فين العصابات والجانجز | عن ميشو سلسة

بدأتُ سماع الراب عام ٢٠٠٩، ووصلتْ المهرجانات إلى قائمة أغانيّ اليومية أواخر عام ٢٠١١. طوال تلك السنوات وحتى الآن أراهم الطالب الصايع بتاع المشاكل؛ إما يلتف حوله المعجبون محاولين محاكاته، أو يراه الدحّيحة خائب الرجاء، يستنكرون تصرفاته، ويقلدونها ويسخرون منها في قوالب منمطة. لمدة عشرة أعوام من صعود المهرجانات، ثم عودة الراب إلى الصورة بأشكال جديدة، لم تخرج البرامج المتناولة لهما سواء الجادة أو الكوميدية عن تصوري المدرسي؛ إما لأن الثقافة الخاصة بالطبقات الاجتماعية المصنعة للمحتوى، الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة، تفرض عليها رفض ثقافة الطبقات الأدنى، ورفض وجودها من الأساس أحيانًا، بوعي أو بدون، أو لأنهم بالفعل متبنين منهجية تفكير كلاسيكية.

منذ شهر تقريبًا أعلن المنتج الموسيقي رامز نجيب، مؤلف موسيقى إعلانات وأفلام وثائقية، إلى جانب إصداراته الخاصة، عن إطلاق أول حلقة من برنامج ميشو سلسة، ضيفها الرابر مستر كوردي، من تأليفه وإخراجه. خطوةٌ سبقها فيديوهان على صفحة البرنامج على فايسبوك منذ شهرين لدمية بشعر كيرلي تضغط على مفاتيح البيانو بشكل عشوائي. بمرور شهر صدر من البرنامج على يوتيوب ثلاث حلقات لا تتعدى كل واحدة منها ربع ساعة، والضيوف هم مستر كوردي، دابل زوكش، وباتيستوتا بالترتيب.

يقوم البرنامج على الدمج بين الأسئلة الجادة والساخرة، بطله ميشو سلسة الذي يستضيف رابرز في كشكه البسيط، المزيّن بملصقات إعلانات منتجات المياه الغازية، والشيبسي المنتمية إلى التسعينيات والثمانينيات. داخل الكشك هاتف منزلي تقليدي، وثلاثة مايكات، وبالطبع السلوجان الأهم: “مين عايز همبرجر؟ ومين عايز سوسيس.”

بالاعتماد على الدمية ميشو سلسة التي تستمد اسمها من أحد الألقاب التي انتشرت أوائل الألفينات، بالإضافة إلى الرقصة المشهورة في أوساط الطبقة البرجوازية في تلك الفترة أيضًا، السالسا. يقدم رامز نجيب تركيبة جديدة تجمع بين أسلوبَين: يشبه الأوّل برامج مذيع الشارع التي انتشرت لأول مرة على يد شادي أبو زيد، مراسل برنامج أبلة فاهيتا في فقرته الثابتة فيه، وتعتمد على مجموعة من الأسئلة العشوائية في قضية أو موضوع ما، يمكن من خلال الأجوبة تحديد وجهة نظر واضحة حول الموضوع أو القضية المتناولة. يذكّر الأسلوب الثاني ببرنامج المقالب حيلهم بينهم الذي قدمه الممثل عمرو رمزي في بداياته، ويعتمد على طرح أسئلة تبدو محايدة وناقدة، الهدف منها استفزاز الضيف وإخراجه عن شعوره بالسخرية المبطنة أو ما يعرف بالـ roasting (الهجاء). 

من خلال تلك التركيبة، استطاع ميشو سلسة أن يقدم لنا صورة مركّزة لبعض الجوانب في شخصيات الرابرز الضيوف، والتي تقدم على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لكن بشكل عشوائي.

على مستوى المظهر الخارجي، يذاكر ميشو ضيفه ويحاكيه، فيرتدي تي شيرت باتيستوتا لاعب الأرجنتين مع باتيستوتا، ويرتدي نظارة شمس في حلقة مستر كوردي، ويحرص في كل الحلقات على الحفاظ على إكسسوراته من سلاسل وخواتم فضية سميكة. أما على مستوى الحوار فميشو لا يأتي بخلفية أو حكم مسبق، يتفاجأ بضيوفه تمامًا مثلنا وهو جالس في كشكه يدندن، ومع تبادل الحديث يتفاعل معهم بلغة تمزج بين مصطلحاته ومصطلحاتهم، دون الدمج بينهم، فنجده يعبر عن استغرابه من بعض مصطلحات الضيوف بالرد الاستنكاري: “مالك!”، “إنت كويس؟”، ثم ينتقل فجأة إلى المحاكاة بجمل مثل: “إيه يا زميلي؟”، “جامد”، “فين العصابات والجانجز بقى؟” كما يتبادل مع الضيوف حالة المبالغة، ليصبح هو الشخص الأوفر في المعادلة؛ ما يكسر الصورة النمطية للرابرز كأشخاص مزيفين أو مبالغ فيهم، ويطرح وجهة نظر أخرى مفادها أنه قد تكون ردود أفعالنا المتطرفة تجاه كل ما هو مستغرب هي الأساس في فعل الاستنكار.

نتعرف على الضيوف وثقافتهم من خلال فقرات الحلقة الأربعة: سحب ميشو سلسة اليومي وماسا لو؟ وفريستايل وتراكاية. 

الأولى يختبر فيها ميشو لا وعيهم بذكر كلمات يرد بها الأخير بما يأتي في ذهنه، الثانية يعرضون فيها تصورهم عن موسيقاهم لو كانت في عصر آخر شهد زخمًا وازدهارًا للموسيقى المصرية، مثل فترة أم كلثوم، الثالثة يختبر فيها قدرتهم على الارتجال. في الرابعة جانب ترفيهي يكشف عن ميشو سلسة، وهو أداء أحد أغنياتهم لكن بريمكس ميشو، الذي يميل فيه أداؤه إلى طابع راب الأولد سكول. يساهم الاعتماد على الرتم العشوائي لأسئلة تلك الفقرات، بالإضافة إلى الإضافات الارتجالية، في توضيح تفاصيل عن الشخصيات المشاركة، مستر كوردي الذي لا يحب الرجال الباكين، والزوكش الذي قضى طفولته في لعب الجاتا وقتل كل من في الديسكو.

القسم الثاني الأهم، والأكثر جاذبية، هو القسم الساخر. كوميديا خفيفة الظل وحياديّة، دون هجوم أو سخرية. أسئلة وتعليقات تلقائية تخرج بالمحتوى من فكرة بروزة الرابر. يداعب ميشو ضيوفه من خلال استعمال الكلمات مزدوجة المعنى أو التنمر أحيانًا، فيرد على باتيستوتا الذي يتباهى بملابسه أمامه: “دي من الوكالة سيتي؟”، أو بسؤاله الثابت في فقرة ماسا لو: “ماذا لو كنت ناجح؟”؛ وهي المساحة التي تساهم فيها حركة الدمية، وحجم اللقطات القريبة والمتوسطة في إضفاء الترقب، معوّضةً غياب العامل البشري. هناك أيضًا مقاطعة ميشو لضيوفه وهم يجيبونه، أو الانتقال المباغت بين الأسئلة الشخصية والأسئلة المتعلقة بالراب.

للأسف لا تقدم برامج السخرية المعتمدة على الهجاء أو المعروفة بمصطلح الـ Roasting shows في المنطقة كثيرًا، نتيجة عدم تقبل الجمهور لفكرة النقد الحاد. خلال السنين الماضية ربما حيلهم بينهم هو أكثر البرامج شهرة وانتشارًا وإثارة للجدل، لكنه برنامج مقالب، لا يعرف فيه الضيف المحتوى الحقيقي قبل التصوير. لذا أتى التقديم بدمية لتخفيف حدة الفكرة على المشاهد، لكن في مساحة مثل الراب والمهرجانات، حيث صعد نجومها وصعدت معهم الانتقادات الحادة في الأساس. ستحقق برامج مثل ميشو سلسة نجاحًا وانتشارًا كبيرًا وتنشر ثقافة هذه النوعية من البرامج. إذ يرى الجمهور في الفنان صايعًا مزيفًا تأتي قوته من وجوده وحيدًا أمام الكاميرا، ويظل يتعامل معه من ذلك المنظور، حتى يثبت العكس. وجود صايع آخر يقابله، خاصة لو كان دمية، في حد ذاته جذاب. 

لذا في ثقافة عامة لم تستوعب بعد الراب، يمكن تسويق الرابر بردود أفعاله وسرعة بديهته، وكما يقول شاهين: “الراب شخصية”. أيضًا، يحتمل كسر الحاجز أو الاستغراب العديد من طرق التطوير؛ مستثمرين في الميراث الثقافي المصري المرتبط بالدمى، والذي أنعشته أبلة فاهيتا في برنامج الدوبليكس. يمكن مثلًا إضافة مشاهد لريآكترز في غرفة أخرى يتفاعلون مع اللقاء، مثلما يحدث في فيديوهات الإنجليزي شانكز على قناته على يوتيوب. أو أن يتواجد جمهور كزبائن للكشك، أو أن تصبح منطقة الكشك جزء من مسرح مدرجات للمشاهدين، بحيث تساهم ردود أفعالهم الحية في إعطاء المزيد من الروح للحلقات.