هزّه يا محبوبي | مغامرات مها عبد الوهاب في لبنان فيروز

أذكر دهشتي حين وجدت أغاني مها عبد الوهاب صدفةً على اليوتيوب، بعد قضاء ساعات طويلة أبحث عن أغانٍ جديدة. سمعت أولًا أغنية ع شفافي مرمِغ شنباتك. كانت الجملة الأولى كفيلةً بإضحاكنا أنا وأصدقائي: “عشفافي مرمغ شنباتك / وسمّعني أحلى آهاتك”؛ كما تتخلل الأغنية تأوهات مها: “شوي شوي كمان آاه”. لم تكن دهشتنا نتيجة كلمات الأغنية الصريحة بل استهجانًا. حين تستمع إلى المقدمة الموسيقية لأية أغنية لـ مها عبد الوهاب ستظن أنها إحدى أغاني “الزمن الجميل” الطربية، إلى أن تبدأ مها بالتأوه والدلع. ما أثار اهتمامي وحيرني هو هذا التناقض، كيف لأغنية من تلك الفترة أن تكون بتلك الجرأة؟

ما استطعت الوصول إليه سبع عشرة أغنية لـ مها عبد الوهاب، أو كما تلقّب نفسها: مطربة السيكس، طغت عليها التأوهات والكلمات الجنسية الصريحة، على موسيقى شرقية فرحة باستثناء أغنية واحدة سنتحدث عنها لاحقًا.

ولدت مها في محافظة حماة السورية، وبرزت في مسابقات الجمال والأزياء في سوريا وانتُخبت كـ “ملكة الأناقة” في حلب نهاية الخمسينيات. بعد ذلك انتقلت مها إلى بيروت حيث غنت في مقاهي العاصمة الليلية في الستينيات، لكن لم تتميز بين مطربات الدرجة الثانية اللواتي يغنين في المقاهي ذاتها. حينها قررت مها أن تطلق لقب مطربة السيكس على نفسها وأطلقت عدة أغانٍ، منها: هزّة يا محبوبي، شوب يا قلبي ونار نارة.

بعد أن التفتت الأنظار إلى مها، استضافها عام ١٩٦٥ المونولوجست المصري حسن المليجي في البرنامج التلفزيوني بيروت في الليل، الموصوف في صحافة ذلك الوقت بالسوقية والابتذال. احتوى البرنامج منوعات ترفيهية بين سكتشات ووصلات غناء ورقص.

غنت مها في البرنامج: “جسمي حلو يا حلو / بس بدو فستان حلو / جبلي ياه، خدلي ياه / يا حلو”. جددت الأغنية الانتقادات على المليجي وعلى برنامجه. أكّد مدير الإذاعة آنذاك حسن الحسن أن “تأثير التلفزيون يقتصر على طبقات المستمعين الذين يتمتعون بثقافة محدودة ودخل محدود، وينتظرون التلفزيون ليشاهدوا أفلامًا ببلاش.” في النهاية وجّهت وزارة الإعلام إنذارًا إلى إدارة التلفزيون، في حين مُنعت مها من الظهور على التلفزيون نهائيًا.

منذ بداية مسيرتها أثارت مها الغضب والمشاكل، ما يفسر شهرتها قصيرة الأمد ورصيدها المحدود في الأغاني. لم تكن تلك الحادثة نهاية مها بل بدايتها، وفي عام ١٩٦٦ مثّلت كضيفة شرف في الفيلم اللبناني إنتربول في بيروت.

عند استماعنا أنا وأصدقائي إلى ع شفافي مرمِغ شنباتك في تلك الليلة شعرنا وكأننا ننتهك خصوصية مها وشريكها، وما زال يراودني الشعور ذاته رغم أن مها هي من تدعونا، مستمعيها، إلى عالم رغباتها الجنسية. يجدر بالذكر أن مها هي من كانت تكتب وتلحّن أغانيها. ليست مها الأولى ولا الأخيرة في هذا النوع، فقبل مها عبد الوهاب كان لدينا بهية المحلاوية ونعيمة المصرية، وبعد مها لدينا ميريام كلينك وغيرها.

لكن مها جاءت بعد أن أصبح كلٌّ من نعيمة المصرية وبهية المحلاوية ماضيًا بعيدًا سار بعده كل شيء نحو المحافظة والانغلاق، وقبل ميريام كلينك وعودة كثير من الحرية إلى مشهد الموسيقى في لبنان. جاءت في عصر فيروز. مع ذلك، أصرّت مها على غناء هذا النمط من الأغاني دون غيرها، وهي بكامل الإدراك لنظرة المجتمع لمحرّم ديني ومجتمعي من هذا النوع وللانتقادات التي قد تطالها، وقد طالتها بالفعل. لم تتمتّع مها بخامة صوت مميزة، لكن كان بإمكانها أن تنجح في الغناء عن مواضيع أخرى. ربما أرادت أن تمثل صورة جديدة للمرأة العربية.

كأنها أحجية، أحاول تركيب أحداث حياة مها وربطها من خلال أغانيها. رغم أن طابع الغنج والغزل والدلع يطغى على معظم أغانيها، إلا أن كل أغنية تبدو كفصل مختلف من حياتها، وتبرع مها في كتابة وصف دقيق لكل فصل وحالة وموقف، سواءٌ كانوا من الخيال أم لا.

في أغنية يا قاضي كون راضي، تحاول مها، كطفلة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، إقناع القاضي بتزويجها من حبيبها رغم أنها قاصر، وحجتها أنها “شاطرة وذكية وقوية بتدبير المنزل”. ذهلت حين استمعت إلى الأغنية للمرة الأولى. أن يكون المرء داعمًا لزواج القاصرات أو جزء منه حالة موجودة، أما تصوير مها نفسها كطفلة صغيرة تعبر عن رغبتها بالزواج وأن تذكر عمرًا محددًا فذاك شيء مختلف. ربطت الأمر بسياقه الزمني في ذلك الوقت وقلة الوعي ربما آنذاك، لعل مها كانت تغني ببراءة مستذكرة حبيبها حين كانت في المدرسة الإعدادية، وربّما ليست للأغنية علاقة بأي شيء حصل بالفعل مع مها.

“أنا أنا عمري ١٤ / والوجه قمر ١٤

عايزني استناك ١٨؟ 

وعالصبر مالي معتادة / يا قاضي كون راضي

أنا أنا رحت المدرسة / ونجحت صفوفي كويسة

كفاية بقى محرقصة / حققلي يا قاضي مرادي

أنا أنا شاطرة وذكية / بتدبير المنزل قوية

ما تخاف والنبي عليّ / حبيبي مني حيكون راضي”

في أغنية سكران، تستنجد مها بوالدها وتطلب منه ألّا يقبل بأيٍّ من الخطّاب القادمين لطلب يدها، علي، عمر، فخري، شوقي. ترفض الأول لأنه يتعب عقلها، والثاني يلعب بالقمار، والثالث يزيد قهرها، وتخاف من أن شوقي قد يطلّقها. لكنها في نهاية الأغنية ترضى بشاب اسمه سكران. ربّما كل هذه الشخصيات حقيقية وكانت موجودة في حياة مها، وربّما نسجتها من خيالها. ربّما أُجبرت مها على الزواج من قبل أبيها وربّما لا.

أما في أغنية متشخلعة ومدلعة تتغنى مها بجمالها وتصف نفسها ببنت الأفندي وأن جمالها ترثه من والدها. كلمات الأغنية محمّلة بثقة نفس عارمة. أمّا في أغنية حومرة وبودرة كثير، تسخر مها من النساء اللواتي يغطين عيوبهنّ بمساحيق التجميل ويستعملن شعرًا مستعارًا ورموشًا مزيّفة، ويغرين الرجال بنهود مزيفة: “لحمس لحوس يا حبّوب، لا تنغشّ وأوعى تذوب / رح تاكل أكبر مقلوب لمّا تهرّ التركيبات.”

تصف كلمات الأغاني شخصيات ومواقف دقيقة تجعل القصة أكثر قابلية للتخيل ويصعب عليّ فصلها عن حياة مها الشخصية، لكن الأغنية التي تقف وحيدة بين أغاني مها، مشاكل الدني، المختلفة عن كل شيء قدمته لنا المطربة السورية والبعيدة عن كل الدلع والإثارة. مها منكسرة في هذه الأغنية. عدا عن أن إيقاع الأغنية هادئ، كلمات الأغنية شخصيّة وتتناول حسرة مها بعد انفصال حبيبها عنها، تغنيها مها بأسًى وحزن غامرَين: “مشاكل الدني كتير كتير / يوم أفراح ويوم تعتير / لكن متل مشكلتي يا ناس / ما بقى يكون ولا بقى يصير.” أتساءل لمَ ترى مها أن مشكلتها العاطفية أكبر من كل مشاكل الدنيا، وأكبر مشكلة في حياتها التي تبدو لي لسبب ما حزينة، رغم كل الإثارة في أغانيها. كما ترى مها نفسها على أنها الأجمل بين الفتيات، فهي أيضًا الأكثر حزنًا ووحدة بين الناس.

في محاولة تقفّي آثار مها، ذهبت إلى أحد محلّات الأسطوانات في شارع الحمرا في بيروت وسألت صاحب المحل إن كان يملك أية أسطوانات لها أو أية معلومات عنها. تفادى النظر إليّ. قلت له إنّها كانت مشهورة في لبنان في الخمسينيات. “لأ! بالستينيات” قال مصححًّا. 

جرّبت حظي في متجرٍ آخر، ووجدتها. أسطوانة خضراء لأغنيتَي بسبوسي بس ويا قاضي كون راضي من إنتاج شركة بسام فون. أخيرًا وجدت شيئًا ماديًا يربطني بمها عبد الوهاب. سألت الرجل عن سعرها فضحك، وقال أنها مكلفة دون الإفصاح عن سعرها بالضبط، لأنه من النادر إيجاد أية أسطوانة لمها عبد الوهاب التي كانت “محرّمة” في السبعينيات حسب قوله. 

بدأ صاحب المتجر يسترجع ذكرياته. تحدّث عن المرة الأولى التي سمعها فيها، في متجر أسطوانات في بيروت عمل به في عمر الثلاثة عشر عامًا. احمّرت وجنتاه ولم يعرف الفتى ما هي ردة فعله تجاه الأغنية. ليس هو وحسب، بل كل من دخل المتجر ليطلب إحدى أغانيها كان يطلبهم بصوت خافت وبحياء مبالغ به.

بعد حديث مطول عن مها والرقابة والجنس ولبنان، طرح الرجل تساؤلًا لم يخطر على بالي: هل هي فعلًا مها عبد الوهاب أم أنه اسم مستعار؟ ذكر الفنان اللبناني عمر الزعني مثالًا، وكيف أنه كان يستعمل اسمًا مستعارًا بعد أن فُرضت رقابة على أغانيه التي انتقدت الحكومة اللبنانية والبرلمان. ربّما استعانت مها عبد الوهاب باسم مستعار لحماية عائلتها في سوريا كي لا تجلب لهم العار، أو لحماية نفسها كي لا تنكشف هويتها الحقيقية. ربما اختارته لنفسها اسمًا فنيًا كباقي الفنانات، واختارت عبد الوهاب كنيةً لها تيّمنًا بمحمد عبد الوهاب. في الأصل كنية عبد الوهاب لا وجود لها في حماة، مسقط رأس مها في سوريا.

لم يقم أحد بعد بمحاولة بحث جادة عن حياتها الشخصية أو العاطفية، إن كانت طفلة وحيدة لأهلها ومن كان والديها أصلًا، إن تزوجت أم لا، إن أنجبت، كيف اختفت، كيف توفّيت إن توّفيت أصلًا. كل ما ستجده على الإنترنت هو أغاني مها وبضع صور لها تسوّق بها حفلاتها: “نغم من سورية يصدح في لبنان”. كل ما لديّ هو صور مها وأغانيها، أو ما بقي منها بعد أن كلّف وزير الداخلية وقتها كمال جنبلاط قوات الأمن بسحب أسطواناتها من الشارع اللبناني.

أنظر مطوّلًا إلى صورها وتبدو لي كأية مطربة أو ممثلة أخرى في ذلك الوقت، بوضعياتهن المعتادة، إلا في صورة لأغنية بسبوسي بس حيث تظهر مها مستلقية على الأرض. لا تظهر مها مفاتن جسمها ولا تتعرّى. ربما أرادت ببساطة أن تعبّر عن رغباتها كشيء عادي وأن تحفظ مكانتها كمغنية عربية مكرسة في آن واحد.

كلّما وجدت معلومات عن مها عبد الوهاب، إن كان ذلك اسمها الحقيقي، كلما رأيتها كحالة أو أسطورة تُحكى أكثر منها كشخص أو مغنية. أستمع لأغاني مها لأحاول فهم ماهية شعوري تجاهها؛ وتمامًا كذلك الصبيّ في متجر الأسطوانات في سبعينيات لبنان، أشعر بمشاعر مختلطة تجاه أغانيها.