fbpx .
دي ليها تاريخ | مهرجانات الدخيلة بين النوستالجيا والتأثير

دي ليها تاريخ | مهرجانات الدخيلة بين النوستالجيا والتأثير

عمر غنيم ۲۰۲۵/۰۸/۱٦

في مهرجان أصدقاء سداسية، أحد أول المهرجانات التي خرجت من مشهد الدخيلة الوليد في الإسكندرية، يغني حودة بندق بصوت مشبع بالأوتوتيون ونبرة محمّلة بالفخر: “الدخيلة دي ليها تاريخ.” عبارة ربما لم تحمل الكثير من المصداقية وقتها، نظرًا لأنه لم يخرج بعد من المدينة الساحلية أي فنان ذي تجربة ناجحة، لكنها تحولت لنبوءة.

كانت الدخيلة معروفة فقط بالميناء والمنطقة الصناعية التي احتوت على أكبر مصانع الحديد في مصر، بالإضافة إلى بعض الآثار الرومانية المهملة، وغلبت على سمعتها أنها منطقة شعبية سكندرية خالصة وخطرة تقبع على هامش المحافظة الغربي.

صدر مهرجان أصدقاء سداسية على يوتيوب في ٢٠١١، دون توصيف للفيديو ولا أسماء للمشاركين فيه، وكتب اسم المهرجان فقط على خلفية زرقاء صنعت غلافًا منخفض الجودة للأغنية؛ لكن ذلك لم يكن مهمًا على الإطلاق. لم يكن اليوتيوب مكانًا لترويج ذلك النوع من الموسيقى وقتها، وعلى الأغلب من رفعه على المنصة ليس من صناعه.

حصلت على أصدقاء سداسية ضمن مجموعة من المهرجانات نقلها إلى كرت الميموري خاصتي زميل المدرسة إسلام عجمي، الذي احتوى هاتفه الصيني على كل جديد في تلك المساحة وكان بمثابة ديلر المهرجانات في المدرسة.

تضمنت تلك المهرجانات أيضًا بحر النجوم والباب الجديد ومهرجان مافيا الشياطين، لأتناوب على سماعهم ويأخذ كلٌّ منهم فترة غير قصيرة من الاستماع المتكرر حتى الحفظ التام.

كنت في الخامسة عشرة من عمري، أعيش في مدينة كفر الدوار القريبة من الإسكندرية، وبطبيعة الحال كانت المهرجانات السكندرية اقرب لنا من تلك التي أتت من القاهرة. انتشرت المهرجانات وقتها بصورة عضوية تمامًا، دون استراتيجيات تسويق ولا إصدارات رقمية مدروسة؛ عبر التكاتك والأفراح والتليفونات الصيني وكروت الميموري والبلوتوث، بالإضافة إلى جهود بعض المواقع مثل مهرجانات دوت كوم ومطبعة دوت كوم التي حاولت أن توثق تلك الإصدارات رقميًا، وإن كانت مقرصنة. 

ظهر في مشهد الدخيلة العديد من الأسماء، بينما شكلت مجموعة بعينها نواة ذلك المشهد، أهمهم فيلو وزيزو النوبي. كونت تلك المجموعة فيما بينها العديد من الفرق بأسماء مختلفة وتشكيلات متبدلة بين الأعضاء، كما ضمت فنانين آخرين مهمين مثل حودة بندق، زياد الإيراني، تيتو، وحمو العربي، وإن كانوا أقل تأثيرًا من فيلو وزيزو النوبي.

من أشهر الفرق التي تكونت في تلك الحقبة الديابة الستة، اتحاد القمة، اتحاد القوة، مافيا الشياطين وفريق الأحلام. سيطرت صيغة الفرق على مشهد الدخيلة وجاءت الإنتاجات غزيرة لدرجة يصعب الإلمام بها. تفوق كل فنان من تلك المجموعة في عنصر ووضع بصمته عليه، حيث تولى فيلو الإنتاج الموسيقي بجانب الغناء والكتابة أحيانًا، وكان زيزو النوبي وشاعر الغية أشهر كتاب تلك الحقبة وشاركوا أيضًا في الغناء، بينما برز حودة بندق كصاحب الصوت العذب والوصلات الغنائية الممتدة، الذي تحول فيما بعد إلى البوب بشكل كامل.

حكاية الصحاب هو أول مهرجان خرج من تلك الفترة. أذكر أني سمعته في توكتوك لأول مرة بالصدفة وجذبت انتباهي الحكاية التي يرويها فيلو واللول السبع؛ حكاية كلاسيكية في الثقافة الشعبية المصرية عن صحاب السوء وما يتبعها من عواقب كالغدر والندم، من خلال التركيز على أخين يفصل بينهما السجن. على إيقاع شعبي مترنح، وبأسلوب بسيط ولغة طازجة وتمكن سردي غير مسبوق، يلعب فيلو واللول “خد وهات” في وصلات غنائية تأخذ شكل جوابات من وإلى السجن.

لفت انتباهي في المهرجان وقتها طبيعته غير التقليدية، فلا هو غناءٌ شعبيٌّ خالص مثل طارق الشيخ أو عبد الباسط حمودة، ولا هو مهرجان بالمعنى المعروف اليوم، إنما تجربة وتصور حديث للموسيقى الشعبية، أقرب إلى جسر بين الغناء الشعبي التقليدي وصورة أولية لشكل المهرجانات فيما بعد.

كنت آنذاك في بداية مرحلة اهتمامي بالموسيقى بشكل يفوق الاستماع الطياري، وتفتّح أفقي على المهرجانات من حكاية الصحاب لأستمر في تلقى كل جديد من أصدقائي ومن البحث على الإنترنت، ومن احتكاكي بالشارع في كفر الدوار. 

لم أفهم وقتها بشكل كامل السبب وراء خصوصية تلك الموسيقى والتأثير الذي تركته عليّ وعلى جيلي، كنا فقط نستمع بنهم ونحفظ ونغني بقلب عن الدخيلة وحواريها وعوالم لم نرها من قبل، ويأخذنا الفخر مع كلمات لا تمت لنا بصلة. نسمع حكايات عن الدخيلة من زيزو النوبي وحودة ناصر ونرددها بشغف.

زيزو ببكلمة إسكندرانية دارجة بمعنى جامد أو ما فيش زيه. كلام المهرجانات

اتسم مشهد الدخيلة بخصوصية واضحة من حيث التفرد البنيوي والأسلوب السردي، حيث استحدث زيزو النوبي أساليب سرد قصصية وحوارية داخل المهرجان، تعود بجذورها إلى الموسيقى الشعبية المصرية، لكنه أعاد صياغتها بشكل معاصر، وبمواضيع تعبّر عن زمنها وبيئتها الاجتماعية، وأحيانًا السياسية. كما طوّر زيزو النوبي شكل المهرجان، بحيث يبنى على فكرة بعينها كخط عريض للمهرجان بينما تترجم الكلمات تلك الفكرة وعناصرها في الفيرسات. كما في مهرجان لعبة الرجولية من فرقة الديابة الستة، الذي يعد مرحلة تأسيسية لأسلوب زيزو النوبي.

كانت فرقة الديابة الستة أول فرقة مهرجانات تتشكل في المشهد، بقيادة فيلو، وزيزو النوبي، وحمو العربي، وطارق المرعب. رغم محدودية إنتاجات الديابة الستة، ظل مهرجان لعبة الرجولية علامة فارقة وأيقونة باقية حتى اليوم. يكشف المهرجان عن أساليب سرد غير تقليدية والبنية المتفردة التي ميّزت اسلوب زيزو النوبي عن غيره، إذ قام على فكرة رمزية لكتاب بعنوان لعبة الرجولية. يمثل كل فيرس صفحة مستقلة، تروي تأملات عن الرجولية من وجهة نظر زيزو النوبي، الذي يشكّل مع فيلو نواة التراكم السردي في الأغنية.

يفتتح فيلو المهرجان بقوله “الست ديابة راجعين هيغنوا / والليلة ليلة ولا ألف ليلة / فتحوا كتابهم هيقروا منه / وأول صفحة عن الدخيلة.” من هنا، ينطلق تراك يمتد لثماني دقائق، يتناوب فيه كل من زيزو النوبي وفيلو وحمو العربي وطارق المرعب، على تقديم بارات متتابعة، في عملية تبادل تتميز بسرد انسيابي لا أبالغ إن قلت إنه عبقري. من الصفات الأخلاقية والسلوكية المرتبطة بالفكرة الشعبية للرجولة، إلى قضايا المخدرات والصداقة والتناقضات البشرية.

عند بلوغ الفصل الأخير من الكتاب، تختتم الأغنية بما يشبه الاستجواب الرمزي، حيث يدخل زيزو النوبي في حوار مع فيلو، يطرح عليه سلسلة من الأسئلة تحت عنوان لعبة الرجولية، وكأنهم يختبرون ما تم سرده في الصفحات السابقة ويحولونه إلى لعبة وعي.

رغم البنية المعقدة لمهرجان لعبة الرجولية، واعتماده الكثيف على أدوات سرد غير تقليدية، لا يفقد صلته بروح المهرجانات الخالصة، بل يظل وفيًا لجذرها الشعبي من خلال لغته وإنتاجه الموسيقي. في أحد المقاطع، يعلن فيلو “زيزو بب الكلام المهرجانات” وهي عبارة تخلو من المبالغة، بل تأتي كتوصيف دقيق لمكانة زيزو النوبي. أعاد زيزو تعريف كتابة المهرجان، ودفع بها إلى آفاق غير مسبوقة من حيث التنويع البنيوي والقدرة على توليد المعنى والتجريب السردي.

مثّل مهرجان لعبة الرجولية النموذج السردي والبنائي الذي ستتخذه مهرجانات الدخيلة لاحقًا، من حيث التركيز على الحكي كأداة جذب سردية، وتبادل الإلقاء بين جميع المشاركين، وتوزيع الفيرسات بين الفخر والتباهي، والانعكاسات الاجتماعية والثقافية. ذلك بالإضافة إلى اللعب على ثيمة كبرى يجري تفكيكها عبر الكلمات، وصولًا إلى وصلات المسا الممتدة في نهاية المهرجان، والتي تحيي كل من شارك فيه، من أصدقاء الصُنّاع إلى سكان المنطقة.

يا فيلو دا انت بمليارات

في حين طور زيزو في أساليب الكتابة واستحدث فيها، ركز فيلو على تطوير الإنتاج الموسيقي للمهرجان وأسلوب الإلقاء والتركيب اللحني. مع تتبع بداية فيلو من حكاية الصحاب إلى مهرجانات مثل بحر النجوم ونهاية العالم، نرى مسار أسلوبه الإنتاجي الذي بدأ بإنتاج إيقاعي ثابت وبسيط، إلى التطور نحو بيتات أكثر ديناميكية تتفاعل مع الإلقاء وتركز على اللحن والغناء وتوظيف مقتطفات من ألحان أغاني البوب. 

في مهرجان اتحاد القوة والمعمورة على سبيل المثال، الذي يعد من كلاسيكيات تلك الفترة، تظهر أول لمحات تطور أسلوب فيلو في تلك المساحة، حيث يوظف إيقاعات متغيرة تواكب الإلقاء وتعززه وتتفاعل معه بانسيابية. يتضح ذلك التأثير فيما بعد في أعمال منتجين مثل فيجو الدخلاوي وقط كرموز، الذين طوروا من أسلوب فيلو وصقلوه ليشكل هيكل المهرجانات الحديثة. 

لا يزال فيلو يحظى بمكانة أيقونية حتى اليوم، بوصفه واحدًا من القلائل الذين نجحوا في عبور الفجوة بين مشهد الدخيلة ومشهد المهرجانات الأوسع على مستوى مصر، على عكس زيزو النوبي، الذي ظل تأثيره حاضرًا في النصوص والأساليب دون أن يواكب التحولات التي طرأت على المشهد الأوسع.

نجح فيلو في مواكبة التطور عبر سلسلة من التعاونات الذكية التي جمعته بجيل جديد من صناع المهرجانات أمثال عنبة، حسن شاكوش، وعلي قدورة، ونجح في الحفاظ على صوته الخاص وسط موجة من التنميط الصوتي والإنتاجي. كما رسّخ وجوده في مشهد القاهرة بتعاونات نوعية مع رموز من الجيل الأقدم للمهرجانات مثل فيفتي والسادات.

الذاكرة المفقودة لمشهد الدخيلة

رغم التأثير الممتد لتلك الحقبة، غاب التوثيق المنهجي والصحفي عن مشهد الدخيلة، وما بقي من بدايات المشهد هو بعض المقاطع المتفرقة على يوتيوب وساوندكلاود التي لا زالت تراكم ارقام استماعات بالملايين. عند تصفح التعليقات، يبرز طيف واضح من الحنين، حيث يعتبرها كثيرون جزءًا من “زمن المهرجانات الجميل”، ويربطونها بمرحلة تأسيسية ذات طابع نوستالجي.

مع ذلك يصعب اختزال تلك الفترة في الحنين وحده، فقد احتوت على قدر من التجريب ربما يفوق ما نشهده اليوم، من حيث البنية، واللغة، وتوزيع الأدوار داخل التراك، وأثرت بشكل مباشر في شكل المهرجان كما نعرفه اليوم.

مثّلت فترة ٢٠١١ إلى ٢٠١٥، في رأيي، أهم مرحلة في تاريخ المهرجانات المصرية من حيث التأثير. ثم جاء حمو بيكا وفيجو الدخلاوي والشاعر الفاجر لينقلوا المهرجانات إلى آفاق غير مسبوقة تجاريًا، من خلال استثمار الأساسات التي وضعها فيلو وزيزو النوبي وفرق الدخيلة. بعد ذلك، انفتحت الأبواب أمام فنانين مثل إسلام كابونجا وحمو المرشدي وغيرهم، ممن يمكن بسهولة تتبّع الثيمات والبُنى التركيبية واللغة في أعمالهم وربطها بالحقبة الأولى في مشهد الدخيلة.

اليوم وبعد قرابة عقد ونصف منذ أول مهرجان دخلاوي، لا يمكنني سوى الحديث عنه بصورة نوستالجية. يعود ذلك بنسبة كبيرة إلى أن ذلك النوع من المهرجانات التي يمكن وصفها بالأولد سكول قد اندثرت وغاب حضورها عن المشهد الموسيقي في مصر، وغاب صناع ذلك المشهد عن الصورة إلا من رحم ربي.

ما يبرز هنا عند النظر إلى تلك الفترة في تاريخ مهرجانات الدخيلة هي الحاجة الملحة لأرشفة وتوثيق تلك الفترة بصورة منهجية لأنها تمثل جزءًا مهمًا من تاريخ الصوت الأكثر انتشارًا في مصر على مدار العقد الأخير، والجنرا المصرية الأحق بالأرشفة والنقد والتأريخ.

المزيـــد علــى معـــازف