.
في الذكرى السابعة لوفاة نجيب محفوظ، تنشر معازف هذا الحوار المطوّل الذي ظهر في مجلة “فن” في 11 تمّوز/ يوليو ١٩٩٤.
حاوره: محمّد الدسوقي.
الدسوقي: أستاذنا، أعرفك سميعاً من الطراز الأول، تعشق أم كلثوم وعبد الوهاب وتطرب لعبد الحليم حافظ. من باب العلم بالشئ استمعت إلى كل الأصوات التي شدت والتي نشزت أيضاً. وعبر إبداعك الأدبي عرفنا كيف كان الغناء في الماضي، وعلى الرغم من أنك تعرضت في أعمالك الأخيرة للحادث الآن غنائيا، إلا أنني سوف أسألك ومباشرة، عن الواقع الغنائي الحالي وسيطرة أصوات وكلمات أقل ما يمكن أن نصفها به هو بأنها.. رديئة، ونماذج الرداءة كثيرة؟
محفوظ: صدقني إذا قلت لك ان ما تسألني عنه شئ صعب جدا. فأنا كلما “أسمع” أرى أن الواقع الغنائي الآن أوراقه مخلوطة تماما. وعن الإسفاف والهبوط بالكلمة واللحن فحدّث ولا حرج! فالهبوط والإسفاف أكبر وأكثر من الإجادة، والخريطة الغنائية اليوم لم تعد خريطة بل صارت هيصة ولذا فهي في حاجة إلى فض إشتباك بعدما أختلط فيها الجاد والهزلي واللامعقول من الغناء … الترفيهي. لقد أختل التوازن فطغى اللامعقول والهزلي على الجاد في الكلمة واللحن والأداء، فبدا الأمر وكأننا في مباراة للإسفاف. من يهبط أكثر ومن يقل كلاماً أغرب وأردأ وأهيف.. يكسب. فكلما صفت كلمات لا معنى لها، كلما … عليها المغنون والناس وأذاعها التلفزيون بكثرة، وبالتالي زادت مبيعاتها وكسب أصحابها من ورائها الملايين. هذا هو الواقع الغنائي اليوم: كلما كنت غريباً وغير مفهوم، كلما كنت ناجحاً.
الدسوقي: أرى أنك وضعت يدك على الجرح تماماً، اختصرت الطريق ولكنك لم تتوقف أمام الأسباب التي هبطت بنا من القمة، قمة “جبل التوباد” و“الأطلال” و“أقبل الليل” إلى السفح.. سفح “اللي عايزني يجيني” و“شعللها شعللها..ولعها ولعها. وراك وراك مطرح ما تروح وراك“.. وحتى “حرمت أحبك ما تحبنيش” ؟
محفوظ: لم أتوقف لأنه لا توجد أسباب كما تقول، ولكن سببا واحدا فقط وهو عدم التوازن بين الجاد والهزلي من الغناء. أنظر إلى من كان يكتب الأغنية في الماضي ومن كان يلحّن ويغني، وأنظر إلى من يفعل ذلك الآن، فسوف تصاب بالدهشة. كما تقول أنت: الأغنية الجادة في غرفة الإنعاش، بينها وبين الرحيل خطوة، في حين أن الأغنية الهابطة في الصدارة.. وكي تعود القمة..قمة، والسفح.. سفحاً كما كان الأمر في الماضي، لابد من إخراج الأغنية من غرفة الإنعاش أولًا.
الدسوقي: عبر أي باب يمكننا أن نخرج بالأغنية من غرفة الإنعاش هذه؟ باب الكلمة أم باب اللحن، أم باب الصوت القوي الجميل؟
محفوظ: الأصوات القوية والجميلة كثيرة ولكنها تقول أغاني “هلس“..!! لابد من أن يكون هناك فكر غنائي أولاً، ممثلا بكلمة جميلة جيدة ولحن أكثر جمالًا وتعبيراً وصوت يحمل الكلمة واللحن إلى الأذان والقلوب. لقد كان عدوية صوتاً قوياً وفيه شجن، ولكن ماذا غنى؟ “سلامتها أم حسن” “قرقشندي دبح كبشه” “سيب وأنا أسيب” ، “رحنا السلاملك قالوا في الحرملك“. الأغنية ليست صوتاً جميلًا فقط. إنها مجموعة أشياء. وهي الآن بحاجة قوية إلى الكلمة الجميلة والصوت القوي، وأهل موسيقى وتلحين يؤمنون بالهدف والرسالة وليس مجرد الإيمان بالثراء والغنى فقط. ولو أن هذا حدث.. فسوف يُعاد ترتيبب الأوراق المخلوطة وتتم إعادة الجيد من الغناء إلى الصدارة والريادة. لابد من الإيمان بالهدف والرسالة!
الدسوقي: وهل هذه ممكن الآن أستاذ نجيب؟
محفوظ: ممكن جداً، فلا اعتقد أن التيار جرف الجميع. لابد من أن يكون هناك من يحمل الراية عالياً في أثناء الطوفان. نحن الآن في زمن الطوفان الغنائي ولكن أين هذه الراية؟ دعنا نبحث عنها ربما نجدها.
الدسوقي: من المؤكد أن بحثنا سيطول جدا فالطوفان هادر والرداءة تيار مكوّن من أصوات مخنئة وألحان مسروقة ومهجّنة وكلمات لا معنى لها. وإذا كان لكل عصر من العصور إفرازاته التي تشير إليه، فأنا أعتقد أن “الانهيار الغنائي” هو إفراز هذه العصر الذي يميزه ويشير إليه.
محفوظ: صحيح.. ولقد علمنا التاريخ أن مقياس ازدهار أو انحطاط عصر من العصور هو الفن.
الدسوقي: أي فن بالضبط أستاذ نجيب؟
محفوظ: إذا كنت تريدني أن أقول فن الغناء أو فن الشعر فقط من دون باقي الفنون فهذا تعسف من جانبك ومن جانبي إذا وافقتك. لأن الفن كل لا يتجزأ. أنت تكلمني عن الغناء والكلمة في الغناء. وهذا شئ أشبه بالوقوف في مكان ضيق جداً، لأنك كي تحكم على عصر بأكمله فلابد من أن نرصد كل فنونه. الغناء في الصدارة.. لا مانع ولكن لا بد من التوقف أمام الشعراء، الأدب، المسرح والسينما لأن كل هذه قنوات تعبير فنية تأخد من الشارع وتصب فيه مرة أخرى. الفن وفي أبسط تعريف له، هو مرأة للواقع، والمرآة لا تكذب ولا تزيف ولا تزور في الواقع أبدا. انها تنقل الحادث أمامها بالضبط. وبنظرة موضوعية إلى التاريخ، ووقفة أمام النهضات الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى الان، سوف نجد أن المؤرخ الوحيد الباقي هو الفن ولا سواه. مثلا.. مجد أثينا نجده ممثلًا في أشعار “هوميروس وسوفوكليس” وفلسفات ” أبيقور وأرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط” وغيرهم. وإذا أخذنا ثورة يوليو، ماذا بقى شاهداً عليها حتى الان؟ السد العالي وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل ومحمد الموجي. أي أن الفن هو ما خلد ثورة يوليو.
الدسوقي: اليوم.. وأنا أستمع إلى كلمات أغان من عينة “يا بنت الايه ضحكتك تساوي ألف جنيه” و“محتاجلك اه..بحبك لأ” و“أيوة بشتاقلك ساعات” و“جرب نار الغيرة” و“حرمت أحبك” و“أموت في دباديبو” و“الحلو ..لو..لو..لوعني..وفي حبه تو..توهني” و“الواد ده حلو سابق سنه” وغيرها من الأغاني، أشعر أن فترة مهمة جدا من عمر الغناء العربي تم إنتزاعها ورميها تحت الأقدام. وهي فترة أم كلثوم وعبد الوهاب، ثم عبد الحليم وجيله الذهبي. نشعر أننا عدنا إلى الأغاني التي رصدتها في أعمالك الأدبية الجميلة، والتي أبرز ما فيها هو تدهور معاني وكلمات الأغاني التي كانت سائدة قبل ظهور أم كلثوم المفاجئ في سماء الأغنية، وهي الكلمات التي جاءت على لسان أبطال الثلاثية الجميلة؟
بهدوء استمع ثم سألني:
محفوظ: مثل ماذا بالضبط الكلمات التي تقصدها؟ أنا أسألك لأنني أخاف أن تظلم كلمات الزمن الماضي وغناء الزمن الماضي، لأن ما ذكرته أنت الأن من كلمات لم يصل إليه الأولون لقد منعهم الخجل من قوله.
الدسوقي: في الثلاثية سوف نجد للطرب والغناء مكانة مهمة وبارزة جدا..إنها رصد للتاريخ والسياسة والاقتصاد والغناء. ففي كل جزء من أجزاء الثلاثية كانت هناك مقاطع من أغانٍ يرددها أبطال العمل الأدبي. وتلك المقاطع الغنائية كلماتها تخدش الحياء كثيرا. وعلى الرغم من ذلك كانت تتردد في بيوت السادة والبسطاء, مثل أغاني “فاكر يوم ما عضتني العضة” و“يا بو الشريط الأحمر ياللي أسرتني..أرحم ذلي” و “خدني في جيبك بقى..بين الحزام والمنطقة وحول من هنا .. وتعال عندنا.. ياللي أنا وأنت..بنحب بعضنا” وغير ذلك. أليست أغنية مثل “أديها في الكانيش تقول ما خدتش” تمثل عودة إلى هذه النوعية من الكلمات.. والأغاني؟
محفوظ: لا. أغاني الماضي أرحم كثيرا من الأغنية التي قلتها انت الآن. ثم أن ما ذكرته انت نقلًا عني خلال الثلاثية لم يكن وحده هو اللون الغنائي المسيطر. لقد كان هذا هو غناء “العوالم“. أما الغناء الذي ذكرته أنت نقلا عن الواقع ومن أشرطة الكاسيت فهو الغناء السائد والمسيطر والمتداول عبر أشرطة الكاسيت وفي متناول يد مسامع الجميع.
الغناء الذي بالثلاثية كان أشبه بالغناء السري، يردده الناس في بيوتهم في لحظات سرورهم وسعادتهم.
الدسوقي: أستاذنا، منذ أيام قليلة قال لي قاض كبير بدرجة مستشار إنه فوجئ بابنته الصغرى تأتي من الخارج وتسأله بكل براءة عن معنى كلمات “أديها في الكانيش تقول ما خدتش“. وقد صعق الرجل لدى سماعه للكلمات وسألها: أين سمعتها؟ فقالت له “من شريط لدى صديقة لي” فصرفها من امامه بقسوة وأدركته الحيرة.
في روايتك “السفر” نجد “عائشة” البنت الصغيرة تغني في بيت جدها وأمام الأسرة كلمات تقول “حول من هنا وتعالى عندنا..ياللي انا وانت بنحب بعضنا” وحين تكبر عائشة وتقع في الحب تغني لها أختها خديجة “يابو الشريط الأحمر..ياللي أسرتني أرحم ذلي“! أليس ما سمعته تلك الفتاة أشبه بما ذكرته في أغانيك؟
محفوظ: لا.. ما كان يغنى في الماضي كان أرحم. ثم لا تنس أن الوقت الذي دارت فيه أحداث الثلاثية فيه أنواع مختلفة من الغناء؛ غناء خفيف تؤديه “العوالم” في الافراح والليالي الساهرة التي تقيمها الأعيان، وغناء جاد كان يؤديه كبار المطربين في الأفراح وبعض الحفلات العامة التي كانت تقام في المسارح والصالات. كان هناك مطربون ومطربات عتاة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. مثل صالح عبد الحي، عبد الحي حلمي، زكي مراد، منيرة المهدية والشيخ زكريا أحمد والشيخ يوسف المنيلاوي.
وإلى جانب هؤلاء وغيرهم كان هناك أيضا الغناء المسرحي من خلال الأوبريتات الغنائية/المسرحية التي كان يقدمها الشيخ سلامة حجازي والفرقة الخاصة به وكانت هناك فرقة “علي الكسار” المسرحية. ومن خلال عروض هذه الفرقة حضرت المغني المشهور الذي كان يردد أغاني سيد درويش الفنان حامد مرسي بالإضافة إلى الموسم الأوبرالي الذي كان مقصورا على الأجانب وبعض المصريين. وكانت الأغاني في ذاك الوقت تنتشر بقواها الذاتية فقط، فلم يكن هناك بعد إذاعة أو سينما أو تلفزيون أو ميكروفون ولو أن إختراع الإذاعة تأخر قليلا لما كنا استمعنا أو استمتعنا بالشيخ محمد رفعت وجمال صوته وعبد الحليم حافظ و روعته. صحيح أنه كانت هناك اسطوانات “مونوغراف” ولكن وجودها كان محدودا جداً ومقصوراً على الأثرياء فقط.
أما أغاني “حول من هنا وتعالى عندنا” أو “انت المدام يا روحي انستنا” وكل النماذج التي ذكرتها. فهي من غناء “العوالم“.
الدسوقي: العوالم فقط، أستاذ نجيب؟
محفوظ: نعم، ولكن أحيانا كان المطربون الكبار مثل من ذكرتهم يختمون سهراتهم الجميلة بهذا النوع من الغناء الخفيف الذي كان يسمى بالطقاطيق. ولا تنس أن أغنية مثل “أرخي الستارة اللي في رحنا لحسن عيون جيرانك تجرحنا” كانت تتغنى بها منيرة المهدية.
الدسوقي: برأيك ..هل كانت هناك ضرورة أدبية من وجهة نظرك لإدخال هذه الأغاني على أحداث الثلاثية؟
محفوظ: أنا ادخلت تلك الأغاني والطقاطيق بين أسطر وأحداث العمل الأدبي، وجعلت أبطال العمل يرددونها بصفتهم من الشعب المصري المحب للغناء فقط. الأغاني الشهيرة ظاهرة منتشرة في مصر على مدار تاريخها الطويل وحتى الآن. وأنا لم أقم بغزل كلمات الأغاني بأحداث رواياتي في الثلاثية فقط. ولكن حدث ذلك في كل رواياتي “قصر الشوق” و“خان الخليلي” و“صباح الورد” و“ميرامار” و“السكرية” و“الباقي من الزمن ساعة” و“السراب” و“المرايا” و“يوم مقتل الزعيم” و“الحب فوق هضبة الهرم” وحتى في “التنظيم السري“.
الدسوقي: قرأت كل هذه الروايات وتوقفت مدهوشاً أمام كل ما ذكرت من أحداث غنائية، وكثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي لماذا هذا التركيز على أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وزكريا أحمد؟ وكنت أقول: أنه حب الغناء وعشق الطرب. ولكن بمرور الوقت اتضح لي انه بجانب العشق هناك الصداقة مع هذه الرموز الجميلة؟
محفوظ: ربما كانت هناك صداقة ولكنها لم تكن هي كل شئ. حب الغناء وعشقه هما بالأساس كل شئ لأن صداقاتي الفنية كانت محدودة ولكن عشقي للغناء والأصوات كان بلا حدود، وقد بدأ مشواري الفني بداية شعبية عامة تمثلت في الحكايات التي سمعتها من والدي وهي حكايات أشبه الأساطير. وكانت البداية سينمائية فقد وقعت في غرام السينما وأدمنت الذهاب إلى السينما “الكلوب المصري” في الجمالية، ومن خلال “الفونوغراف” الذي كنا نملكه سمعت لأول مرة أصوات منيرة المهدية ويوسف المنيلاوي والشيخ صالح عبد الحي وقد استمعت إلى أغاني سيد درويش من الشارع، ومن مسارح روض الفرج التي كانت تعيد رواياته التي كنت أذهب لمشاهدتها مع أبي أو أخي الاكبر ولكني لم أره لأنه مات عام 1923. وكنت أنا في الثانية عشر من عمري، أما أول فنان كبير عرفته فهو المرحوم “مدحت عاصم” الذي كان من وجهاء العباسية وكان بيته صالونا فنيا يجتمع فيه أهل الفن. وكان “مدحت عاصم” شيئا كبيرا ومهما في دنيا الموسيقى والغناء.
أما الفنان الراحل “عبد الحليم نويرة” مؤسس فرقة الموسيقى العربية والمؤلف والملحّن الموسيقي فهو من أصدقاء طفولتي وجار لي في الحي. ومن سكان الحي أيضا كان زكي مراد وابنته ليلى وأشقاؤها. وكنا نستمع الى عزف الأب وغناء البنت كثيرا في الليالي الجميلة.
وقد تعرفت وصادقت الفنان الكبير زكريا أحمد. ومن خلاله عرفت جيدا الشيخ سيد درويش. ثم تعرفت إلى الشاعر بيرم التونسي حين عملنا معا بفيلم “ريا وسكينة” ولكن لم تجمعنا صداقة قوية. كنت احترمه جدا.
أما عبد الغني السيد، فقد عرفته وأحببته. كان محدثاً لبقاً ومتألقا، خصوصا حين يتكلم عن أستاذه محمد عبد الوهاب.
الدسوقي: وأم كلثوم ..أستاذ نجيب التي قلت عنها الكثير في رواياتك؟
محفوظ: أم كلثوم.. أنا قلت عنها الكثير لأنها تستحق. فهي صوت عبقري وهبة إلهية. وصوتها وغناؤها من العوامل الأساسية التي أدخلت على نفسي وقلبي الإنشراح والسرور. ولا شك أنها كانت –وما زالت – ساحرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة. والمؤكد أن هذا السحر المنطلق منها ومن صوتها كان له الأثر الكبير في إقبالي على عملي الأدبي والنجاح فيه. فشكرا لها.
الدسوقي: علاقتك بها هل هي قديمة؟
محفوظ: نعم. علاقتي بصوتها علاقة قديمة، فقد بدأت أسمعها عن طريق الاسطوانات بين عامي 26 و27. وقد اقتنعت بها منذ أول سماعي لها. ولكن في البداية كنت قد سمعت من بعض الأصدقاء إعجاباً بها قبل ان أسمعها بعدما استمعوا إليها في بعض الأفراح، وقال لي أحدهم أن صوتها أجمل من صوت منيرة المهدية. وبما أني كنت من عشاق صوت “منيرة” فقد هالني الحكم! و لم أتصور ابدا أنه صحيح، حتى استمعت إلى واحدة من اسطواناتها فاقتنعت بها تماما وأصبحت من عشاقها وبدأت اسمعها بانتظام أواخر المرحلة الثانوية وبداية الجامعة وكانت على ما أذكر تغني في سينما اسمها سينما (جوس بالاس) حيث كنت مواظباً على حضور حفلة السبت. أما عن صداقة تربط بيني وبينها فلم تحدث. كانت هناك – فقط – صداقة بين أذني وقلبها وقد التقيتها مرة واحدة فقط وجهاً لوجه وذلك حين دعانا الاستاذ محمد هيكل للحفل الذي أقامه في الاهرام بمناسبة عيد ميلادي.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”657″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”height”:”321″,”typeof”:”foaf:Image”,”width”:”450″}}]
(محفوظ بين توفيق الحكيم وأم كلثوم في احتفال جريدة الأهرام بعيد ميلاده الخمسين)
الدسوقي: أستاذنا الكبير..وأنت تستعيد الذكريات وتروي ما قاله لك أحد اصدقائك عن أم كلثوم وكيف أدهشك هذا الرأي، تذكرت لك لوحة درامية قمت برسمها انت في المرايا ذكرت فيها هذه الحادثة ولكن مع تغيير المكان والشخصيات. لقد كتبت تقول: قال لنا سرور عبدالباقي: “سمعتها في فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية” فكبر علينا ذلك وقال جعفر خليل: “صوت منيرة المهدية يعلو ولا يُعلى عليه” وأعتقد ان جعفر خليل هذا هو انت؟
محفوظ: ممكن. وقد طرحت كل الآراء التي قيلت فيها لدى ظهورها عبر (الثلاثية) و(خان الخليلي) و(ميرامار) وغيرهم من رواياتي وأعطيتها حقها كاملاً وطبعا، كان لابد للأذواق أن تتفرق وتختلف. منهم من يرحب بها ومنهم من يعارضها، ولكني أعتقد أن سلاح أم كلثوم الأولي الذي استعملته في معركة إثبات وجودها هو احترامها لنفسها وفنها واختيارها للكلمات الجميلة الجيدة. الكلمة كانت اهم شئ بالنسبة لها وقد غنت على ألحان (وحشة) ولكنها لم تغن كلمات هابطة أبداً. وقد نجحت أم كلثوم دائما بصوتها، فهي صوت عظيم جداً. لحّن لها البعض ألحانا عظيمة فتألقت والبعض الآخر أعطاها ألحاناً متوسطة. وقد أدركت قيمتها من خلال هذه النوعية الأخيرة من الألحان لأنها وعبر موهبتها وقدراتها الفذة تمكنت من إنجاح هذه الاغاني (الوحشة). صوتها كان قوياً، مرناً، يؤدي بعظمة وشموخ. واختيارتها كانت قوية وشامخة ايضا.
الدسوقي: عبدالوهاب، ومن خلال حبك له، هل أعطى الكلمة الاهتمام الذي أعطاه للحن؟
محفوظ: لا. كان عبدالوهاب يعتقد أن اللحن هو الأهم لأنه كان ملحناً أولاً. وهو كملحن كان يجد الفكرة الموسيقية أولًا ثم يبحث لها عن كلمات. عبدالوهاب الملحّن كان يسبق عبدالوهاب المطرب.
الدسوقي: قبل قليل قلت لي أن الفن يزدهر في أثناء الثورات وفي الفترات التالية لها وينتكس في الانهيارات. وبما أن الحادث الغنائي الآن شئ لم يسبق له مثيل فهل يمكن ان تقول أننا نعيش زمن انهيار؟
محفوظ: طبعا نحن نعيش زمن انهيار وليس انهياراً واحداً. هناك افتقاد القدوة والزعامة والمشروع القومي. اليوم كل إنسان له شعاره ومشروعه الخاص. إرجع بذاكرتك إلى فترة الستينات وبناء السد العالي وكلمات وأغاني تلك الفترة، وإلى ثورة 1919 فتجد أن الفن كان موجوداً في الصفوف الأولى، بدليل ظهور نشيد (بلادي بلادي) لسيد درويش وغيره من الأغاني الجميلة. بعد 1952 شهد الغناء نهضة كبرى أيضا افرزت روائع كثيرة وعديدة، وازدان العصر بمواهب غنائية رائعة مثل عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وفايزة ونجاح سلام وغيرهم. وعلى الرغم من ظهور وسيطرة هؤلاء، إلا أن استمرارية المسيرة الفنية كتبت اللون الخفيف في شكل المونولوجات والطقاطيق التي كانت تؤديها ثريا حلمي وشكوكو واسماعيل ياسين وغيرهم. ولكن للأمانة تميز هؤلاء بعدم السقوط في مستنقع الالفاظ الجنسية الرديئة التي كانت منتشرة وقتها وزاد انتشارها الآن. ويمكنني أن أقول أن أغاني هؤلاء وأصواتهم أروع وأحلى من أصوات من يغنون اليوم ويطلقون على انفسهم لقب مطربين.
الدسوقي: الكل يجمع على أننا نعيش عصراً غنائياً هو الإسفاف بعينه، خصوصاً في مجال الكلمة، لدرجة أن الكل يؤكد على ان المقارنة بين الماضي والحاضر مقارنة ظالمة. فعصر (فاكر يوم ما عضتني العضة) اكثر احتراماً من (الواد ده حلو سابق سنه) و(وله يا حبيبي) و(أموت في دباديبو) و(لون عيونه) و(بونو بونو) …يا لطيف. كمعاصر لكل هذه العصور الغنائية.. ما رأيك؟ وأيهما أكثر رداءة وهبوطاً برأيك؟
محفوظ: أولاً لا يمكنني المقارن لأن النتيجة واضحة تماماً. ثم أنه لا تصح المقارنة إلا بين نوعيات متماثلة ومتوائمة. فالفارق كبير جداً بين الكلمات التي كانت تغنى في الزمن الماضي وما يُغنى الآن. فمثلاً الغناء الجاد كان يقوم بإبداع كلماته شعراء كبار مثل أحمد شوقي، أحمد رامي، بيرم التونسي، عبدالفتاح مصطفى، صلاح جاهين، مأمون الشناوي، مرسي جميل عزيز، حسين السيد، وعبدالوهاب محمد وغيرهم. أما الآن فمن يكتب الكلمات التي ذكرتها انت الان؟ المعروفون منهم ليسوا في منزلة أو موهبة القدامى على الاطلاق. وعلى فكرة، غناء هذه الايام كله يسير على درب طقاطيق زمان التي كانت تقال في اماكن اللهو والسهر والفرفشة، وإن كنت أرى أن بعض الأغاني الآن أصبحت كلماتها أشد جرأة وحدّة في الألفاظ الجنسية الصارخة وإن كانت مغموسة في اللف والدوران.
الدسوقي: والسبب من وجهة نظرك؟
محفوظ: أعتقد أنه التليفزيون. لذا نحن لدينا اليوم نوعان من الغناء، غناء سري وآخر علني. الغناء السري هو غناء الكاسيت، والعلني هو غناء التليفزيون. وقد تحولت التاكسيات وعربات نقل الركاب الى بديل طبيعي من الأماكن الخاصة والمغلفة التي كانت تؤدى وتقدم فيها اغاني (فاكر يوم عضتني العضة) وكانت الأفواه والآذان تتناقل هذه الكلمات الممنوعة، والآن أصبحت عربات الميكروباص هي المكان الطبيعي لهذا الغناء. وأنا لا أنتظر من الأصوات الموجودة اليوم غناءً أفضل من هذا. فكلهم اصوات كومبارس من حسن حظهم وسوء حظنا. عموماً فإن أصواتهم والكلمات التي يتفوهون بها مناسبة للزمن الذي نعيشه.
الدسوقي: أستاذنا الكبير..هل أنت مستمع جيد لكل ما يقدم الآن من غناء؟
محفوظ: لا. لست المستمع الجيد الذي تقول عنه، بمعنى أنني لا أضبط نفسي كي أستمع إلى أغنية. فالسمع الخاص بي بات ضعيفا الآن ولكنني استمع بالمصادفة حين أركب تاكسي أو أجلس أمام التليفزيون. وغناء اليوم أشبه بالكاريكاتير الساخر الذي يضحك الناس على أنفسهم. إنه غناء مريض وكلماته رديئة. وإذا كان هذا هو الواقع الآن، يجب أن نتفاءل وننتظر خيراً في الأيام المقبلة.
الدسوقي: على أي أساس نبني هذا التفاؤل؟
محفوظ: على أساس التجربة التي تقول لنا أن هذا اللون كان موجودا دائما ويسير في خط الاضحاك والترفيه والتسلية، ككوميديا الفارس أو الهزليات، وكان مكانه الدائم والمفضل هو الصفوف الخلفية، والربط بين فقرات الغناء الحقيقي الذي كانت تقدمه كبار النجوم كونه تقدم الصفوف الآن وصار هو المسيطر. وهذا تقدم مؤقت.
الدسوقي: أرى أن تفاؤلك تحول إلى تأكيد قوي وحاسم؟
محفوظ: طبعاً. لأن حالاً كهذه لا يمكن أن تستمر. فعلى أرض تتألق عليها أشعار شوقي وبيرم ورامي وعبد الفتاح مصطفى ومرسي ومأمون وأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وليلى مراد، لا يمكن أن يكتب للحادث استمرارية. وأنا حزين لأن الكلمات أصبحت هكذا والألحان لم يعد لها أصول. ولا أعتقد أن موسيقانا العربية الجميلة التي قامت على أشعار وكلمات عظيمة يمكن أن تنتهي إلى هذا الوضع المؤسف والمأسوي، فغناء اليوم لا لون ولا طعم ولا جذور له. ولكني أعود وأقول انني مؤمن بالتجربة وأرجع كل شئ لها. لذا أقول ان كل هذه تجارب، ويجب أن نترك كل تجربة تعبر عن نفسها وننتظر. هل سيكتب لها الاستمرارية أم لا!
الدسوقي: ولكن البعض يؤكد بل يراهن على استمرارية الوضع الحالي بكلماته وإسفافه؟
محفوظ: هذا شئ يمكن تسميته “الفكاهة والتندر” لأنه لا يمكن أن ينتهي الحال الغنائي إلى هذا الوضع المؤسف. فكل هذه الأشياء مثل “قزقزة اللب“. وأنا أعتقد أن غناء الماضي كان مثل “بوتيك فخم وضخم” فيه الدسم والمشهيات، ولكن الآن لا يوجد غير المشهيات فقط. السيطرة الآن لـ” اللب والسوداني والقزقزة والكلمات والأغاني والألحان المسروقة والمسلوقة. وأنا أندهش كثيرا حين يتوقف بعض الجادين ويسألون.. لماذا ظهرت هذه الأشياء!؟ وأنا أقول ما دامت الكلمات والأصوات قد ظهرت، كان لابد لها من ذلك الظهور لأنها ببساطة، كانت موجودة دائماً، ولكن في الصفوف الخلفية. وحين اختفت أم كلثوم بعظمتها ولحق بها عبد الحليم بحضوره الطاغي، ظهرت هذه الأصوات الرديئة لأنه لم يعد هناك غيرها على الساحة.
الدسوقي: الحادث الآن بكل ما له وما عليه من سيطرة تامة للإسفاف والهبوط وغياب للريادة السماعية، هل له مثيل في زمن مضى كنت شاهداً عليه يمكن الرجوع إليه لدى المقارنة؟
محفوظ: لا اعتقد أن هناك عصرًا يسبق العصر الحالي على الإطلاق. هناك ما يقارب الوضع الحالي فقط، وأقصد به العهد الأول للغناء المعروف باسم “عهد الحامولي وألمظ” فالحامولي كان هو قمة الغناء الجاد، ولكن في زمن وجود دولته وسيطرة صوته كانت هناك من تغني “خدني في جيبك بقى… بين الحزام والمنطقة” والناس كانوا يسمعون الحامولي ويرفهون عن أنفسهم بتلك الأشياء. كان الاثنان موجودين فلم يقل أحد أن الجاد يطرد الترفيه.
الدسوقي: ويضحك الروائي الكبير ويقول:
محفوظ: المشكلة اليوم أن الغناء كله أصبح “خدني في جيبك بقى“.
الدسوقي: ومتى نخرج من هذه المنطقة المظلمة ويتم إستعادة التوازن وتعود الأمور كما كانت في فترات الازدهار الفعلى أي فترة “أراك عصي الدمع” و“الكرنك” و“قارئة الفنجان“؟
محفوظ: متى!؟ الله أعلم. لكن لابد من ان تتم استعادة التوازن الفني ذات يوم وترجع الامور الى صورتها الطبيعية وإن كنت أرى أن الفترة الحالية ترتفع فيها اللامبالاة والمعاناة والرفض الدائم للجدية والجديد من الفن الجيد، في حين أن الماضي تميز بوجود الجاد ولكن اختفى الجيد الآن ولم يعد بالساحة سوى الرديء والسبب في ذلك هو أن “السميع” نفسه اختفى نتيجة لأشياء كثيرة جدا. وقد تزامن هذا مع اختفاء “أساطين” ونجوم الغناء الكبار الذين كانوا يقاومون الحالة الهبوطية، وفكان ذلك بمثابة ضربة قاضية للأغنية.
الدسوقي: أنت بكلماتك الأخيرة تقضي على نبرة التفاؤل التي تتميز بها دائما. دعنا نتمسك بالأمل والتفاؤل التي تتميز بها دائماً. دعنا نتمسك بالأمل والتفاؤل وأسألك عن الدور الذي يمكن أن يقوم به الموجودون على الساحة الآن من بقايا الجدية والإجادة سواء كشعراء خصوصاً، أو كملحنين عموماً؟
محفوظ: الأمل فيهم كبير لأن الجمهور ينتظرهم ويتلهف إلى سماع الطرب الجيد. وفي المقابل لابد من أن يشعر هؤلاء القيمون على ساحة الغناء بالمساندة والتشجيع.
الدسوقي: معنى ذلك أن الكرة الآن أصبحت في ملعب الجمهور الذي ألقيت عليه مسؤولية الإحياء كاملة؟
محفوظ: نعم، والمسؤولية تقع على عاتق الجمهور وعلى كتاب الكلمة من الشعراء. ولكني أؤكد وبقوة على دور الجمهور في العملية الغنائية. فلو أحس صناع الأغنية أن هناك تعطشاً للأغنية الجادة. لكان المؤلف الجيد قد ظهر وتألق. وكذلك الملحّن الجيّد، ولكن صناع الأغنية يتراجعون حين يرون أن الجّاد الهادف ضائع تماماً بجانب الرديء والهابط.
الدسوقي: ما هي دلالات أو مغزى هذه الكلمات الرديئة لدى دارس الموسيقى ولدى أديب ذواقه اسمه نجيب محفوظ؟
محفوظ: انظر يا عزيزي، كل كلمة من كلمات أغاني هذه الأيام لها أكثر من دلالة وأكثر من مغزى سواء أكانت جادة أم هابطة أم مبتذلة. والأغاني التي نسمعها الآن ممن يسمّون أنفسهم مطربي، وماهم بمطربين على الإطلاق، أشد تعبيراً عن الفترة الحالية التي نعيشها الآن بكل متناقضاتها.
شكر لكل من: أكرم الريّس، وأحمد كمال على المساهمة في استعادة النص الأصلي وإعادة طباعته.