السوق بلغت مرحلة التشبع. من الواضح أن لدينا ميزة تنافسية بسبب انطلاقنا السبّاق. في لبنان مثلًا، لا نغطي أكثر من ١١٪ من السوق. هناك مجال عملاق للتحسن.”

حتى الآن، لا يزال عدد الأعضاء الدافعين منخفضًا، وغالبًا ما يكون مغلفًا بالغموض. لم تنشر أنغامي إحصائيات عن مشتركيها منذ سنوات، ديزر “تعد شركة خاصة ولا تكشف أرقام مشتركيها”، بينما تعرف سبوتيفاي لقبضتها المحكمة على أية معلومات حول المنصة. لهذا التكتم أسبابه، “من السهل أن تحتفل بسرعة بمليون مشترك عندما تقدم عروضًا مجانية لاستكشاف [منصتك] لبضعة أشهر، لكن ما الذي يأتي بعد ذلك؟ [في حالة المنصّات المنطلقة حديثًا في المنطقة] لم يتبقَّ أكثر من ١٥ ألف مشترك دافع في نهاية فترة العروض”، كما شرح لي مصدرٌ يفضل البقاء مجهولًا.

إلى جانب قضية الأرقام، فإنه من الصعب العثور على المشتركين في أي مكان في العالم العربي بالعموم. أصدرت جامعة نورثوسترن في قطر دراسة استخدام الميديا في الشرط الأوسط ٢٠١٩، التي تقدم معلوماتٍ قيمة حول القاعدة الاجتماعية والجغرافية الضيقة التي تشكل مشتركي أنغامي وسبوتيفاي: هؤلاء المشتركون هم غالبًا مستخدمون ذوي تعليم عالي ومتمركزون في بضعة دول (لبنان ودول الخليج، تليها تونس).

“دول مجلس التعاون الخليجي والشام أكثر جدارةً بالتركيز من حيث تحويل المشتركين إلى مشتركين دافعين [قدرة المستخدمين على الدفع مقابل الخدمات]، كذلك مصر جديرة بالتركيز من حيث تعداد سكانها” يقول إدي مارون. لكن هذا الجمهور لديه أذواق محددة. بين بضعة أمثلة، بعد مرور عام على وجودها في الإمارات، لم يظهر أي فنان عربي في لوائح ديزر السنوية للخمسة [فناني، أغاني، ألبومات] الأكثر استماعًا. رغم ذلك، فإن المنطقة تمتاز بذائقتها المقبلة بوضوح على الموسيقى المحلية.

بالتالي، ترسم منصات البث صورة محرّفة للعادات الثقافية المشتركة في العالم العربي. أولًا، تظهر البيانات أي نوع من الأغاني الضاربة عالميًا يستهلكها المستمع العربي. يخبرنا طارق منير: “إحدى الترندات المفاجئة التي لاحظناها هذا العام هو الطلب الضخم على البوب الكوري في السعودية. يتمتع فنانون جنوب كوريون مثل فرقة بي تي إس بقاعدة جماهير مهولة، وقائمتنا للـ كاي بوب هي واحدة من أكثر قوائمنا شعبيةً في المملكة.” تزودنا البيانات أيضًا بمعرفة بالموسيقات العربية التي تسمعها الجاليات العربية في أوروبا وأمريكا الشمالية. “هناك ١٣٠ مليون مستهلك محتمل في العالم العربي” يقول غسان شرتوني. “لكن عليك أن تضيف ٥٥ مليون من الجاليات العربية. حتى الآن، حققنا أرباحًا أكبر من مستمعي الأغاني العربية في دول أوروبية والولايات المتحدة، لأن الإعلانات تحقق عوائدًا أكبر هناك. في هذه الحالة، ٢٠٪ من حجم البث يولّد ٨٠٪ من الأرباح.”

ستكون الخطوة التالية الانتقال إلى ما وراء الطبقات الوسطى والعليا في الدول الغنية، والاعتماد بشكل أكبر على الموسيقات والجماهير المحلية. خاصةً وأن العالم العربي يتشارك مع العالم تفضيله للموسيقات المحلية، بل ويمتاز بتفضيله العالي لهذه الموسيقات (ما بين ٧٠٪ وأكثر من ٨٠٪ من استهلاك الموسيقى، وفقًا لمصادر مختلفة). توجد مشاكل تقنية ومالية فيما يتعلق بتقديم منتجات ملائمة بأسعار معقولة. لمواجهة ذلك هناك تطبيقات تستهلك كمية إنترنت أقل (أطلق سبوتيفاي نسخة لايت من تطبيقه)؛ أسعار ملائمة لكل بلد (من المقدر تحديد سعر الاشتراك عند ٤ – ٥$ شهريًا في المنطقة)؛ اشتراكات من خلال شبكات الهواتف الجوالة (تِلكو)؛ طرق دفع بديلة للبطاقات البنكية (التي لا تزال نادرة في المنطقة)؛ إمكانية الدفع بالعملة المحليّة بدلًا من الدولار، إلخ. جميع الشركات منهمكة باختبار ما يمكنها القيام به.

تتفاخر أنغامي بسنوات من الخبرة في التعامل مع هذه الإشكاليات. “هذه إحدى الأمور التي نقوم بها باعتبارنا منصّة محليّة، لدينا ٣٥ شراكة تلكو في المنطقة، تقدم خيارات اشتراك شهرية وأسبوعية ويومية. هذه أفضل طريقة لجذب المشتركين.” لكن هذه الشراكات لا تخلو من مشاكلها الخاصة. كما أخبرني أخصائي آخر يفضل أن يبقى مجهولًا: “شراكات التلكو هذه تستهلك هامشًا كبيرًا من الربح، كما تعني هذه الشراكات وجود وسيطين، منصة البث وشبكة الهاتف، كلاهما يأخذان حصصهما من أرباح الموسيقى. يتسبب ذلك بخصم المزيد والمزيد من المبلغ المتبقي للفنان.” انطلاقًا من هذه النظرة، حان وقت التفكير بنماذج جديدة.

نحو عالمٍ جديد من الموسيقى العربية؟

وراء كل هذه التحديات التجارية – جذب هذا الجمهور أو ذلك السوق – يكمن تحدٍّ أكبر، تحدٍّ قائم على مجابهة مشهد [صناعة الموسيقى في العالم العربي] واللاعبين الكبار فيه. الحل أكثر تعقيدًا من مجرد زيادة أرقام السماعات وجمع الأرباح. على العكس، يكمن التحدي في التوصل إلى فهم أعمق للسوق، وفي الاستثمار. ربما هذه إحدى الاختلافات الحاسمة عن سائر مناطق العالم، حيث الظروف مهيأة مسبقًا.

يتحدث غسان شرتوني عن هذه النقطة مباشرةً: “السوق هنا، لكن ليس هناك من لاعبين، ولا شركات تسجيل. هناك ثلاث شركات تسجيل للمنطقة بأكملها، يجب أن يكون هناك ثلاثة آلاف شركة. المسألة اليوم هي أنه علينا أن نستثمر في الإنتاج، أن تكون لدينا خطط خمسية للفنانين، بدلًا من الاكتفاء بأغنية ضاربة واحدة. جذبت الحلقة الأخيرة من برنامج ذ فويس ١٢٠ مليون مشاهدٍ في المنطقة، عدد هائل. لكن ما الخطوة التالية؟ أين الأموال المخصصة لدعم مسيرة الفنانين؟ سرعان ما يختفون عن الأنظار.”

يتبنى إدي مارون النظرة ذاتها. “هناك فجوة. ليس هناك ما يشبه النظام البيئي لصناعة الموسيقى في المنطقة. مجرد أجزاء وقطع. لكن لا وجود لصناعة موسيقى بكل ما تحويه الكلمة من معنى.” عندما تقابل منصّات البث فنانين لا يحظون سوى بدعمٍ قليل أو لا دعم على الإطلاق، تشعر هذه المنصّات بإغراء التدخل وملء الفجوة، حتى لو عنى ذلك القيام بكل الأمور في ذات الوقت. المنتجون، شركات التسجيل، وكالات حجز الحفلات، كل هؤلاء المحترفون في صناعة الموسيقى، بأعدادهم النادرة في العالم العربي، يعدون شركاء محتملين لكن في ذات الوقت منافسين محتملين لمنصات البث. كما تقدم خدمات البث نفسها كوسيلة للفنانين كي يخلصوا أنفسهم من كل تلك الأطراف الوسيطة.

بالطبع، لا تقتصر خدمات البث على تقديم منصّة لسماع الموسيقى للجمهور، بل تعد أيضًا طريقة للفنانين لكي ينشروا موسيقاهم على الإنترنت بسرعة. طريقة بديلة لإدارة مسيرتهم. من هذا المنطق، تقدم خدمات مثل ديزر باكستايج، سبوتيفاي للفنانين، وسواهم، تقدم هذه الخدمات نفسها كفرصة للفنانين كي يديروا مسيرتهم بالاعتماد على البيانات وردود الفعل التي يتلقونها من المستمعين. “بإمكان الفنانين الحصول على إحصائيات محدثة فوريًا”، وضّح مدير سبوتيفاي في الشرق الأوسط، كوديوس بولر، في مقابلة مؤخرًا مع كايرو سين، “لو وجدوا على سبيل المثال أن لديهم الكثير من المستمعين في الأقصر، سيقررون أن يذهبوا ويلعبوا حفلةً هناك. لو كان لديهم جمهور في الولايات المتحدة، ربما بإمكانهم التواصل مع وكيل حجز في أمريكا لحجز حفلة أو اثنتين هناك.”

توحي هذه الإمكانيات بأنها تقدم استقلالية وهمية وتعد الجميع بالإمكانية المستبعدة لأن يصبحوا ذلك الاستثناء الإحصائي. فوق كل شيء، فإن هذه “الفرصة” كانت متاحة منذ وقتٍ طويل في العالم العربي، حيث لطالما كانت المشكلة الرئيسية للفنانين اضطرارهم للقيام بكل الأدوار. لسنوات، عمل الفنانون كمؤدين، لكن أيضًا كمختصي حجز حفلات، ومدراء أعمال ومنتجين، وعلاوةً على ذلك كان عليهم الدوام في أعمال أخرى إلى جانب مسيرتهم الموسيقية غير القادرة على تأمين احتياجات حياتهم. تسببت هذه المشكلة بنتائج متفاقمة، حيث تأخرت أو هُجرِت مشاريع فنية لا عدد لها؛ هناك ألبومات لم يكتمل إنتاجها، أو صدرت في وقتٍ متأخرٍ للغاية؛ وأغانٍ ضاربة بقيت يتيمة بلا أعمال ناجحة تلحقها. دون أن نذكر المسيرات الصعبة والمحبطة لفنانين حاولوا لعشرين سنة أن يمثلوا “مشهدًا جديدًا واعدًا” دون أن ينجح هذا المشهد بالصعود.

بمعنًى آخر، فإن هذا الجزء من نموذج منصات البث قد عفى عليه الزمن، لأن دور الفنان / رجل الأعمال قد صاحب الفنانين العرب بالفعل لثلاثين عامًا. فترة كافية لاستيعاب محدوديات هذا النموذج وإدراك أنه لا يترك خيارًا [لتطور مشاهد]: إما أن تصبح سوبرستار أو أن تعلق في دور الفنان المكافح. ضمن هذا السياق، عندما نشرت إعلان عمرو دياب في ساحة تايم سكوير في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، والذي يتجلى فيه هذا النموذج من الفنان السوبرستار و”المغني العربي الأكثر مبيعًا في التاريخ”، يبدو أن منصة سبوتيفاي لم تفهم بالفعل ما يمثله عمرو دياب اليوم. فنان كبير بلا وريث، يدير مسيرته بذاته دون أن يظهر أي تطور لعدة سنوات. هو دليل عملي على أن الثورة الرقمية بدأت تفقد طاقتها الدافعة بالفعل، وكذلك الحال بالنسبة للموسيقى التي تشكل جزءًا منها. ما يقودنا في نهاية المطاف إلى السؤال الأكثر أهميةً والذي لا يزال بلا جواب، سؤال يتجاوز هيكل صناعة الموسيقى ولاعبيها الرئيسيين: ما هي الموسيقى المتاحة والتي ستصبح متاحةً في المستقبل في المنطقة؟