.
تأملات موسيقية في الدراما التلفزيونية المصرية: شارات البداية والنهاية، موسيقى تصويرية وأغانٍ
شكّلت شارات البداية والنهاية للعديد من المسلسلات المصريّة جزءًا من الوجدان الموسيقي للمتلقّي العربي. النموذج الأمثل هو شارة مسلسل “ليالي الحلمية” لملحنه ميشيل المصري، والذي عرض جزؤه الأول عام 1987. قد تكون شارة المسلسل الأكثر رسوخاً ونجاحاً حتى يومنا هذا؛ فقد شكّل المسلسل بحد ذاته حالة استثنائية لمسلسل مصري ذي خمسة أجزاء، الأمر الذي لم يكن وارداً إلا في المسلسلات الأميركيّة في تلك الحقبة.
يرجع السبب إلى الغنى الفكري والسردي لمؤلفه أسامة أنور عكاشة، الذي أغنى الدراما التلفزيونية المصريّة، وقام في هذا العمل برصد التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة للمجتمع المصري منذ أربعينيّات القرن الماضي إلى أوقاتنا هذه. مشكّلاً أحد أهم العمدان في تأسيس التصوّر الدرامي التلفزيوني العربي لحوالي عقدين من الزمن. على نسق هذه الشارة، ألّفت العديد من الشارات: “المال والبنون” (1993)، “أرابيسك” (1995)، “من الذي لا يحب فاطمة” (1993) وغيرها.
في نظرة مترويّة قليلاً، تمكن ملاحظة نشوء صنف موسيقيّ– Genre يعتمد على روح مشتركة، وتقوم بالأساس على أهم شعراء العاميّة المصريين، وعلى رأسهم سيّد حجاب وأحمد فؤاد نجم. لذلك، خرجت هذه الأغاني مثقلة بالشجن، عاكسة الحالة المصريّة متمّثلة بمؤلفيها من الجيل الذي نشأ على أحلام ثورة يوليو والمشروع الناصري العروبي، والذي تهشّم على صخرة النكسة. وكأن هؤلاء الصنّاع لا زالوا عالقين في صدمة النكسة ولم يتخطوها، رغم العبور في أكتوبر. فمصر الثمانينيّات هي مصر “كامب ديفيد” واغتيال السادات، لذا كان للمؤلفين حنين جارف لمصر التي عرفوها في ظل غياب لتصوّر مستقبلي محسوس ومشروع وطني ماثل للعيان في عهد مبارك.
في هذا السياق، تبدو الأعمال المرحليّة الهامة، مثل “ليالي الحلميّة“، وكأنّها محاسبة ذاتيّة وطنيّة تبدأ من مصر الملكيّة إلى مصر التسعينيّات– التي اتسعت فيها الهوّة الاجتماعيّة، واستمر فيها تآكل الطبقة الوسطى فيها. لم يخفَ هذا الهاجس في الأعمال الدراميّة الهامّة في الثمانينيّات والتسعينيّات لدى المؤلفين في البحث عن نماذج شهمة: سواءً من خلال ما نعرفه بـ“الجدعنة المصريّة“- والشخصيّة الأكثر حضوراً هي “زينهم السماحي” في “ليالي الحلمية“. أو تناول الأبطال الوطنيين أمثال: جمعة الشوان، الذي مثّل شخصيته عادل إمام، في “دموع في عيون وقحة“، أو رأفت الهجّان، لمحمود عبد العزيز، الذي سرد رواية الانتصار مجدداً رغم واقع التطبيع ومعاهدة السلام.
وفي خط موازٍ وهام، تناولت الأعمال الدراميّة الاجتماعيّة المعاصرة مشاكل وأزمات المجتمع المصري الراهنة، كقلّة فرص العمل، وبحث الشباب المصري عن العمل في الخارج، مثل: “من الذي لا يحب فاطمة” لأنيس منصور، وتناول بعضها ظاهرة صعود التيّارات الدينيّة المتشدّدة، مثل: “العائلة” لوحيد حامد.
تعاطت شارات المسلسلات التي ذكرناها معانٍ اجتماعيّة– إنسانيّة، وابتعدت عن الرسائل السياسيّة المباشرة، إلا رسائل عشق الوطن التي غذّتها قصائد أحمد فؤاد نجم بعشقه للاسكندريّة في شارتي مسلسلي “زيزينيا“، غناء محمّد الحلو، و“ريّا وسكينة“، غناء خالد عجاج، والتي استطاع عمّار الشريعي أن يصيغها لحنيّاً بدفء وشعبيّة راقية يوازيان ثقل قصائد نجم.
خلقت الشارات نجوماً، ذكوراً في الغالب، تميّزوا بأدائها. إلا أن بعضهم بقي محبوساً فيها، ولم يستطع تقديم ما يرقى إلى مستوى نجاحها. ومنهم:
محمد الحلو: “زيزنيا” و“ليالي الحلمية“. وعلي الحجار: “المال والبنون“، مسألة مبدأ“، “الليل وآخره“، “بوابة الحلواني“. ومحمّد ثروت: “من الذي لا يحب فاطمة“. ومدحت صالح: “الحقيقة والسراب“.
في الجانب الآخر، كان للأصوات النسائيّة نصيب أقل في غناء الشارات، على الرغم من امتلاء الساحة الغنائيّة المصريّة بالعديد من المطربات العربيّات “المتمصرّات” والناجحات تجاريّاً وشعبيّاً. إلا أن الأصوات المصريّة كانت كما رآها صنّاع الأعمال الدراميّة: الأنسب على توصيل الرسالة الاجتماعيّة للمصريين في هذه الشارات.
ومن أهم الشارات التي قامت بغنائها مطربات:
أنغام: “العائلة“. وحنان ماضي: “المال والبنون“، وتتر النهاية بمشاركة علي الحجار. وهدى عمّار: “هوانم غاردن سيتي“.
شارة “ليالي الحلميّة“
شارة “زيزنيا“
شارة “ريّا وسكينة“
من أهم الأسماء في صناعة الشارات عمّار الشريعي. معتمداً على تلحين شارات البداية والنهاية من القصائد العاميّة، ومساهماً في صناعة عدد من أهم الأعمال الدرامية المصريّة. تاركاً فيها بصمة تميّزه عن دونه، وخالقاً “ذاكرة صناعيّة“(1) للمشاهد. هذه الذاكرة التي تتجلّى في مسلسلات مثل: “رأفت الهجّان“، فمن لا يشعر بأنه في مهمة جاسوسيّة عندما يسمع النغمات الأولى من الموسيقى التصويريّة للمسلسل؟ ومن لا يتخيّل الاسكندريّة الكوزموبولوتيّة عندما يستمع إلى أكورديون الشريعي في “زيزنيا“؟ ويتخيّل فترة بأكملها على وقع موسيقاه التي خلق منها صِيَغًا مختلفة في المسلسلات تلائم الأحداث والمتغيّرات الدراميّة. إضافة إلى الموسيقى التصويريّة للمسلسلات: “أرابيسك“، “دموع في عيون وقحة“، “نصف ربيع الآخر“، “الراية البيضا“، “ريّا وسكينة“، “أم كلثوم“، “بنات أفكاري“، “الشهد والدموع“، “حديث الصباح والمساء” وغيرها.
كما وترك الموسيقي عمر خيرت في التلفزيون بصمته الخاصة غير القابلة للتقليد. متميّزاً بالمزج بين شرقيّة اللحن وأوركستراليّة التوزيع الموسيقي، مبقياً على البيانو كآلة موسيقيّة مهيمنة. وأهم ما ألف تليفزيونيّاً بالتأكيد موسيقى مسلسل “ضمير أبلة حكمت” (1989)، والتي غدت من أهم مقطوعاته الموسيقيّة على الإطلاق. إضافة إلى موسيقى مسلسلات: “مسألة مبدأ“، “وجه القمر“، “الثعلب“، “الجماعة“، “فرقة ناجي عطا الله“، وغيرها.
شكّلت مؤلّفات ياسر عبد الرحمن علامة فارقة أيضاً. ابتداءً من موسيقى مسلسل “المال والبنون“، ليرسّخ إنتاج الجيل الثاني بعد الشريعي وعمر خيرت. أما ميزة عبد الرحمن الفنيّة، فتتمثّل في الاعتماد على الآلات الوتريّة: الكمان والربابة الصعيديّة، في: “الضوء الشارد” و“الليل وآخره“. بذلك، أخذ عبد الرحمن الكمان إلى أقصى بقاعه الشرقيّة. ومن أهم أعماله: الموسيقى التصويريّة لمسلسلات مثل: “الرجل الآخر“، “الحقيقة والسراب“، “أين قلبي“، “فارس بلا جواد“، “الضوء الشارد” وغيرها.
شارة بداية “رأفت الهجان“
شارة بداية “ضمير أبله حكمت“
شارة بداية “المال والبنون“
شارة نهاية “المال والبنون“
لا شك أن للإرث السينمائي الغنائي أثر كبير في طرح الأغاني في الأعمال التليفزيونيّة. لا أتكلم هنا عن ظاهرة الفوازير التي بدأت في أواخر السبعينيّات– واستمرت بصيغتها المعهودة إلى أواسط التسعينيّات، بل أقصد تجارب دمج الأغنية في المسلسلات لأهداف الدراما التليفزيونيّة. سأتطرق إلى نموذجين مختلفين هنا:
مسلسل “هو وهي” (1984)
تضمّن المسلسل، الذي مثّل فيه سعاد حسني وأحمد زكي، ثماني حلقات مختلفة عن بعضها. جاءت كل منها مختلفة عن سابقتها، وعالجت كل منها قضية اجتماعيّة مختلفة. ورغم عدد الحلقات القليل، إلا أن أغانيه تعتبر الأنجح على الاطلاق مقارنة بمسلسلات غنائية أخرى مثل: “حبيبي الذي لا أعرفه” و“هي وغيرها“. وذلك لوجود شاعر كصلاح جاهين يكتب كلماتها، وملحنين مخضرمين ككمال الطويل وعمار الشريعي يصيغانها. لكن السبب الأهم هو وجود حالة فنيّة استثنائيّة جادت بصوتها في تلك الأغاني رغم أنها ليست مطربة. لتزرع في وجدان أجيال جاءت بعدها أغانٍ وجمل شهيرة أصبح بعضها غرافيتي في شوارع قاهرة ما بعد ثورة يناير، وشعارات ثوريّة متداولة مثل: “البنت زي الولد” من أغنية “البنات“. وقدّمت سعاد حسني كذلك أغانٍ شعبيّة خفيفة مثل “الشوكولاتة” و“خالي البيه“. وشاركها أحمد زكي الغناء في شارة البداية، إضافة إلى غنائه لأغنية “لأ لأ اثبت” في إحدى الحلقات. وهي تجارب غنائيّة شجّعت زكي على ممارسة هوايته في الأداء الغنائي التي وظّفها سينمائيّاً فيما بعد.
مسلسل “أنا وإنت وبابا في المشمش” (1990)
شكّل المسلسل حالة فنيّة متفردة عرضت أحوال الفساد المجتمعي في مصر، منتقدة رجال الأعمال والإعلام وقطاع كبير من المسؤولين. وتم توظيف الموسيقى بشكل لم تشهده الدراما التلفزيونيّة من قبل، وذلك لوجود عدة عوامل قوة تتمثل بكتابة المؤلف والسيناريست أسامة أنور عكاشة قسماً من الأغاني، إضافة إلى كتابته للمسلسل. كما شارك أحمد فؤاد نجم بكتابة بعض الأغاني، وأهمها شارة المقدمة الذي يذكرنا بالطابع الـ“شيخ إمامي” إذا صح التعبير. فالإعادات المتكرّرة لكلمة “مشمش” بعد كل بيت تذكّر كثيراً بـ“حاحا” الشيخ إمام. وتجدر الإشارة هنا إلى صياغة الملحّن فاروق الشرنوبي لألحان المسلسل بشكل دقيق على تنوعها واختلاف أنماطها وفقاً لتطوّرات الأحداث الدراميّة. كما جاء أداء الفنانة فردوس عبد الحميد “ثورجيًّا” شعبيّاً وراقياً في آن واحد، وظّفت فيه جمال صوتها كمؤديّة وليس كمطربة، بذكاءٍ فنّي يحسب لها وللمخرج محمد فاضل زوجها. فهي هنا ليست فردوس التي تغنّي: “بتغنّي لمين يا حمام” بشكل تطريبي في مسسلسل “ليلة القبض على فاطمة“، بل تبعت بأدائها روح كلمات نجم البسيطة واللاذعة. إذ تخرج الأغاني في بعض المشاهد وكأنها عفوية وخارج الاستوديو. بل تقوم الشخصيات بغنائها بشكل حي، كأغنية “بلدي” التي تغنيها فردوس عبد الحميد ومحمود الجندي بأداء مؤثّر.
شارة مقدمة “هو وهي“
أغنية “البنات” من “مسلسل هو وهي“
شارة مقدمة “أنا وإنت وبابا في المشمش“
أغنية “بلدي” من مسلسل “أنا وإنت وبابا في المشمش“
تناول المقال توجهاتٍ وأشكالاً موسيقيّة مختلفة في الدراما التلفزيونيّة المصريّة، من أواسط الثمانينيّات إلى بداية الألفيّة الجديدة لما تحمله من قواسم مشتركة: كصناعها وأنماطها ونجومها. ما يتيح حصرها كظاهرة تعكس أجواءً اجتماعية– سياسية عاشها المجتمع المصري. كانت أصوات جيل الوسط في مصر هي الأهم في مجال أغاني شارات المسلسلات، وكان لموسيقى الأعمال التلفزيونيّة بعداً وجدانيّاً لدى المستمع المصري والعربي، مشكّلة ركيزة هامة من ركائز العمل الدرامي. في وقت كان فيه التلفزيون المصري المصدر الرئيسي للأعمال الدراميّة والأكثر مشاهدة.
منذ بداية الألفية الثالثة، اختلفت الأشكال الدراميّة، وتباعاً اختلفت الرؤى الموسيقية بتأثير “العصر الجديد” والاستحداثات التكنولوجيّة. اختلفت المعادلة وأفل نجم هذه الاصوات وهذه الأنماط وكأنها أدّت مهمتها في عصر ما قبل الحداثة الفضائيّة التلفزيونيّة الموجود اليوم.
بدخول جيل جديد من المؤلفين والمخرجين الشباب، أقصيَ جانباً صنف الشارات المليئة بالشجن، وباتت العقليّة التجاريّة متحكمة في اختيار مطربي الشارات، ولصق أسماء نجوم تجاريّة كنانسي عجرم وإليسا وكأنها غلاف إيقاعي للمسلسل بلا بعد درامي، وخارجة عن تركيبته.
ويبقى السؤال إن كانت مرحلة ما بعد الثورة ستنتج أشكالاً مختلفة من الدراما التلفزيونيّة المصريّة متأثرة بروح الثورة؟ خاصة بعد أن فجّرت الثورة مواهب شابة في الغناء والتأليف الموسيقي، واستطاعت أن تكتسب لها حيّزاً ينافس في أحيان كثيرة “التجاريّة” – “المينستريم“. فهل هي أصوات مصر القادمة في الدراما التلفزيونية لو دأب صناع الدراما على إنتاج أعمال تُستلهم فيها روح ثورة يناير؟