.
شيئًا فشيئًا، تذوب صور المجازر في تفاصيلنا اليوميّة، لتتحوّل إلى صدًى بعيد لقسوة التاريخ. مع ابتعاد صور المجزرة وغرقنا في التفاصيل التي تليها، تظهر الروايات التاريخيّة من خلال الأجندات السياسيّة، الكتب، الفن والموسيقى لتملأ فجوة الزمن. كل منها يختار انتشال مشهد وصوت مختلف لسرد أحداث المجزرة.
في مقابلته مع قناة الميادين (دقيقة ٥:٥٠)، سرد زياد رحباني تفاصيل من اجتماعات عدّة أطراف سياسيّة لبنانيّة وسوريّة في منزل أهله في الرابية في بيروت، والتي أدّت إلى حصول مجزرة تل الزّعتر. المجزرة التي ارتكبتها بعض الميليشيات اللبنانيّة بحماية من الجيش السوري في آب / أغسطس ١٩٧٦، والتي راح ضحيّتها آلاف اللاجئين الفلسطينيين.
آنذاك، وصف زياد ظروف تأليف لحن مقطوعة تل الزّعتر، إذ كانت الاجتماعات، التي قال بأنّه سجّلها، تجري في الطابق الأرضي الذي يطلّ على المخيّم، بينما بقي في الطابق العلوي من المنزل حيث البيانو، وحيث لا مشهد على المجزرة. إلا أنّه وقت تلحين المقطوعة، اضطّر زياد إلى الانتقال إلى الطابق الأرضي ليلحّنها على الجيتار الذي لا يتقنه، مضحّيًا بالبيانو في غرفته لأنّه أراد المشهد.
ظهر لحن تل الزعتر لأول مرة في مقطوعة سفينتي بانتظاري بعد سنوات قليلة من المجزرة وبرفقة كلمات جبران خليل جبران. رغم عدم ارتباط الكلمات مباشرة بمجزرة تل الزعتر، إلا أنها تتناول قضية الاقتتال الداخلي، مشيرة إلى “الأخوة” مرتكبي المجزرة، بخطاب جبراني إنساني: “ماذا بعد قتال اثنين جبارين؟ رمادٌ، دماءٌ، رمادٌ حيث الحصادون، دماءٌ حيث الفلاحون، وحيث مكان لحبيبين، تلقى بقايا جنديين، لماذا؟ لماذا والأرض لكم؟ الأرض لنا؟ الأرض لكم، الأرض لنا، وأنت أخي، لماذا إذًا تخاصمني؟ أنا لا أسمع، وأنت لا ترى وبنا شوقٌ ليدرك بعضنا الآخر، فهذي يدي، هات يدك.”
أعاد زياد تقديم ذات اللحن، بعد ثلاثين عامًا في اسطوانة فيروز إيه في أمل (٢٠١٠) من خلال دمجها مع مقطوعة سياسيّة أخرى: MEA. هذه المرة أشار زياد إلى المجزرة بشكل مباشر من خلال عنونتها: تل الزعتر، وتركها دون كلمات مرافقة، أي عمل آلي.
تشكّل معزوفة تل الزعتر لحنًا يتكرّر عدة مرات من خلال توزيعات وعوامل مختلفة في كل إعادة (Variation). رغم أن المقطوعتان، تل الزعتر وMEA، منفصلتان بشكل واضح، إلا أن اختيار مقطوعة ذات إيقاع راقص، مشبعة بهتفات البوق والدراما الموسيقيّة من خلال النهايات الوهميّة لتأتي بعد ألحان المجزرة – تفرض تغيير مزاج حاد. يُطرح السؤال نفسه – هل هناك رسالة أمل؟ أم أنّها ببساطة اختيار موسيقي، فلحن المجزرة، كاستعادتها، بات جزءًا من سياق أوسع يضم العديد من المزاجات.
عدا مقطوعة زياد، أُلفت معزوفات وأغانٍ عدة بعنوان تل الزعتر تعيد تجسيد سؤال: مالها والمجرزة؟ من ضمنها أغنية شهيرة للشيخ إمام، كلمات بيرم التونسي والتي تصف المجزرة كقصة عليها إجماع، قصة يتناولها الجميع: “يا حكاية كل الناس، من قلب الناس للناس”. رغم مخاطبة المجزرة وأهل تل الزعتر على مدار كل الأغنيّة، إلا أن ذكر تل الزعتر المباشر يحدث مرة واحدة في نهايتها: “يا أشرف جرح، وأوجع جرح، وأطهر جرح، فقلب الناس، يا تل الزعتر.”
تخاطب الأغنية ناس تل الزعتر وتتعامل مع المجزرة بصوت جماعي متألم وبإجماع: “يا حبايبنا، فين وحشتونا، لسه فاكرينا، ولا نسيتونا، دا احنا في الغربة، م الهوى دبنا، وإنتوا في الغربة، أوعوا تفكروا، إننا تبنا، مهما فرقونا، ولا بعدونا، يا حبايبنا”؛ ويبدو أن هناك محوران في الأغنية: الأول يخاطب المجزرة واصفًا إياها بالجرح والأمل الطاهر، أما الثاني فيخاطب أهل تل الزعتر مؤكّدًا، أو لربما آملًا في خلود ذكرى المجزرة. سويًا يعبّر المحوران عن مشاعر الحزن والدّعم، ليولَّد بذلك خطاب يقصي وبشكل تام السياق السياسي للمجزرة، وبالتالي يغيّب الحقائق، التفاصيل والأسئلة حولها. إلى جانب هذا الفراغ، تُذكر تل الزعتر مرة واحدة وكأن اسم المجزرة يقع، لبشاعتها، ضمن المحرّمات. قد يملأ هذا الحزن الجماعي حاجة اجتماعيّة، لكنه في ذات الوقت يموّه سياق الحدث، وحقيقة أن مرتكبي المجزرة هم “مننا”، وقد يتواجدون في الطابق السفلي من البيت في حالة زياد. من الناحية الموسيقيّة، كجميع أغاني الشيخ إمام، تعتمد الأغنية على مبنى شعبي وأداء بسيط، والذي يتماشى مع الخطاب المطروح في الكلمات ويبرزه. تجدر الإشارة إلى أنّه رغم الطابع الشعبي للأغنية، إلا أن الجمهور الأساسي لأغاني الشيخ إمام في فترة حياته كان في الأساس دائرة المثقفين في مصر.
في المقابل ظهرت في السنين التي تلت المجزرة عدة أغانٍ ذات خطاب سياسي واضح. ثلاثة أمثلة لهذا النوع هي: أغنية تل الزعتر لـ لفرقة الكوفية (تبدأ الأغنية في الرابط في الدقيقة ٣:٢٠)، أغنية تقدمها الفرقة المدرسية أسعاد الطفولة، وأغنية وليم نصار تل الزعتر.
تقدّم أغنية فرقة الكوفيّة خطابًا سياسيًّا واضح المعالم، ابتداءً من التعامل مع المجزرة كتمرّد ضد الاستعمار، وبالتالي بدلًا عن “الجرح الطاهر” تتحوّل المجزرة إلى “ثورة ضد الاستعمار” و”سيف في قلب الرجعيّة”. كما تستمر الأغنية في ذكر جميع الأعداء: الاستعمار، الصهيونيّة، الرجعيّة العربيّة، القتلة، المجرمين والسفاحين. خلافًا عن أغنية الشيخ إمام، تقدم الأغنية جوقة جماعيّة ويتم تكرار “تل الزعتر” في كل جملة، ما يعزّز طابعها العسكري. كما تحوّل جميع هذه العوامل المجزرة إلى معركة ضمن نضال أوسع مستمر، وإلى دافع لاستمرار المقاومة.
أغنية أخرى ذات ملامح عسكريّة حماسيّة، لكن أقل حدة، هي أغنية ذات لحن شعبي للفرقة المدرسيّة أسعاد الطفولة. تظهر هذه الملامح موسيقيًا من خلال الجوقة ودور الآلات الموحّد. تمثّل مجزرة تل الزعتر هنا التاريخ الدامي للنضال والذي يذكّر المستمعين بواجبهم في دعم الثوار واستمرار النضال: “لأكتب قصيدة من دمي، من تل الزعتر، يا ناس، لاكتب لكل الثوار، من دمي، ومن إيدي، من تل الزعتر يا ناس”.
أمّا الأغنية الثالثة، والتي يعيد وليم نصّار توزيعها، فتلمّح إلى خطاب سياسي شيوعي: “ويحيل ظلام الوحش نهارًا من ألغام تتفجّر، وتسيل دماء رفيقي شرارًا، تهتف للعلم الأحمر، يا تل الزعتر”. وموسيقيًا فهي تندمج بسهولة مع أغاني المغنيين المحسوبين على اليسار في لبنان كأغاني خالد الهبر وغيره.
لعلّ الحاجة الاجتماعيّة لهذه الأغاني تتمثّل بكونها أدوات تعليميّة تثقيفيّة، وطريقة لاستقطاب الجماهير للأطر الوطنيّة المختلفة. فتظهر فيها المجزرة كرمز لحدث مؤلم وسببٍ لاستمرار النضال. وبالتالي لا يتعلّق موضوع الأغاني بالمجزرة بحد ذاتها، رغم أنّها الحدث الوحيد المذكور (ربما لمدى بشاعتها)، بل بالخطاب السياسي المطروح الذي يستخدم تل الزعتر كدافع ومرجعيّة للنضال.
نوع آخر من الأغاني يظهر من خلال أنشودة زجل (يبدو أن التسجيل مأخوذ من فيلم). فخلافًا عن الأغاني الأخرى، تقدم الأنشودة تفاصيل أحداث المجزرة، معتمدة على التجارب والأحاسيس الشخصيّة. تذكّر طريقة سرد الأحداث في الزجل بأغاني الانتفاضة الأولى التي توثّق أصغر تفاصيل الحدث. لعلها وسيلة للتعبير أو طريقة لإبقاء الذاكرة وتوثيقها أو حتى حاجة نفسيّة، فالمجزرة هنا هي عبارة عن تفاصيل وأحداث وأسماء وأيام:
من أول القتلة في القذيفة كنت أنا بالمعركة موجود
أول يوم ٢٠ ألف قذيفة نزلت عَ الأهالي وعلى الجنود،
وثاني يوم ١٥ ألف قذيفة على المخيم تشوف الحوارق والدخان صعود،
وثالث يوم خَفَّت شوي لكن ما وقفوا لاستراحوا لردود
إضافة إلى ذلك، هناك تطرّق للتجارب الشخصيّة من جوع وخوف على المفقودين، تلك التي يعرفها فقط من يعيش تفاصيل المجزرة:
إحنا شهرين عشناها بالمعارك وصارت قلوبنا من حجر جلمود،
تنكة مي من صبحية للعشية والزاد صار عنا مفقود،
جف لسان الطفل من العطش ويقول يا بي لأموت وعاد هو من الصبح بيعود،
والولد عند الصبح يسأل وين بيّ، يجاوب المسؤول أبوك مفقود،
والبنت تسأل أمها وين خيّ، قالتها بالمتراس موجود، بدافع عن الشرف…
عند نهاية الزجل، يسرد المغني قصته الشخصيّة، الأشخاص الذين فقدهم هو، والأمل المتبقي بأن يعودوا. تتميز الأنشودة بالبساطة وبالتفاصيل وبعدها عن الأدلجة والشعارات السياسيّة، حتى أنّه في المرة الوحيدة التي يذكر فيها التيارات السياسيّة، يصوّرها موحدّة، وكذلك التجربة الناتجة عن هذه الأحداث كالشعور بالفقدان، والذي يتمثّل بذات الحزن والأمل الجماعي في المخيم:
يحيى فتح وفوزي ديمقراطية، اتنيناتهم تقول جوز فهود.
طلعوا بالجبل ما عادوا علي ومن يومها انا حزنان مكموت،
يا رب يا رحمن تردهم علي وترد كل غايب لأهله يا معبود
إضافة إلى توظيفات الزجل المختلفة، كالتوثيق والحاجة النفسيّة، تظهر جمالية التفاصيل بقدرتها على الحفاظ على جدليّة مع الواقع. فخلافًا عن أغلب الأغاني التي ذكرت سابقًا، يظهر الزجل كأكثر مقطوعة أمينة للحدث، حيث تخلق تفاصيل المجزرة المقطوعة الكاملة وليست بمتغير.
ما بين الخطاب السياسي، الأغنية الحماسيّة، الذكرى الحزينة والألحان الآليّة تكمن ماهية تل الزعتر. وكل أغنية منها تضفي على تل الزعتر بعدًا آخر، لتشكل سويّا محاولة لخلق ذكرى جماعيّة وإن كانت الأسباب مختلفة. أغلب الأغاني لا تتعامل مع المجزرة كذكرى فحسب، بل على أنّها قضية ما زالت راهنة، تحدث وتؤثّر على الحاضر، فرغم ذكر تل الزعتر في جميع الأغاني، إلا أنّها ليست محصورة فيه، حيث تتلاعب أغلبها بمحاور الزمن والعوامل المؤثرة، محوّلة تل الزعتر إلى ترجمة وتجسيد للقضية الفلسطينيّة.
أمّا الصوت الذي تبثّه هذه الأغاني فيختلف هو الآخر من أغنية لأخرى: ففي أغنية مدرسة أسعاد الطفولة، الشخصية البارزة هي الفدائي الفلسطيني والذي يمثل النضال الفلسطيني المستمر. بينما في أغنية فرقة الكوفيّة، فتل الزعتر هي البوصلة التي تستخدم كتذكار للحدث، أما الصوت البارز فيتمثّل في أجندة تحرير الإنسانيّة من ظلم الاستعمار. تقدم مقطوعة الشيخ إمام تعبيرًا عن أحاسيس وآلام جماعيّة، أما الزجل فيقدم صوت من عاش المجزرة، صوت الفرد الذي يصب في المجموعة – أهل المخيم. بينما المشترك لجميع هذه الأغاني فهو غياب “العدو”، غياب مرتكب الجريمة. حتى في المرة الوحيدة التي يتم فيها التنويه إليه، في أغنية فرقة الكوفيّة، فالعدو هو نظري وضبابي: “الاستعمار والرجعيّة العربيّة”. قد يخيّل أن السبب هو الاقتتال الداخلي، ولكن لدى مراجعة أغانٍ فلسطينيّة أخرى، نجد أنها تعكس ذات الوضع، فعلى سبيل المثال وليس الحصر أغاني الرحابنة: سيفٌ فليشهر وأغاني القدس، لا يوجد ذكر لمن هو العدو، ما يبقي هذا السؤال مفتوحًا، ويبقي العدو متواريًا.
قد يعكس الاختلاف في خطاب أغاني المجزرة تعدد سبل التعامل مع واقع القضيّة الفلسطينيّة. كما يعكس الحاجة النابعة عن الوضع الراهن عوضًا عن الميل إلى تدوين وتوثيق أحداث “الماضي” فقط (ما عدا أغنية الزجل)، ما يؤدي إلى رسم ماضٍ معين ينتج تصور لحاضر جديد.
لا تتميّز أغاني مجزرة تل الزعتر باختلاف الخطابات، بل على العكس: بقي كل مغنٍّ وفرقة ضمن خطاباتهم وأنواعهم الموسيقيّة الاعتياديّة، حتى أنّ تفاصيل المجزرة اختفت في عدد من هذه الأغاني دون أثر، ما قد يعكس تباينًا بين معظم هذه الأغاني وخطاباتها الثابتة من جهة، وبين الواقع المتغير الذي قد يصل إلى أبشع أشكاله من جهة أخرى.
أما القاسم المشترك لهذه الأغاني فهو التعبير عن الحزن والألم من ناحية، وعن حاجة دعم الثوار وضرورة الاستمرار: “أوعوا تفكروا، إننا تبنا، مهما فرقونا، ولا بعدونا، يا حبايبنا.”