.
في مقاعد جلدية ضيقة وسط باص صغير بين مدينة طرابلس وبيروت، نحاول أنا ومن تكدسوا من حولي بجسارة اكتشاف الطريق أمامنا. أي زحمة سير مفاجئة وغير متوقعة على الطريق السريع قد تعني نقطة تفتيش أمنية، بينما السائق يهتز بحماس مع عنقود عنب بلاستيكي يتدلى من المرآة الأمامية، على أنغام أغنية شعبية تقول “لبس الأخضر يابو زيد وعليها يلوك وشبه الغزال السارح شبه الغرنوك صفة تدل على الجمال. والغرنوق في الأصل تعني طائر الكراكي وهو طائر جميل أبيض اللون وطويل الساقين، من الطيور المهاجرة عبر سماء منطقتنا العربية..”
يعود ويقلب مجددًا بين أغاني فلاشة تصدر أضواءً مريبة تتبدل بتناسق مضجر، ليستقر على أغنية، منذ ثانيتها الأولى يقول المطرب بلهجة شاوية الشوايا مصطلح يطلق على سكان الريف في المنطقة الشرقية من سوريا وبعض المناطق الشمالية. من المنطقة الشرقية في سوريا “يا حجي، مبين … مبين من مشيتك إنك سوري” ليكمل الجملة رجل آخر باللهجة ذاتها “يسفرونك”، مؤكدًا أنك مهما فعلت وغيرت من نفسك، سوف تبدو سوريًا، وسوف يتم توقيفك وترحيلك، لينطلق بعدها لحن هندي حماسي، لا يقارب منهج المأساة الذي انطوت عليه الجمل التي افتُتحت الأغنية بها.
على كل حال، ليس شعورًا سيئًا أن ينظر سوريان إلى بعضهما بينما يستمعان إلى أغنية عن عمليات الترحيل، لكن ما أن تلتقي العيون، حتى تشعر بانكشاف، كأنك صرت عاريًا فجأة، عاريًا لا من ثيابك، بل من جلدك، وعليك أن تداري هذا العري بثبات وتماسك يدفعك لا إراديًا للتفكير في الاختفاء، هكذا أن تختفيا فجأة قبل أن يُوجَّه إليكما أي سؤال شخصي.
تحولت أغنية من ممشاك يعرفونك من ترند سوري على تيك توك إلى أغنية قدّمها بشار العزاوي على يوتيوب. بدأ الترند في شباط ٢٠٢٤ عندما نشر حساب عبد الرحمن السعد فيديو يعرضه هو وصديقه أبو جمعة جالسين في مضافة بثياب شيوخ الجزيرة السورية، متّكئين على وسادة عالية، يتحدثان عن شاب سوري يحاول التحايل على عمليات الترحيل في تركيا بالتظاهر بأنه غير سوري.
يحمل الشاب حقيبة على كتفه ويعمل على تحسين مظهره، ليتم تذكيره دائمًا بأنه سوف يبدو سوريًا من مشيته، ليكون مضمون الفيديو النقد المباشر لفكرة السوري الذي يحاول تجاوز لجوئه، بتخيل الحياة الطبيعية ومحاولة ممارستها متحررًا من الأوراق الرسمية وتحديث معلوماتها في دوائر السلطة، دون تطرّق الفيديو إلى مضمون هذه الإجراءات وعدم حمايتها للاجئين أحيانًا.
لكي يتعمّق الشاعر أسامة الصياد كاتب أغنية بشار العزاوي في هذا الخطاب، حوّل الترند إلى أغنية لا تتجاوز الدقيقتين بإضافة بعض الجمل القصيرة. دقيقتان يخاطب بهما السوري بأغنية شعبية، لكن من هو السوري في هذا السياق؟
السوري في الأغنية هو المختلف، والذي عليه أن يعالج أسئلة لجوئه بالاحتجاب، أي أن يحجب نفسه طالما هويته واضحة في نظرة عيونه وطريقة كلامه ومشيته، ومهما حاول الاندماج بالمساحات العامة للبلدان التي لجأ إليها سوف يبقى نافرًا بمظهره، لذلك، وقبل كل شيء، عليه ألا يتصرف كسائح، وأن يعود لمنطق الهامش، هامش البيت والعمل وإلا “برمشة عين يشولونك”. أصل التشويل من الفعل شال أي حَمَل، والشوال هو كيس الخيش الذي غالبًا ما يعبأ بالحبوب وينقله الحمّالون، ليكون مصير كل ما يخرج من هذا الهامش، أن يُرمى على الحدود.
منذ عمليات الترحيل المكثّفة التي أعلنت عنها إدارة الهجرة التركية في ٢٠١٩، انتشرت عدة أغانٍ على يوتيوب استخدمت عمليات الترحيل كموضوع رئيسي لها، منها أغنية صلاح أنيس يلا سوري دق طبول رحلونا من اسطنبول وأغنية خالد الآغا ادعي لا يرحلونك والفنان علي الأسمر جهز حالك على الرحيل. ركّزت هذه الأغاني طوال سنوات على السياق الخبري دون أي تأويل، وظلّت قريبة من هامش إخبار السوري بما يحدث، وما يعرفه، بينما خاطبت أغنية من ممشاك يعرفونك السوري وكأنه مذنب، وهذه الخطيئة غير المبررة من وجهة نظر الأغنية والترند، هي الجديدة بالنظر إلى الأغنية الشعبية التي اختارت من الترحيل موضوعًا لها. حققت الأغنية المشاهدات الأعلى على صفحة العزاوي، خاصة أنها ترافقت مع عمليات ترحيل ممنهجة في كل من العراق ولبنان وتركيا.
من أهم أسباب شهرة الأغنية أنها خاطبت السوري غير المكترث بالواقع، المستعد دائمًا للظهور في المساحات العامة، رغم التحذيرات المستمرة في الأغنية، متحررًا من أسئلته الشخصية عن اسمه والمكان، متنازلًا عن سؤال المصير الذي ينتظره، ليجد المتفاعلين مع الأغنية هامشًا هشًا لبطولة، نجدها عادةً في المجتمعات التي تعاني الاضطهاد والعنصرية في الدول المضيفة، حيث يصبح الفخر قائمًا على حجب الذات والظهور.
لذلك، لم يكن غريبًا أن تنتهي الأغنية بكلمات الفخر بالسوري، كونه ورغم كل ذلك، يبقى “ساس الساس” أو “الهيبة وصدر المجلاس”، أي أنه الأساس في كل شي وله صدر المجلس ومركزه.
لا تزال الممحاة الكبيرة التي يجب أن يحملها السوري معه تكبر، وبات استخدامها كشرط لا محيد عنه لبداية النجاة مأساويًا، ليحدث كل شيء تحت وطأة الخوف والحذر، والحال أن الجدارة تكمن في التحايل أو اللامبالاة. في الحالتين يبقى السوري أسير النظرة الذاتية ونظرة الآخرين إليه، بدون أغنية شعبية أو معها، لكن ما حدث أن الأغنية هنا قالت لنا شيئًا في صميم هذه النظرة، ولو بدا ساخرًا في البداية.
حتى في الإطراء الساذج الذي يرميه الغرباء على عجل في وجوهنا عندما يقولون: مو مبين عليك سوري، هناك شيء من فقدان القيمة بالذات، وكأننا تجاوزنا الاختبار الصعب. كل مواجهة تتطلب الكثير، إذ يجب أن يرافق اللجوء دائمًا اغترابٌ مركّبٌ عن الذات، حيث تتكدس الأسئلة تحت سطوة توقعات الآخرين، ومن هنا إلى أن نعيد اكتشاف ذواتنا في مجتمعات تعيش تخبطها السياسي والاجتماعي، سوف تبقى الأسئلة تتكرر، حقًا كيف يبدو السوري؟ كيف يمشي وكيف ينظر؟
صورة الغلاف للرسامة الفرنسية اللبنانية أود أبو ناصر.