.
عاد أحمد مكي بعد انقطاعٍ غنائيٍ طويل بأغنية وقفة ناصية زمان. خلال يومٍ واحد تقترب الأغنية المصورة من تحقيق مليوني مشاهدة، بعد أن أصبحت أكثر المواضيع تداولًا على الشبكات الاجتماعية في مصر. حاولت الأغنية إرسال رسالة حنان وتقدير للأحياء الشعبية المصرية، الطالبية في هذه الحالة، متذكرةً نسختها الأقدم بخمس عشرة إلى عشرين سنة. لكن الرسالة التي انتهت الأغنية والفيديو المصاحب لها جاءت بغير ذلك.
قال مكي في مقابلة: “وقفة الناصية زمان كانت مدرسة، أما الآن تخاف تقف على الناصية، وتعلمت تربية الحمام من سوق على ناصية الشارع، وكنا نشعر بالعزوة والآن تغير الأمر.” هذا يعني أن مكي لا يزال يعيش في الطالبية اليوم ويلمس التغيرات الدقيقة التي تطرأ على المدينة وأهلها. صعب هالشي ينبلع معنا، لكن ما علينا.
المشكلة هي أن مكي عندما يصل إلى فردوسه الماضوي، يبدأ باستنكاره ومحاولة التنصل منه. يقول إنه أراد “تقديم واقع حقيقي وليس مزيف” ربما في إشارة إلى الشارع المحفَّر الوحيد الذي نراه في أوَّل الأغنية، ومشهد شجار جسدي عابر يظهر بعده بقليل، وكأنه يقدم لنا الواقعية فض عتب. لكننا عدا عن ذلك، نرى معظم الشوارع معبدة ومبلطة، الجدران والملابس مبهرجة ملونة كأن كل يومٍ عيد، الشباب الذين يتسكعون على أسطح البنايات حيث يربى الحمام يبحثون عن فتاة تواجه مشكلة لينقذوها منها. الفتاة نفسها تبدو كشخص لم يدخل حيًا شعبيًا في حياته قبل تصوير الفيديو. في نهاية المطاف نكتشف أن الفيديو لم يصوَّر في الطالبية من الأساس، بل في الحطابة ومصر القديمة والحسين، بعد أن تم استخدام فناني جرافيتي لتلوين المنطقة. لكنه عمل فني، والمصداقية ليست المعيار الذي نبحث عنه.
لكن مكي لا يكتفي بالاستعارة من الكليشيهات الأخلاقية والقيمية للماضي الجميل، بل يستورد صورًا نمطية من الخارج أيضًا. قد نسكت عن فلسفة النسخ / لصق التي تبناها الفيديو في إقحام مشاهد معهودة في أغاني الراب المصورة من التسعينات وأول الألفينات. لكن أن يفرد مكي قميصًا أبيض كتب عليه: “أنا (قلب حب أحمر) الطالبية”، وكأنه في بلدة ساحلية سياحية أو عائد من جولة المعالم البارزة في نيويورك، كثير هيك. بس برضه، ما علينا، لو كانت الأغنية جيدة لن يكون عندنا مشكلة في كل هذا.
المشكلة، هي أن الأغنية، كأغنية راب، سيئة. منقطعة موسيقيًا عن كل ما يجري ليس فقط في العالم، بل في القاهرة أيضًا. هي أغنية قد تكون لا بأس بها في أول التسعينات، عندما كان العالم يتعلم صف البارات. أما الآن، في خضم كل ما يحدث في الراب في مصر وتونس ولبنان وفلسطين، يصبح ما يفعله مكي هنا جريمة في حق من يحب الراب. الراب الذي اختاره مكي جثثي، قوافيه متوقعة وتدفقه عجوز فاقد للديناميكية. أما كلمات الأغنية فهي صف حكي، لا تقدم سردًا غنيًا بالصور ولا تغوص في اللغة لتكثِّف المعنى، كل ما تقوم به هو تثبيت القوافي. يسند كل هذا مزيج من إيقاعات الطبول والبايس المتثائبة، وتقنيات سامبلنج بدائية تستخدم عينات موسيقى شعبية لتوافق موضوع الأغنية، وتستوطن قشرة قالب الراب وكأنها موسيقى مزج.
لذلك، فلن نتسامح مع مكي في مضمون الأغنية. في فقر فني كهذا، كان يجدر بمكي أن يكتب مقالاً أو يتصل للإدلاء برأيه على برنامج تلفزي. سيتضح حينها أن مكي نفسه ليس فاهماً ما يود قوله. هل الأحياء الشعبية مريعة بالنسبة له لدرجة أنه يضطر إلى تزويقها بكل هذه المبالغات والمواربات حتى يستطيع تقديمها؟ هل ما نراه هنا هو رسالة سياسية مبطَّنة لمصر الأمن والأمان ما قبل ٢٠١١؟ رسالة قد لا تكون مجرد صدفة أنها صدرت مع اقتراب الانتخابات، لتحاول تأسيس نظرة رافضة للحاضر، نظرة تعيد ترتيب الأولويات لتضع الأمن والأمان على رأس القائمة؟ أم أنها ببساطة نتاج فنان استسهالي وكسول، يعجز عن رؤية الجمال الحقيقي الذي تذخر به هذه الأحياء، الجمال الذي صار لنا ثمان سنوات على الأقل نسمعه في المهرجانات مثلًا، فيقوم تداريًا لعجزه بحشد جمال مبتذل بلاستيكي. لو كانت هذه الحالة، فعلى مكي أن يعرف أنه بدخوله حيًا شعبيًا في القاهرة هو يدخل بحرًا غنيًا بالثروات، وأن عليه أن يحاول اصطياد هذه الثروات، لا تحلية المياه.