من يتاجر بموسيقى الثورة؟

علي شاريير ۲۵/۰۱/۲۰۱۳

أثارت الثورة المصريّة في 25 كانون ثاني/ شباط 2011 فضولاً كبيراً حول أشكال الاحتجاج والتعبير الجديدة في البلد. قد يقود هذا الاهتمام المفاجئ والتركيز على الفنون، سواءً في السياسات الثقافيّة أو الإعلام، غير المطّلعين، أو الصحافة الأجنبيّة (هذا التقرير مثالاً) لتصوّر انفجاراً مفاجئّاً للإبداع وطرق التعبير الفنيّة التي انبعثت من الثورة، كما لو كان هذا الحدث قام بتحرير الموسيقى والفنون من قيودها السابقة، ليصبح مؤشّراً على بزوغ عهد إنتاج فنيّ جديد.

لكن الحقيقة معقّدة أكثر من هذا الادّعاء.

فبينما شكّلت الثورة تيّاراً جديداً للاستثمار، قام كثير من الفنانين بمحاولات لاستعمال الثورة في أعمالهم. إلا أنه كثيراً ما بدت هذه المحاولات على شكل استغلال للظروف المحيطة. من هذه المحاولات أغنية صوت الحريّةالتي قام بتأليفها موسيقيّان معروفان في الوسط الموسيقيّ المصري المستقل: هاني عادل من فرقة وسط البلد، وأمير عيد من فرقة كايروكي“.

تم تصوير فيديو الأغنية في ميدان التحرير، متضمّناً مشاهد لمتظاهرين يحملون لافتات بكلمات الأغنية وهم يغنون اللازمة: “في كل شارع في بلادي: صوت الحريّة بينادي“.



عندما انتشرت صوت الحريّةبشكل كبير على اليوتيوب بمشاهدة أكثر من 2 مليون شخص لها، لم يأخذ كل من شركتي بييبسيوكوكا كولاالكثير من الوقت للالتفات إلى كايروكيووسط البلد، ودفعهما إلى خارج المشهد الموسيقي المستقل، واتّخاذهما كسفيريهما الجديدين لعلاماتيهما التجاريّتين.





قبل ذلك، كان من المألوف مشاهدة نجوم البوب مثل تامر حسني وعمرو دياب أو هيفا وهبي وهم يقدّمون هذه العلامات التجاريّة. لكن، ومنذ الثورة، تم الدفع بالموسيقيين الجدد إلى النجوميّة عبر ظهورهم في الإعلانات التجاريّة.







مثال آخر لهذا الاستثمار يتمثّل في آخر إعلان تجاري لشركة الاتصالات العملاقة موبينيل“. يتضمّن هذا الفيديو خلطة من أغلب الأنواع الموسيقيّة المصريّة الموجودة اليوم؛ فمن الفولكلور النوبيّ إلى سمسميّة بورسعيد. أما الملاحظة الأهم، فهي مشاركة اثنان من نجوم المهرجانات“: أوكا وأورتيجا.



من المهم أيضاً الإشارة إلى أن فنانا المهرجانات الأشهر: عمرو حاحا ودي جي فيجو، أصدرا السنة الماضية أغنية الشعب يريد 5 جنيه رصيد“. كإشارة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة وتأثيرها على القطاع الأكبر من الناس. وهنا، لا نستطيع إلا أن نلاحظ التباين بين الإصدارين.



في بعض الحالات، تم الذهاب بالنفاق إلى مستويات أبعد. فالشعار التجاري الجديد لشركة الاتصالات فودافون“: “القوة بين إيديكيبدو ساخراً. إذ كانت الشركة مسؤولةً عن انقطاع الاتصالات أثناء أيام الثورة الـ18.

عندما أطلقت الشركة إعلانها الذي يلمّح إلى دورها في إلهام الثورة، كان الاستياء الذي أثير لاحقاً كبيراً جداً، إلى درجة أن فودافاونقامت بنفي أي علاقة بإنتاجه وأزالته من اليوتيوب. لكن الإعلان لا يزال موجوداً على الموقع: www.ihatevodafoneegypt.com

هذه الموجة ليست قاصرة على مصر فقط. إذ قام حامد سنو من فرقة مشروع ليلىبالغناء لشركة الاتصالات اللبنانيّة زين“.

وكما يعلّق الموسيقيّ زيد حمدان على قضيّة الظهور في الإعلانات التجاريّة كطريق سريع للوصول إلى الاتجاه الجماهيري السائد: “أنت شخص كوولالآن إذا كنت ثوريّاً“. تجذب كل جماليّات وأدبيّات الخطاب الثوريّ البعيدة صناعة التسويق التجاري. لكن زيد هنا يحذّر: “تفسد صناعة الموسيقى السائدة الفنان. نحن نودّ أن نصبح جماهيريين، لكن بصناعة موسيقانا نحن. بينما عندما يؤلّف منفذو التسويق لحناً ويأتون بنجم مستقل ليغنيه، النتيجة دائماً محبطة. هنا بالضبط يفسد النجم. فهم لا يعتمدون على موسيقاك، الأمر يعتمد على رؤيتهم وكيف يريدون منك أن تعمل“.

سمعة الفنان وقاعدة مستمعيه تتعرّض للخطر أيضاً كما يقول: “عندما تستمع إلى أسطوانتهم الأولى، ثم تستمع إلى الإعلان التجاري، يبدو الأمر كتجربة مشروع ليلى، لكن بشكل أسوأ: أكثر مللاً“.

يتّفق تامر أبو غزالة مع هذا الرأي. فيقول مؤسس إيقاعوأحد الوجوه الرائدة في موجة الموسيقى المعاصرة المستقلة العربيّة أنه: “طالما قام الفنان بالتعبير عمّا يود أن يقوله في كل الأماكن، يبقى مستقلاً. لكن المشكلة تقع إذا كانت الرعاية تقيّده في رسالته: إذا كان ينتج الموسيقى بهدف جعلها مقبولة من طرف الرعاة، كما تفعل العديد من الفرق، لم يعد بذلك مستقلّاً“.

على الرغم من ذلك، يدافع أبو غزالة عن وجهة نظره في أننا لا يجب أن نتعجّل في إطلاق الأحكام على هؤلاء الفنانين الذين يتعاونون مع العلامات التجاريّة: “بشكل عام، أعتقد أنه أمر جيّد من ناحية توفير المال للمشهد. وإذا كانت الشركات تقصد هذا السوق فذلك يعني أن سوق الموسيقى المستقلة ينمو. وهذه إشارة جيّدة“.

التعاون مع الشركات التجارية أمر محتوم في مرحلة من مراحل مهنة الموسيقيين: “ترسيخ العلامة والترويج لها هما أحد أهم مصادر دخل الموسيقى. التساؤل الوحيد هنا إذا ما سمح الفنان للعلامة التجارية بالاستحواذ على هويّته أم لا. والأمر يقع على عاتق الفنان في وضع الحدود: كيف يقدّم نفسه، وكيف تتبنّى العلامات التجارية ذلك أو لا“.

هنا نتساءل: ما هي النتائج المتوقعة إذا قررت الشركات العملاقة استبدال نجوم البوب بالفرق المستقلة؟ هنا يتبادر إلى الذهن الدرس المستفاد من فيلم The Leopard للمخرج فيسكونتي، والذي تم إصداره أثناء اضطرابات توحيد إيطاليا. “إذا لم نقم باتخاذ القرار أنفسنا، سيقومون بفرض الجمهوريّة علينا. إذا أردنا أن تبقى الأمور كما هي عليه، فالتغيير حتميّ“. بهذه الكلمات نصح ابن شقيق الأمير سالينا عمّه باتّخاذ غاريدبادليحليفاً.

التكيّف مع السياق الثوري واعتماد الخطاب الجديد غالباً ما يكون مسألة حياة أو موت بالنسبة للمقربين من النظام السابق. هذه النظرية التي تبناها ما يطلق عليهم بالـفلولتنطبق أيضاً على الشركات التجاريّة التي عدّلت شعاراتها التجاريّة وحملاتها الدعائيّة وممثليها الدعائيّون بالتوافق مع أدبيّات الخطاب الثوريّ الجديد.

وكما يقول فريشكوبف“: “في النظام الرأسمالي، عادةً ما توظّف الشركات التجاريّة الخطاب الوطنيّ كوسيلة لنيل الثروة. مقايضين، بذلك، رأس المال الثقافي برأس المال الاقتصادي“. (فريشكوبف. 2008).

من غير الواضح إذا ما كان الهدف الرئيسي من هذا التحوّل في العلاقات العامة والتسويق يهدف، فقط، لاستمالة القلوب والعقول. هذا التحوّل أيضاً يعكس، بشكل أساسيّ، مبادئ اقتصاديّة بديهيّة. إذ أن الأموال التي كانت هذه الشركات تنفقها على نجوم مثل عمرو دياب وهيفا وهبي تفوق، بأربعة أو خمسة مرات، ما حصلت عليه فرقة كايروكيعلى الإعلان الذي قاموا به. هذا ما يمكن أن يوصف بـضرب عصفورين بحجر“. فلم تتكيّف هذه الشركات فقط مع الخطاب الثوريّ، بل تكيّفت، أيضاً، مع سياق تخفيض التكاليف ضمن الأزمة الاقتصاديّة العالميّة.

قد يبدو تقييم أثر الثورة، التي تحلّ ذكراها الثانية اليوم، على الإنتاج الفني مبكّراً. على الرغم من ذلك، النتيجة الرئيسيّة التي يمكن لنا أن نستنتجها من خلال الأمثلة التي وردت في المقال أن نموذج نجم البوب آخذ بالأفول، وبأن المشهد المستقلّ بديل جيّد لاستبداله في موقع الشهرة.

المثير في الأمر أن هذا التحوّل يحدث أولاً وقبل كل شيء عبر استعمال توليفة موسيقيّة سهلة الهضم من قبل العلامات التجاريّة، ما يمكن أن نسميه البوب الخفيف“. لكن التحوّل الرئيسي يكمن في محتوى الكلمات.

احتّل نموذج نجم روتاناالأثير لفترة طويلة، لكن الجمهور الآن بدأ يملّ من المغنين الجاهزين؛ من الموسيقى المحوسبة إلى الأصوات المعالجة إلكترونيّاً. ومن المؤلّفات الفارغة إلى مظاهرهم المزيّفة. وليس سرّاً أن عمليّات التجميل عادةً ما تدخل ضمن الميزانيّة.

من المؤكّد أن البعض سيستمرّ بالاستماع إلى عمرو دياب في الأعوام المقبلة. فبعد أن أصدر 12 أسطوانةً خلال عقدين، من غير المتوقّع أن يختفي من تاريخ الموسيقى المصريّة. رغم ذلك، فإن التغيير لا يمكن إنكاره: فعندما حاول تامر حسني الدخول إلى ميدان التحرير قبل عام، تم طرده من قبل المتظاهرين بالصفع والإهانات، قبل أن يلتجئ إلى حمّام عام حيث أمسك به المتظاهرون وصورّوه وهو يبكي في هذا الفيديو.



أغانيه المضادّة للثورة وطبيعتها غير المتوافقة مع الحالة العامة أصبحت واضحة بعد أن أصدر أغنية حب أثناء الحرب الأهليّة في بلده.

مؤسسو موقع معازفالمتخصص بالنقد الموسيقي الذي أطلق مؤخّراً يعلقون على هذه القضيّة: “لا نريد أو لا نتوقّع من الجميع الغناء عن الثورة أو التكلّم في السياسة، ما نبحث عنه هو أغانٍ جيّدة، وهذا ما نتوقّعه. لكن إذا كنت فناناً معروفاً وهناك ثورة قائمة في بلدك، فعدم الحديث عنها وتجاهلها، أو الحديث عن أمر غير مرتبط بها نهائياً، يعني أنك منحاز“.

تغيّرت أمور كثيرة منذ الثورة؛ الممثلون من كل القطاعات يجدون طرقاً لإعادة إختراع صورهم. لكن ثمّة أمور بقيت على حالها أيضاً. الأمر الواضح الآن أن إرضاء الجمهور لم يعد سهلاً كما كان من قبل. وبينما يقوم بعض الموسيقيين بركوب الموجة وتحويل الوضع القائم إلى مصلحتهم، يقوم آخرون بالانضمام إلى القوى الثوريّة لتحقيق أقصى آمالها، وتحدّي النماذج القديمة التي عفا عليها الزمن.

ترجم المقال عن الإنجليزية فريق معازف.

المزيـــد علــى معـــازف