أصوات الكوكب المحرم معازف موسيقى تصويرية ساوندتراك خيال علمي الخيال العلمي عمر بقبوق
أجنبي جديد

أصوات الكوكب المحرّم | عن تطور موسيقى الخيال العلمي

عمر بقبوق ۲٦/۱۱/۲۰۲۰

منذ نشأة السينما، وقبل أن يخترع البشر أجهزة العرض البصري / الصوتي، انتبه روّاد السينما إلى أهميّة دعم الصور المتحركة بالموسيقى. كلّف إميل رينو، رائد الرسوم المتحركة ومؤسس المسرح البصري الخاص بها، الموسيقار جاستون بولين عام ١٨٩٢ بتأليف موسيقى مصاحبة لما أسماه حينها بـ الإيماءات المضيئة (pantomimes lumineuses) التي يعرضها على الجمهور. حضر جاستون بولين كل العروض ليعزف مقطوعته على البيانو، وعدّلها بشكلٍ حيّ لتتكيّف مع ارتجالات وإضافات رينو على العرض البصري. عام ١٨٩٦، استعان الأخوان لوميير أيام عرضهما الأوّل بعازف البيانو إميل مالفال، ليؤدي موسيقى ارتجالية تغطي على الصوت المزعج الناجم عن حركة جهاز الإسقاط الضوئي، وترسّخ بذلك الأداء الموسيقي كطقسٍ ملازمٍ للسينما منذ البدايات.

هكذا سبقت الموسيقى في حضورها في السينما كلًّا من الحبكة والحوار والألوان والمؤثرات البصرية. خلال حقبة السينما الصامتة، وإلى جانب كسر الصمت والتغطية على أصوات المعدات وهمسات الجمهور داخل الصالة، حدّد صناع السينما دور الموسيقى التصويرية بوظيفتين رئيسيتين: المساهمة في إرساء المناخ العام للمشهد وإعداداته عبر التنويه إلى مكان وعصر الحكاية، ومحاكاة الحالة الشعورية للشخصيات على الشاشة.

شكلت الموسيقى التصويرية تحديًا مربكًا لأفلام الخيال العلمي منذ ولادتها؛ فابتكار موسيقى قادرة على خلق مناخ عام لعصر لم نعشه، ومكان قد لا يكون موجودًا، أمرٌ يتطلب مخيلة من نوعٍ خاص. لم تتّبع أفلام الخيال العلمي الأولى نسقًا واحدًا للموسيقى التصويرية، إذ استندت في الغالب إلى الموسيقى الكلاسيكية، واعتمدت على حركات بطيئة لمحاكاة الحياة على الأرض في زمن صناعة الفيلم، وعلى حركات سريعة لمحاكاة العوالم المستقبلية أو رحلات الفضاء الخارجي. يمكننا ملاحظة ذلك في أول فيلم خيال علمي عرفته السينما، Le Voyage dans la Lune (١٩٠٢)، الذي أخرجه جورج ميليِس وألّف موسيقاه ديفيد غياكشي.

اكتفى مؤلفو موسيقى الخيال العلمي بهذا النهج من التلاعب بسرعة الأداء دون إضافات تذكر حتى عام ١٩٢٧، وبالتحديد حتى صدور الفيلم الألماني مِتروبوليس، الذي أخرجه فريتز لانج وألّف موسيقاه جوتفريد هابيرتز. ابتكر هابيرتز في هذا الفيلم طريقة جديدة في استخدام الآلات النحاسية وإيقاعاتها الحادّة لمرافقة المشاهد الصناعيّة المستقبلية التي حولت الإنسان إلى آلة، وتباينت موسيقى هذه المشاهد بوضوح مع موسيقى مشاهد الحب والحياة الطبيعية التي تعيشها الطبقة البرجوازية. لعب هذا الأسلوب دورًا كبيرًا في تطور الموسيقى التصويرية في الخيال العلمي حينذاك، لنشهد منتصف القرن الماضي محاولات لابتكار آلات موسيقية واستخدام أصوات غير مطروقة في الموسيقى المعاصرة، ولتشكّل هذه الأصوات خامة لخلق موسيقى أفلام الخيال العلمي.

بدأ استخدام الموسيقى الإلكترونيّة في السينما من خلال الثيرمين، الآلة ذات المظهر والصوت المستقبليين التي اخترعها عالم الفيزياء الروسي ليون ثيرمين عام ١٩٢٨. استُخدم الثيرمين في السينما لأوّل مرة عام ١٩٥١، في فيلم الخيال العلمي الأمريكي The Day the Earth Stood Still، الذي أخرجه روبرت وايز وألف موسيقاه برنارد هيرمان. باهتزازاتها واسعة المدى وخامتها الغامضة، صاحبت الآلة عالم الكائنات الفضائية والصحون الطائرة، وشكّلت تضادًا حادًّا مع بقيّة الأصوات الدنيوية المألوفة.

شهد عام ١٩٥٦ صدور أول فيلم يعتمد بشكلٍ كامل على الموسيقى الإلكترونيّة، فوربيدن بلانِت من إخراج فرِد إم ويلكوكس وتأليف الأخوين بيب ولويس بارون. أُطلق على هذه الموسيقى حينذاك تسمية النغمات الإلكترونية (electronic tonalities)، وتضمنت أصواتًا من الطنين والأزيز والنبضات، لتحاكي الطبيعة المستقبلية في العالم الغريب الذي بناه الفيلم؛ والذي يعتبر أول فيلم تدور أحداثه بشكلٍ كامل في الفضاء الخارجي.

كانت تجربة الأخوين بارون كفيلة بتحويل مسار الموسيقى التصويرية لأفلام الخيال العلمي، حتى بات عدم استخدام الموسيقى الإلكترونية فيها شذوذًا عن القاعدة وأمرًا مستهجنًا؛ وهو ما يمكن أن نلمسه في ردود الفعل حول استخدام الموسيقى الكلاسيكيّة في فيلم ٢٠٠١ أ سبايس أوديسي (١٩٦٨).

جرت العادة أن يستخدم المخرج موسيقى مؤقتة خلال تصوير الفيلم ريثما يجري تأليف الموسيقى التصويريّة له. في سبايس أوديسي، مرّ ستانلي كيوبريك على أربعة موسيقيين، تعاقد معهم بغرض إعداد موسيقى تصويرية مناسبة للفيلم، أشهرهم فرانك كورديل، الذي كان مؤلفاً موسيقياً ذائع الصيت في إنكلترا في تلك الحقبة، لكن كيوبريك ألغى كل التعاقدات بعد أن صرّح بأنه يميل لاستخدام الموسيقى الكلاسيكية المؤقتة وأنه يراها مناسبة أكثر. لكن شركة الإنتاج ضغطت على كيوبريك لقبول التعاقد مع ملحن للوصول إلى نتيجة تتلائم مع تكلفة الإنتاج، فوقع الاختيار على ألفرد نورث، الذي كان له تجارب هامة في صناعة الموسيقى التصويرية في هوليوود، والذي ارتكزت مهمته الرئيسية على إعادة ترتيب الموسيقى التصويرية المؤقتة ليحافظ على مقطوعات فالس الدانوب الأزرق وهكذا تكلم زرادشت، التي اختارها كيوبريك منذ البداية؛ ليكون سبايس أوديسي أوّل فيلم خيال علمي يعود إلى الموسيقى الكلاسيكية، بل موسيقى كلاسيكيّة صرفة لا تتخللها حركات سريعة وآلات خاصّة أو أصوات حادّة.

يعود جزء من نجاح سبايس أوديسي إلى استخدامه الموسيقى الكلاسيكيّة في تقديم تصوّر فريد عن رحلات الفضاء، والالتفات إلى الحالات الشعوريّة لروّاد الفضاء الذين يمضون أوقاتًا طويلة في مركباتهم المحاطة بالخواء. رغم ذلك، لم يترك الفيلم أثرًا يذكر على موسيقى أفلام الخيال العلمي في السنوات اللاحقة، ربما باستثناء فيلم كيوبريك اللاحق أ كلوكوورك أورانج (١٩٧١)، الذي استخدم فيه موسيقى بيتهوفن ضمن سياق درامي مستقبلي مشؤوم، إلى جانب الموسيقى التي ألفتها ويندي كارلوس.

رغم غياب أثرها الفوري، مهّدت أفلام كيوبريك الطريق لظهور موجة جديدة من مخرجي وفنيّي الخيال العلمي، الذين اعتقدوا أن إمكانيات الجنرا تتعدى اللعب على غرائبيّة وإثارة المستقبل، وتتيح تقديم إضافات فنيّة خالدة تتجاوز تكنولوجيا عصرها. تعتبر سلسلة ستار وورز (١٩٩٧ – الآن) من أبرز نماذج هذه الموجة، إذ عمل المؤلف جون ويليامز على تقديم ثيمة غير قابلة للاندثار، واختار لذلك توزيعًا سيمفونيًا كلاسيكيًا  يخالف أعراف عصره. أطلق ستار وورز نزعة قويّة لاستخدام الموسيقى الكلاسيكيّة في الخيال العلمي مجدّدًا، حتى صارت هذه التوليفة الأكثر شيوعًا في الألفيّة الجديدة.

فتح هذا التحوّل الباب أمام المزيد من التجريب والاستكشاف في موسيقى أفلام الخيال العلمي. ظهر تيّار في السينما يدعو إلى الاستغناء عن الموسيقى التصويريّة أو استخدامها بشكلٍ تقليلي، وغامرت بعض أفلام الخيال العلمي لاستكشاف إمكانيّات هذه الفكرة، مثل جرافيتي (٢٠١٣) من إخراج ألفونسو كوارون وتأليف ستيفن برايس. كعدّة أفلام خيال علمي مشابهة، لا تحضر الموسيقى بشكلٍ واضح، أو على الإطلاق، في مشاهد الفضاء الخارجي. تنوب عنها أصوات محيطة مزاجيّة أو صمت باعث على التوتّر، يضع المشاهد في مزاج نفسي قريب إلى مزاج الشخصيّات. في العام الذي غابت فيه الموسيقى في جرافيتي، حضرت بقوّة مضاعفة في فيلم خيال علمي بارز آخر، أندر ذ سكين (٢٠١٣) للمخرج جوناثان جلايزر والمؤلّفة ميكا ليفي. ملأت موسيقى ليفي الفراغ الذي تركه غياب الحوار في الفيلم، حتى باتت مساهمة المؤلّفة في الفيلم تكاد تتقاطع مع مجال كاتب السيناريو. نفذت وتريات ليفي تحت جلد المشاهدين، بأصواتٍ بين الهارمونية والناشزة والمعدّلة إلكترونيًا، ومع وَلَعٍ بجعل صوت بعض العلامات الموسيقية تبدو وكأنّها ستستمرّ إلى الأبد.

المزيـــد علــى معـــازف